كنت ولا أزال من المقتنعين بأنه إذا كنا نتطلع إلى الاسترشاد بتجارب الأمم الأخرى في أي ميدان من ميادين العلم أو المعرفة أو التنمية، فلنسترشد بتجارب الأمم الناجحة والمتفوقة فعلا في تلك الميادين، بمعنى ألا نندفع تحت ضغط العواطف الدينية أو القومية نحو تجارب أمم لم تحقق في الواقع شيئا يمكن الاستفادة منه، وإنما ضجيجها وقوة آلتها الإعلامية خلقت لها هالة زائفة وصيتا كاذبا. وبالمثل، كنت ولا أزال من المؤمنين بأن على صانع القرار الرسمي أو الأهلي في المستويات المختلفة – إن اضطر إلى استقدام وتوظيف المستشارين من غير المواطنين، فليكن هؤلاء من بلاد أثبتت نجاحات مشهودة في المجال الذي يتطلب الاستشارة، وليس من بلاد متخلفة في ذلك المجال. فالقاعدة تقول: إن فاقد الشيء لا يعطيه! والمنطق يقول: ما فائدة اخذ المشورة من أناس لم يستطيعوا إصلاح الأحوال في بلدانهم قيد أنملة! فمثلا ماذا يمكن أن يقدم شخص جيء به للعمل كمستشار لتنمية الديمقراطية أو الإصلاح الإداري، من بلد لا يعرف له تجربة ديمقراطية راسخة، أو تجربة رائدة ومعترف بها في الإدارة، بل تجربتها الإدارية ملطخة بصور الفساد والمحسوبية والتسيب والبيروقراطية والبطالة المقنعة وغير ذلك من الأمراض.
قلنا مثل هذا الكلام سابقا وكررناه مرارا من منطلق حبنا لأوطاننا الخليجية وخوفنا عليها من علوم واستشارات وتجارب متخلفة أكل الدهر عليها وشرب، ولا صلة لها بما يجري في هذا العصر والكون ، ولا يمكن لها أن تضيف جديدا إلى ما حققته أوطاننا من تراكمات حضارية في العقود الأربع الماضية. ويبدو لي أن صناع القرار- أو هكذا أحسب – قد أدركوا هذا واستوعبوه مؤخرا، بدليل الحدثين غير المسبوقين اللذين سنأتي على تفاصيلهما في السطور التالية:
ففي السعودية، التي لم يعرف عنها إسناد المناصب العليا في أجهزتها التعليمية العليا إلى أجانب – باستثناء حالة جامعة الملك سعود التي تولى رئاستها عند التأسيس عام 1957 ولفترة محدودة المصري د.عبدالوهاب محمد حسن عزام، أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود قرارا في يناير الماضي يقضي بتعيين رئيس جامعة سنغافورة الوطنية البروفيسور “تشون فونغ شيه” كرئيس مؤسس لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وهي الجامعة التي ينتظر افتتاحها رسميا في سبتمبر 2009 والتي يريدها خادم الحرمين أن تجسد على الأرض طموحاته في رؤية بيئة إبداعية جديدة لإجراء الأبحاث العلمية المتحررة من القيود التنظيمية أو البيروقراطية، وللمساهمة في بناء شراكات هامة عبر المجتمعات والثقافات والقارات، ولاستقطاب الموهوبين من كل أنحاء العالم، وبما يعود بالنفع على السعودية والمنطقة العربية والعالم.
وإذا ما عرفنا الآمال الكبيرة الملقاة على جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا في جدة كمركز بحثي بمواصفات عالمية، فان اختيار البروفسور تشون كان في محله تماما، ليس فقط لكون الرجل ينتمي إلى بلد حقق المعجزات في مختلف مجالات التنمية والمعرفة وصار نموذجا يحتذى به، وإنما أيضا لما تحفل به سيرة الرجل من إنجازات علمية باهرة ونبوغ شهد بهما اكبر الجامعات العالمية واشهرها إضافة إلى كبريات الشركات والمعاهد الهندسية.
وفي هذا السياق يكفي أن نعلم أن تشون المولود في سنغافورة في عام 1945 لأب من بكين الصينية وأم من بينانغ الماليزية، حائز على شهادة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة هارفارد في العام 1973 وماجستير العلوم من الجامعة ذاتها في العام 1970، وانه قضى ثلاث عقود من حياته في الولايات المتحدة أولا كباحث في كلية العلوم والرياضيات في جامعة هارفارد، ثم كأستاذ في جامعة براون الشهيرة، ولاحقا كرئيس لمجموعة أبحاث التصدع في مختبرات شركة ” جنرال الكتريك”. وبسبب هذا التاريخ الحافل وإسهاماته العلمية في مجال ميكانيكيات التصدع غير الطولي وأسليب استخدام الحاسب في تحليل التصدع، ثم بسبب أبحاثه التي تجاوزت 150 بحثا منشورا في كبريات المجلات الأكاديمية المتخصصة، ومساهماته في إعداد التقارير الهندسية التي يصدرها معهد البيانات العلمية الأمريكي، انتخب كأول سنغافوري يحصل على عضوية الأكاديمية الوطنية الاميركية للهندسة. إلى ذلك حصل تشون على العضوية الفخرية في الأكاديمية الاميركية للعلوم والفنون، ومنحته فرنسا وسام فارس من مرتبة “فرقة الشرف”، كما حصل في العام الماضي على جائزة القيادة التي يمنحها مجلس تطوير ودعم التعليم لكبار المسئولين التنفيذيين (وهي منظمة عالمية يشترك في عضويتها أكثر من 3000 مؤسسة علمية ) فصار بذلك أول آسيوي يحصل على تلك الجائزة، واختارته جهات اميركية عدة مرموقة مثل “معهد ماساتشوستش للتقنية” في بوسطون ووكالة علوم الطيران والفضاء الاميركية (ناسا) والهيئة التنظيمية النووية كمستشار لها.
