الفترة ما بين انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحرب السويس في العام 1956، وهنا نتكلّم عن قرابة عقد من الزمن، هي الفترة التي انتقلت فيها الهيمنة الكولونيالية على الشرق الأوسط، عموماً، والعالم العربي، بشكل خاص، من الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية إلى الإمبراطورية الأميركية. لم ينشأ الانتقال على طريقة الاستلام والتسليم، بل اتسم بالصراع بين بين الوارثين والمُورّثين، وصراع الموروثين، أو رهانهم، على هؤلاء وأولئك.
لن نفهم كل ما نعرفه عن عقدي الخمسينيات والستينيات في العالم العربي ما لم نقرأ ملامحه على خلفية ذلك الصراع، وعلى فرضية عالم جديد في طور التكوين. وقد انتهى هذا العالم مع هزيمة القومية العربية الراديكالية، وما تبقى من فلولها، وانتصار الوارث الأميركي وحلفائه.
التذكير بما تقدّم مفيد في الكلام عن الوضع الراهن في العالم العربي، فما يحدث الآن يتمثل في خروج الوارث الأميركي من الشرق الأوسط. بدأ الخروج كفكرة جنينية بعد انتهاء الحرب الباردة، ويتسارع الآن. وإذا كان ثمة من ضرورة للكلام عن لحظة حاسمة في احتلال التفكير في موضوع كهذا مكان الصدارة، فتتجلى في مقالة جيفري غولدبرغ، المنشورة قبل أيام في مجلة أتلانتيك الأميركية، التي أعتقد أنها لم تغب عن نظر أحد من صانعي السياسة في العالم.
في المقالة المنشورة بعنوان “مبدأ أوباما” يقول الرئيس الأميركي إن الشرق الأوسط لم يعد ضرورياً للولايات المتحدة، فلا موارد الطاقة، ولا الإرهاب، ولا الهجرة (ولننس موضوع فلسطين، فهي غير مطروحة على طاولة أحد) تمثل خطراً وجودياً بالنسبة للولايات المتحدة، التي أنفقت الكثير من المال والدم والوقت في مكان لا فائدة ترتجى منه، يفيض بمشاكل غير قابلة للحل، أما البحث عن حل فمسألة تخص هذا المكان وأصحابه.
يمكن، طبعاً، التعليق في معرض الرد على كلام كهذا بالقول إن فقدان الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية لدى السيّد أوباما يبرر وصفه بأوصاف قاسية. ولكن العلاقة بين السياسة والأخلاق لم تكن من فضائل الإمبراطورية الأميركية. فكثير من المصائب التي حلّت بالعالم العربي، والشرق الأوسط، من صنع الوارث الأميركي، منذ الانقلاب على حكومة مصدّق في إيران الخمسينيات، مروراً بالعداء للناصرية، وإخراج جني الجهاد من كهوف القرون الوسطى في أفغانستان، وصولاً إلى المغامرات الفاشلة في أفغانستان والعراق. وأود الإضافة، هنا، أن آخر طلقة في جعبة السيد أوباما، في معرض ترتيب خروج آمن كانت الرهان على حصان الإسلام السياسي.
ومع ذلك، لا فائدة من التذكير بالعلاقة الإشكالية بين الأخلاق والسياسة، فما يستحق النظر، الآن، يتمثل في أمرين: العالم (الجيو سياسي) الذي صنعته الإمبراطورية الأميركية في طور التلاشي. الأمر لا يتم، بالضرورة، على طريقة تشغيل التلفزيون ثم إيقافه بالريموت كونترول. ثمة الكثير من التداخل، والالتباس، والتعقيد، وقد يحتاج الأمر عقداً على الأقل قبل تذويت حقيقة خروج الأميركيين من المنطقة.
ومع ذلك، لا ينبغي حساب توازنات، وقوى، وتحالفات، وسياسة، عالم مضى بلغة ومفاهيم عالم في قيد التكوين. فاللحظة الراهنة انتقالية، وهي حرجة تماماً، فلم تتضح معالم العالم الجديد في الشرق الأوسط بعد، وما نراه الآن يمثل محاولة من جانب قوى مختلفة لحفر الخنادق، وتحشيد القوى، لتضمن لنفسها موطن قدم في العالم الجديد، ولكي لا تدفع من وجودها ضريبة العيش في العالم الجديد.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بطريقة تحشيد القوى، والزحام على ركوب قاطرة العالم الجديد، يبدو العالم العربي في حالة سيولة مطلقة، يتفكك كل ما فيه وينهار، ولا توجد فيه قوّة حقيقية تملك القدرة على ترميم كيان تصدّع. وما يحدث، الآن، أن لغة الصراع في الفترة الانتقالية لا تجد من مخزون للتكيّف مع عالم جديد سوى في التمركزات الطائفية، والعرقية، والمذهبية. وهذا من علامات الانحطاط. لذا، ليس من قبيل المجازفة القول إن ما سيُعرف باسم العالم العربي في المدى القريب والمتوسط لن يكون أكثر من تشخيص لجثة في قيد التحلل، ستختفي بعض الأطراف، وتنبت أطراف جديدة، وتسقط أنظمة، وربما دول وكيانات.
في مقالة غولدبرغ يثني السيد أوباما على نفسه بالقول إنه تمرّد على ثوابت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن اللحظة الفارقة كانت التراجع عن عقاب نظام آل الأسد، بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية. هذا كلام فارغ. في العام 2011 نشر برنارد لويس كتاباً بعنوان “نهاية التاريخ الحديث في الشرق الأوسط” وتكلّم فيه عن حقيقة أن الغرب حكم الشرق الأوسط منذ نهاية القرن الثامن عشر، ولكنه بصدد الخروج الآن. المهم قول لويس إن الفصل الأوّل في كتابه كان عبارة عن ورقة محدودة التداول نشرت في العام 1997، يعني قبل صراخ أوباما “وَجَدتُها” بقرابة عقدين من الزمن. ومحدود التداول تعني أنه وُزّع على صنّاع السياسة والاستراتيجية.
المهم، يعتقد لويس أن سادة الشرق الأوسط الجدد لن يأتوا من الغرب هذه المرّة بل من جهة الصين والهند (بالمناسبة إسرائيل تشتغل على تمتين علاقتها بالصين والهند منذ عقدين، أما العرب فباعوا الهنود والصينيين مقابل دولة مريضة اسمها باكستان) وأن الصينية ربما تحل محل الإنكليزية ذات يوم في الشرق الأوسط.
على أي حال، في الفترة الانتقالية تزدهر حروب الوراثة بين الوارثين والمُورّثين، ويتشبث الغارقون بما تيسّر من حبال الطوائف، والمذاهب، والهواء.
khaderhas1@hotmail.com