إذا كان الموت حقاً علينا جميعاً فان من نِعم الحياة على المرء ان تمنحه صداقات وفرص الالتقاء بأشخاص من طينة المحتفى بهما اليوم.
العزيزان بيار صادق ونصير الاسعد، جمعتني بهما هموم المهنة وهموم الوطن وهما الوافدان الى المهنة والوطن من مسارات مختلفة تمثّل جوهر فكرة التعدد والتنوع في لبنان الواحد.
عرفتُ عن الخواجة بيار قبل عقود من الزمن كيف كان يتوارى خلف الباب الذي يفصل مكتبه عن ديوان الراحل الكبير ميشال أبو جودة ليعرض عليه لوحته التي ستختم صفحات «النهار» في اليوم التالي محدثة التعليق الاول للسياسة وللسياسيين في البلد قبل ان يبتكر انتشاره على شاشة التلفزيون لتصبح لوحته المرئية حدثاً شعبياً.
وتابعتُ كتابات نصير بيك وحركته في ملاعب اليسار الكثيرة اللبنانية العربية والدولية، قبل أن ينسحب بيساره الناشط المثابر والمفكّر المتوهج بالكلمات الى لبنانية لا يحيد عنها والى وطن لا تتقدم مصلحة أي كان على مصلحة أهله.
الأول «خواجة»، كثير الاناقة، قليل الكلام، يترك للوحاته ان تعبّر عن التزامه. خرج من خريطة جبل لبنان السياسية الى لبنان 10452 كلم2 حاملاً ريشته، ترسم للبنان الواحد، والمتصالح مع نفسه ومع محيطه بشروط السيادة والاستقلال.
الثاني «بيك جنوبي» احتفظ دائماً بلياقة البكوات في التصرف وفي الحديث مختاراً بدقة كلماته خاصة حين يعتمد الصوت الخفيض، بينما قلمه يكتب للحرية بالأجرأ من التعابير لتصل الى ساحات النضال من اجل لبنان الواحد السيّد المستقل. لا يساوم على مبدأ ولا يتراجع امام الضغوط مهما بلغت شدّتها.
التقى الخواجة بالبيك عند الرئيس رفيق الحريري، والتزما مسيرته حين صار شهيداً للوطن.
جمعهما لبنان الامل بالعدالة لكل مواطنيه والمواطنة الكاملة لكل مواطنيه. جمعهما لبنان الرافض لذهنية الالغاء والتسلط والهيمنة واختبرا كما اختبر جيلنا رؤية لبنان أكبر من العقائد المتصارعة عليه وأرحب من الأفكار التي تحاول تطويعه لصالحها.
والأهمّ من ذلك، جمعهما صدق الشغف بقضيتهما الوطنية فصارت ريشة الاول لا تعرف اي منهما يرسم للآخر، وصار قلم الثاني لا يعرف ايهما يكتب للآخر.
راجع الخواجة بيار ونصير بيك تجاربهما، أدركا أنهما من جيل هزائم آن لها أن تنتهي، فكانا في 14 آذار عام 2005 في طليعة الملهمين لكل وطني في هذا البلد الصغير، انه حان وقت الانتفاضة، فكانت انتفاضة الاستقلال الثاني.
في هذا الصقيع، ومع قلوب الممانعة الباردة التي تحيط بنا من كل الجهات، أسأل نفسي مراراً، ما كان ليرسم بيار صادق عن النازحين السوريين اليوم في مخيمات الموت البطيء؟ ما كان سيكتب أو يفعل أو يقول نصير الأسعد عن هؤلاء المشردين؟ الأكيد أن الأول كان سيرسم لنا المعاناة، ليشعرنا كم من الإنسانية تحتاج هذه البلاد التي نحن فيها، والثاني سيكتب بانفعال عن طاغية يقتل شعبه، وعن حزب لبناني يسانده في ما يفعل.
