(جندي إسرائيلي يقوم بدورية في أحد شوارع غزة المحتلة في 21 أكتوبر 1973، خلال “حرب يوم الغفران”)
*
خاص بـ”الشفاف” ـ ترجمة “الشفاف
ذكّرنا الزلزال السياسي-العسكري الذي وقع في 7 أكتوبر/تشرين الأول بمدى وهم الرغبة في استبعاد قطاع غزة إلى أجل غير مسمى من المعادلة الإسرائيلية ـ الفلسطينية.
كانت غزة، لقرون عديدة، واحة مزدهرة، ومنفذا للقوافل القادمة من شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأبيض المتوسط، ومفترق طرق بين آسيا وأفريقيا. هذا الموقع الاستراتيجي على مفترق الطرق جعلها، أيضًا، نقطة انطلاق للغزاة القادمين من الشرق الأوسط للاستيلاء على مصر، مثل العثمانيين في عام 1516.
وعلى العكس من ذلك، فإن أي حلم عام بالاستيلاء على الشرق الأوسط من مصر كان لا بد أن يضمن السيطرة على غزة. كان هذا هو حال نابليون بونابرت عام 1799، الذي اضطر بعد ذلك، بعد هزيمته أمام أسوار عكا، إلى العودة خالي الوفاض إلى القاهرة، دون المرور بغزة مرة أخرى.
ومن ناحية أخرى، في عام 1917، انتصر الجنرال اللنبي في « غزة » على الجيش العثماني، الذي أشرف عليه ضباط ألمان، وبالتالي فتح الطريق أمام القوات البريطانية إلى القدس ، التي تم احتلالها بعد شهر. لكن الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 غيرت هذا الوضع تماماً من خلال إنشاء “شريط” من الأراضي تبلغ مساحته 360 كيلومتراً مربعاً حول غزة، أي ما يعادل 1% من فلسطين التي كانت حتى ذلك الحين تحت الانتداب البريطاني.
الاحتلالان الإسرائيليان
انضم بعد ذلك إلى سكان غزة البالغ عددهم 80 ألف نسمة حوالي 200 ألف لاجئ فلسطيني. ويركز قطاع غزة الآن في أراضيه الضيقة ما يقرب من ربع السكان العرب في فلسطين. وهو أيضًا المنطقة الوحيدة من فلسطين الانتدابية التي لم يتم دمجها في دولة إسرائيل الفتية ولم يتم ضمها إلى الأردن، لأن مصر قررت فرض إدارتها العسكرية هناك، ولكن من غير أن تزعم أن غزة جزء من أراضيها.
أدرك ديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، في وقت مبكر جدًا خطر وجود مثل هذا الجيب على حدوده الغربية. وفي عام 1949، اقترح ضم غزة لإعادة توطين 100 ألف لاجئ داخل إسرائيل نفسها. وأثار هذا الاقتراح، الذي رفضته مصر، ضجة كبيرة في إسرائيل. وأصبحت « غزة » فعلياً مهد « الفدائيين »، كما أُطلق على المقاتلين الفلسطينيين في حينه. أتاحت أزمة السويس عام 1956 لديفيد بن غوريون الفرصة للاحتلال الأول لغزة، الذي استمر لمدة أربعة أشهر، وبلغ عدد القتلى ألف فلسطيني (أي وفاة واحدة لكل ثلاثمائة من السكان).
بعد هذه الصدمة، عاد قطاع غزة تحت سيطرة مصر، التي قمعت أي تسلل للفدائيين، حتى انهيار الجيوش العربية خلال حرب الأيام الستة عام 1967.
عند عودتها إلى غزة، واجهت إسرائيل حرب عصابات منخفضة الحدة لمدة أربع سنوات، سحقها آرييل شارون أخيراً. لكن حتى هذا الجنرال المنتصر أكّد أن المنطقة لن تهدأ بشكل دائم إلا بعد عودة رمزية على الأقل للاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل.
وبعد هذه الصدمة، عاد قطاع غزة تحت سيطرة مصر، التي قمعت أي تسلل للفدائيين، حتى انهيار الجيوش العربية خلال حرب الأيام الستة عام 1967.
وواجهت إسرائيل، عند عودتها إلى غزة، حرب عصابات منخفضة الحدة لمدة أربع سنوات، ثم سحقها أرييل شارون أخيراً. لكن حتى هذا الجنرال المنتصر يؤكد أن المنطقة لن تهدأ بشكل دائم إلا بعد عودة رمزية على الأقل للاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل.
وسرعان ما نُسيَ ذلك الاقتراح، في حين حبّذت سلطات الاحتلال « إسلاميي » الشيخ ياسين في غزة من أجل تحييد « قوميي » منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. ومع ذلك، ففي غزة اندلعت انتفاضة عام 1987، “الانتفاضة” غير المسلحة للشباب الذين لم يعرفوا سوى الاحتلال، والتي أجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على تأييد حل الدولتين، تحديداً من أجل وضع حد لهذا الاحتلال.
وفي معارضة صريحة لعملية السلام، قام أنصار الشيخ ياسين بتأسيس حركة « حماس »، وهي اختصار عربي لحركة المقاومة الإسلامية، والتي كرست جهودها لتدمير إسرائيل.
مفتاح الحرب أو السلام
عندما وقع رئيس الوزراء إسحق رابين على اتفاقيات أوسلو مع عرفات في العام 1993، كان يريد قبل كل شيء تحرير الجيش الإسرائيلي من مستنقع غزة. لكن السلطة الفلسطينية لا تسيطر إلا على ثلاثة أرباع هذا الجيب المكتظ بالسكان، بينما يسيطر ثمانية آلاف مستوطن إسرائيلي والجيش الذي يحميهم على الربع المتبقي.
وكانت الانتفاضة الثانية، التي اندلعت عام 2000 وتميزت بهجمات انتحارية شنتها جميع الفصائل، قاتلة بشكل خاص في غزة. وانتهت في عام 2005، بعد مقتل نحو ثلاثة آلاف فلسطيني مقابل ألف إسرائيلي، بانتصار إسرائيلي أكمله شارون، رئيس الوزراء الحالي، بانسحاب قواته من غزة.
وهذا الإخلاء هو نظير في غزة لبناء جدار عازل في الضفة الغربية. وتهدف هذه الخطة، التي تم اتخاذها وتنفيذها دون التشاور مع محمود عباس، خليفة عرفات، إلى دفن أي عملية سلام من خلال سحب القوات الإسرائيلية إلى الحدود الأمنية التي تعتبر أكثر ملائمة. واحتفلت حماس بهذا الانسحاب الإسرائيلي باعتباره نجاحا لـ “مقاومتها الإسلامية” وطردت منظمة التحرير الفلسطينية من قطاع غزة في عام 2007، بعد حرب أهلية بين الفصائل الفلسطينية خلفت مئات القتلى.
تعتقد إسرائيل، التي يقودها بنيامين نتنياهو من عام 2009 إلى عام 2021، والذي عاد إلى السلطة منذ ديسمبر 2022، أنها وجدت في الحصار المفروض على غزة الصيغة المثلى للسيطرة غير المباشرة على القطاع الإسلامي. ومن المؤكد أن الصراعات تندلع على فترات منتظمة حول هذه المنطقة التي يتجمع فيها أكثر من مليوني مدني. لكن نسبة الخسائر الساحقة لصالح إسرائيل تظل مستدامة للغاية من وجهة نظرها، خاصة وأن حصار حماس في غزة يشجع على استمرار استعمار الضفة الغربية.
المأزق الثلاثي
في ختام كتابي “تاريخ غزة” في عام 2012، حذرت مع ذلك من مأزق ثلاثي: المأزق الأمني، الذي حبست فيه إسرائيل نفسها من خلال تقديم رد عسكري صارم على التحدي الذي تفرضه غزة؛ والمأزق الفلسطيني، حيث حبس عباس وحماس أنفسهما فيه من خلال تعزيز معقليهما في رام الله وغزة؛ المأزق الإنساني، حيث حبس المجتمع الدولي نفسه برفض التعامل مع غزة من الناحية السياسية.
ومن ناحية أخرى، اقترحتُ في عام 2012 بديلاً للثلاثة: فتح غزة، والتنمية الاستباقية لهذه المنطقة، ونزع سلاح الميليشيات الإسلامية.
مثل هذه المقترحات لم تؤخذ في الاعتبار على الإطلاق. وكان من يطلق عليهم “الواقعيون” يفضلون إدامة ما يُشبه « الوضع الراهن » باسم استقرار وهمي بنفس القدر. هذا البيت من الورق هو الذي انهار في رعب السابع من أكتوبر. إن عملية السلام التي تعطي غزة مكاناً مركزياً هي وحدها القادرة على وقف الحرب الجديدة التي تشنها حماس من غزة.
*جان بيير فيليو، أستاذ جامعي في « كلية العلوم السياسية » الشهيرة في باريس