وحينما عاد تشون إلى مسقط رأسه من رحلة التغرب والتحصيل الطويلة، كافأته بلاده بأن عهدت إليه رئاسة جامعة سنغافورة الوطنية ابتداء من عام 1997 كخلف لمواطنه البروفيسور “ليم بين”. وعلى مدى السنوات الثمان الماضية استطاع الرجل أن يحول جامعته إلى واحدة من اكبر الصروح البحثية في قارة آسيا وأكثرها رقيا. حيث حررها أكاديميا وتنظيميا من الطرائق والأساليب المتشددة وغير المرنة الموروثة من نظام التعليم البريطاني القديم لصالح طرائق وأساليب حديثة ومرنة لجهة الاستجابة لمتغيرات العصر ومتطلباته. وهكذا لم يكن من المبالغة إطلاقا ما ذكره وزير البترول والثروة المعدنية السعودي المهندس علي النعيمي حينما وصف الرجل بأنه “صاحب أهداف ومباديء وحس حضاري وثقافي، وأثبت أنه من بناة الجسور بين الشعوب والثقافات، وبين فروع العلم، وبين المعاهد العلمية”.
أما الحدث الثاني غير المسبوق خليجيا، فقد كان قرار سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ورئيس وزرائها وحاكم دبي في الشهر الماضي بتعيين القاضية الماليزية المسلمة “تان سيري داتو سيتي نورما يعقوب” ضمن قضاة محاكم مركز دبي المالي العالمي (وهي عبارة عن محاكم تأسست في ديسمبر 2004 وتخضع لنظام قضائي مستقل وتتمتع بسلطة قضائية فيما يتعلق بالفصل في المسائل والمنازعات التي تنشأ داخل مركز دبي المالي العالمي) لتصبح هذه السيدة بذلك أول قاضية في تاريخ الإمارات والثالثة في تاريخ منطقة الخليج بعد البحرينية منى جاسم الكواري التي عينها ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في عام 2000 كقاضية في المحكمة المدنية الكبرى وضحى إبراهيم الزياني التي عينها عاهل البحرين كقاضية في المحكمة الدستورية في عام 2007. وتعيين السيدة نورما يعقوب كان هو الآخر في محله ويتلاءم مع الوضع الذي بلغته دبي كأسرع مركز مالي في العالم لجهة النمو والتوسع، ناهيك عن تلبيته لطموحات صناع القرار في الإمارات في وجود نظام قضائي يعتمد أفضل الممارسات والمعايير الدولية في تسوية المنازعات المالية.
وكما في واقعة تعيين البروفسور تشون، فان تعيين القاضية الماليزية لم يأت من فراغ. فالأخيرة صاحبة خبرة مشهودة في مجال عملها وتاريخ ناصع في سلك القضاء. فقد كانت قاضية في محكمة الاستئناف والمحكمة الفيدرالية الماليزيتين قبل أن تعمل كرئيسة للقضاة في بلادها، كما كانت من الناشطات وذوات المناصب المرموقة في النقابات القانونية الماليزية. إلى ذلك، نجد في سيرتها الذاتية أنها بعد إكمالها لتعليمها الأولي في مدرسة الملك جورج الخامس في سيريمبان بسلطنة نيغيري، سافرت في عام 1962 إلى لندن التي نالت منها ارفع الدرجات الجامعية في القانون الدولي العام، قبل أن تعود إلى بلادها في عام 1965 لتتدرج في مناصب قضائية متنوعة، ولتحصل منذ عام 1978 على العديد من جوائز التقدير والأوسمة رفيعة المستوى من ملوك ماليزيا، ناهيك عن إرسالها لتمثيل ماليزيا في عشرات المؤتمرات القانونية العالمية.
إن الحدثين اللذين تطرقنا إلى تفاصيلهما في الأسطر السابقة، نرجو أن يكونا انعكاسا لنمط جديد في ما يتعلق بطلب الخبرة والاستشارة، بمعنى التحرر من المعايير والاعتبارات العاطفية والتطلع دوما إلى الاستعانة بأفضل ما في الكون من خبرات وكوادر وتجارب بغض النظر عن جنسياتها ومذاهبها.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين