استكمالاً لما جاء في مقالة سبقت إجازة العيد، تناولتُ فيها كيف شطب ناشر لبناني معروف (الدار العرية للعلوم ناشرون) الرموز المسيحية من روايات ترجمها ونشرها بالعربية لبول سوسمان، تعالج مقالة اليوم كيف ترجم ناشر سعودي (مكتبة جرير) ثلاث روايات لديفيد بالداتشي، وماذا فعل بالنص الأصلي.
بداية، يحق للقارئ العربي معرفة أن بالداتشي نجم كبير من نجوم الرواية البوليسية في الولايات المتحدة، وخارجها، وفي رصيده عشرات الأعمال (نعم، عشرات) التي نالت رواجاً واسعاً في مناطق مختلفة من العالم.
ومن حق القارئ العربي، أيضاً، معرفة أن هذا النوع من الروايات يحظى باهتمام الشباب (العرب، وفي كل مكان آخر) ويعود على الناشر بعوائد مالية مُعتبرة. ولكن من حقه، أيضاً وأيضاً، معرفة أن ما يُترجم إلى العربية (كل ما يُترجم) يمر عبر مصفاة ثلاثة أنواع من الرقابة: رقابة المُترجم، والناشر، والسلطة السائدة. وغالباً، ما تنشأ بينها مجتمعة علاقة تخاطر، وتواطؤ، وغالباً ما يكون النص الأصلي ضحية بامتياز.
لذا، يحق للقارئ العربي الارتياب في كل نص مُترجم. فما يصله لا يعكس في الغالب ترجمة أمينة للنص الأصلي، كلما تعلّق الأمر بالسياسة، والجنس، والدين. وهذه هي أضلاع الثالوث المُحرّم، حسب التعبير البديع للسوري بوعلي ياسين.
يمكن، بطبيعة الحال، الكلام عن الثالوث وأضلاعه من مداخل مختلفة. ولكن ما ينبغي تأكيده (طالما نحن في سياق الكلام عن الترجمة) يتمثل في حقيقة أن كل فعل من أفعال الحياة اليومية لبني البشر، يمثل نوعاً من الترجمة: ترجمة العالم (في المقام الأوّل) بما فيه من طبيعة، وقيم، وثروة، ومعرفة، وسلطة. بمعنى آخر: الوجود فعل من أفعال الترجمة.
للاقتراب من هذا الأمر بطريقة أقصر، يمكننا الاستعانة بفقرة وردت في التمهيد لعقد مؤتمر للترجمة الأدبية في جامعة جزائرية، في أيار (مايو) الماضي: “المترجم ينقل عملاً أدبياً من لغة إلى أخرى مغايرة لها في ألفاظها، وتراكيبها، وتعابيرها، وثقافتها، وتراثها الأدبي، كما أنه يُسبغ على نقله من روحه، وذوقه، وأسلوبه، ويفرغ في إدراكه للنص الأصلي، فهمه لمضمونه، وتفسيره الخاص به”.
هذه عبارة إنشائية. ولو حاولنا التدقيق أكثر سنجد أن المُترجم (إضافة إلى كل ما سبق، وفوقه) يترجم عالماً إلى عالم آخر. وهذا لا يقتصر على الألفاظ، والتراكيب، بل يشمل مكان ومكانة الواقع، والحقيقة، والصدق، والحرية، في عالم النص الأصلي. فإذا لم يكن لأشياء كهذه ما يماثلها، وينسجم معها، في عالم المُترجم والناشر والسلطة السائدة، سقط النص ضحية الرقابة، أي التشويه، والتمويه، والتحريف، والتزييف.
وبناءً عليه، يمكن القول بقدر من الطمأنينة، إن الترجمة في العالم العربي مشروع مستحيل، طالما أن علاقة العربي بالواقع، والحقيقة، والصدق، والحرية، محكومة، ومشروطة، بتابو الثالوث المحرّم.
والآن من التعميم إلى التخصيص، ومن التأويل إلى التمثيل. وهنا سأقارن بين النص الأصلي لرواية بالداتشي “التحكم الكامل”، وترجمة الناشر السعودي (مكتبة جرير) المنشورة بالاسم نفسه. وبما أن المجال لا يتسع لكثير من النماذج سأكتفي بمشهدين، ولن أتناول رداءة الترجمة.
في الفصل الثاني والعشرين (النص الأصلي) تدخل المرأة إلى حجرة، في الحجرة مائدة عليها عشاء لشخصين، وفي وسط المائدة زجاجة نبيذ. وفي النص المُترجم (صفحة 204) طارت زجاجة النبيذ من النص: “رأت سيدني مائدة في أحد الأركان موضوعاً عليها عشاء لفردين. وعلى الرغم من أنه لم يكن لديها شهية للطعام، فإن رائحته كانت مغرية”. جاءت زجاجة النبيذ في النص الأصلي قبل موضوع الشهية، والرائحة المغرية. لا بأس.
وفي سياق المشهد نفسه (في النص الأصلي) راقبت المرأة الرجل يصب كأسين من النبيذ. وفي النص المُترجم (الصفحة نفسها) “نظرت سيدني إليه وهو يملأ كوبين من الشراب الساخن”. طار النبيذ من الترجمة، بل وأصبح “شراباً ساخناً”. ونحن، هنا، أمام احتمالين إما أن المُترجم لا يعرف شيئاً عن النبيذ، ولا الفرق بين الساخن والبارد، والكأس والكوب، أو أنه أراد التضليل فجعل من البارد ساخناً، ومن الكأس كوباً، للإيحاء بأنهما يشربان الشاي، مثلاً. لا بأس.
في الفصل الرابع (النص الأصلي) تعود إلى رأس الرجل في الصباح ذكريات ممارسة الجنس مع زوجته في الليلة السابقة، وكيف اغتسلا سوياً، وظلت رائحة الجنس عالقة في المكان. أما في النص المُترجم (صفحة 36) فنقرأ ما يلي: “ابتسم جاسون عندما مر بذكرياته اللحظات الممتعة التي قضاها مع زوجته، وعلى الرغم من أنه تركها منذ وقت طويل، فإن رائحة عبيرها ما تزال تحيط به”. ولا وجود في النص الأصلي للوقت الطويل، بل فيه عودة الذكريات رغم قصر الوقت. ولم يرد فيه كلام عن اللحظات الممتعة والعبير”.
ليس لدىّ ما يكفي من طول البال للعودة إلى 11 مناسبة وردت فيها كلمة الجنس في النص الأصلي، و15 مناسبة وردت فيها كلمة النبيذ، وكيف طارت أو أصبحت في النص العربي المُترجم.
المهم، أن الترجمة، هنا، لا تعكس مسألة تراكيب وألفاظ، ولا ذائقة، أو مفردات، بل تعكس مكان ومكانة الواقع، والحقيقة، والصدق، والحرية، في عالم المُترجم والناشر، والسلطة السائدة. وهما، أي المكان والمكانة، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالم العربي، إشكاليان في أفضل الأحوال.
لن نفهم استحالة الترجمة، دون التفكير في العلاقة التبادلية بين لغة الحجاب، وحجاب اللغة.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
متاهة أوزوريس”: ما مشكلة الناشر العربي مع الصليب والكنيسة والكهنة والنبيذ؟
حجاب اللغة.. !! (أين اختفى كأس النبيذ.. ورائحة الجنس؟)الامثلة كثيرة على ما ذكرت يا عزيزي وهاك أحدها: كنت في سلطنة عمان في زيارة وأشاهد على تلفزيونها الوطني حلقة من ضمن مسلسل حلقات عن تأثر الاغاني العربية بالموسيقى الأجنبية من إعداد متخصص سوري معروف من عائلة الأتاسي على ما أذكر. وعندما تطرق لأغنية محمد عبد الوهاب ” يا شراعاً “، وهي قصيدة الشاعر العظيم أحمد شوقي ويقول مطلعها: يا شراعاً وراء دجلة يجري في دموعي تجنبتك العوادي سر على الماء كالمسيح رويداً واجر في اليم كالشعاع الهادي وأذاع مقدمة الأغنية ليقارنها بعد ذلك بأغنية غربية، حذف من الأغنية بعملية مونتاج البيت الشعري… قراءة المزيد ..