سأستمرّ بالحديث عن النازحين، لكن من الآن سأوجّه كلامي إلى الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله.
أعرف أنه لن يسمع لصوت لبناني، ولا لملايين الأصوات، لأن الفتوى الإيرانية في أذنيه أقوى وأنقى وأشرف كما هو يعتقد، لكنني سأسال:
يا سيد، هل رأيتَ الأطفال التي تموت صقيعاً في عرسال وعكّار؟ هل هؤلاء هم التكفيريون الذين قرروا الموت في أحضان الطبيعة؟
هؤلاء، لا خبز لهم، لا منزل، لا مأوى. هجّرتهم آلة القتل منذ ثلاث سنوات. هل تعلم يا سيد مَن هي آلة القتل التي تساندها في كل بقعة من سورية؟
يا سيّد، اللاجئون الأطفال والشيوخ والنساء، يموتون جوعاً خارج أرضهم، فيما مقاتلوك يموتون في معارك تهجير السوريين من أرضهم.
النساء يا سيد يبحثن عن الماء للوضوء قبل الصلاة. هل تعلم مَن يقف بينهن وبين الله؟ قبل أن تكرّر القول إنهم تكفيريون.
سماحتك تقول ان قتالكم الى جانب النظام السوري منع المزيد من إرسال السيارات المفخخة الى لبنان. هل سألتَ نفسك أم سألك أحد لماذا لم يكن هناك سيارات مفخخة تكفيرية في لبنان قبل إعلانكم وبفخر عن دوركم العسكري في جبهة النظام السوري ضد شعبه المطالب بالحرية؟
لا جواب؟
أم ان الجواب جاء في السيارتين المفخختين «بإيمانِ» نظام القتلة السوري المنفجرتين على ابواب مسجديْ التقوى والسلام في طرابلس؟
هناك جواب آخر لسماحة السيد لا ننتظره بل نقوله منعاً للانحراف اللغوي، الذي يُترجِم الانحراف الوطني عن أسس الهوية العربية السليمة وهو:
الحرف الاول من اسم السعودية هو وحدة المسلمين، وليس تشتيتهم فرقاً.
الحرف الثاني من اسم السعودية هو وحدة المجتمعات العربية وليس انقسامها.
الحرف الثالث من اسم السعودية هو استقرار وسلام وأمن لبنان وليس خرابه وفوضاه.
أما الحرف الاول من السياسة الايرانية فهو انقسام المسلمين. والحرف الثاني هو استغلال دماء اللبنانيين
والسوريين والفلسطينيين والعراقيين والبحرينيين واليمنيين لحماية اعتدائها على العرب قبل اسرائيل وعلى المسلمين قبل الاميركيين، وحفظاً لأوراق المفاوضات مع الشيطان الأكبر.
الحرف الثالث من السياسة الايرانية هو الوقوف الى جانب أنظمة القتل في وجه الشعوب الساعية الى الحرية.
لذلك، نعم انتم ممنوعون وحدكم من تحديد معالم المستقبل في لبنان، ليس لان وزير الخارجية الاميركي قال ذلك. بل لان الغالبية العظمى من اللبنانيين لا ترى في غلَبتكم العسكرية غير القدرة على الاعتداء على الشعبين اللبناني والسوري وليس بناء مستقبلهم او حماية ثرواتهم النفطية.
لو بلغ جبروت ايران ما بلغ، لن تلزمنا بشراكة وطنية لا نريدها الا وفق قاعدتين: الاولى انسحابكم العسكري من سورية والثانية الالتزام بإعلان بعبدا.
لسنا نحن مَن يلاحق الخريطة العسكرية للوضع الميداني السوري ولا نحن مَن نستقوي بتفاهم ايراني – اميركي على الشراكة الوطنية.
نحن «وحدنا» لن نوقّع على شراكة وطنية معكم ما لم ترفعوا يدكم عن دم الشعب السوري.
بغير ذلك، كل كلامكم شيك بدون رصيد من مصرف سوري مفلس لن تستطيعوا صرفه في لبنان.
ليكن معلوماً، نحن هنا لا نطالب بمنةٍ من احدٍ في هذا العالم ولا ننتظر صدَقة من ولاية فقيه ولا ممن يتحاورون معه، مع ترحيبنا الدائم بكل أشكال الحوار المسؤول والصادق والرصين على قاعدة الحقوق الوطنية السليمة وعلاقات الجوار الطبيعية.
بكل وضوح نقول: لا ننتظر منةً ولا صدَقة.
وليكن معلوماً ايضاً اننا لا ننتظر عطية من احد في الوطن. فنحن أهل حق وأصحاب حق لا يسقط بالتقادم ولا بالتآمر. وهو حق سندافع عنه لانتزاعه شاء مَن شاء وأبى مَن أبى.
ولمَن تغشّه حسابات الميدان وغطرسة البندقية اقول: مهلاً يا سيّد!
سقط جدار السلاح في المشرق العربي كما سقط جدار برلين بين غرب المدينة وشرقها، ولن تقوى قوة في العالم على إعادة إعماره.
نحن ندخل مرحلة جديدة في المنطقة يثبت فيها يومياً ان السلاح غير الشرعي، أكان في يد نظام قاتل في سورية او في يد ميليشيا تابعة لنظام احتلال خارجي في لبنان ما عاد قادراً على صناعة اي فضيلة للناس وما عاد قادراً على حماية عقلية الاعتداء التي ترعاه، ولا عاد بوسعه ان يمنع عن الانسان، المعنى العميق لإنسانيته وهو الحرية!!
سقط السلاح غير الشرعي للنظام غير الشرعي في سورية وهو يغرق يومياً بدماء ضحاياه السوريين. وسقط السلاح غير الشرعي لنظام الاحتلال الايراني في لبنان وهو يغرق يومياً في الارتباك وفي الخطيئة وفي محاولاته اليائسة لمنعنا من الحلم بلبنان الذي نريد!
حان الوقت لكي نعلن اننا نقاوم وسنقاوم احتلالاً ثورياً ايرانياً للقرار السياسي اللبناني. ليس في السلم والحرب فقط بل في أصغر تفاصيل حياة نظامنا الديموقراطي.
وكما أخرجنا نظام الوصاية السورية من لبنان بيار صادق ونصير الاسعد، سنخرج نظام الاحتلال الثوري الايراني من هذا اللبنان ليبقى موئلاً للحوار والتعدد والديموقراطية والحداثة والانفتاح.
هذا الاعلان ليس نداءً الى جمهور الرابع عشر من آذار فقط، بل هو فرصة تاريخية للبنانيين لمحاولة الخروج وبصورة كاملة ونهائية من الوضع الذي نشأ منذ أكثر من اربعة عقود عندما سقطت الدولة ومُنعت من استعادة كامل سيادتها رغم انتهاء الحرب الأهلية وانسحاب اسرائيل ثم سورية من الأراضي اللبنانية.
فالاحتفالات بذكرى الشهداء لا تلتزم الحق ولا الوطن ما لم نكمل مسيرة الاستقلال، مهما تكن التضحيات.
أعلم وجع مَن يسمعني، وأفهم قلق مَن راقب مسيرات الشهداء، لكنني أذكّر من غاب عنه الخبر.
في مطلع العام المقبل يتزامن انطلاق مسارين. مسار جلسات المحاكمة في المحكمة الدولية، ومسار جنيف اثنين، الذي مهما تأخر، فهو يعني شيئاً واحداً، بدء مرحلة الانتقال الى سورية ما بعد الاسد. إنه تزامُن فريد فعلاً ان يبدأ العام المقبل ببداية سقوط غُرابين بحجر واحد هو حجر العدالة. عدالة القانون في قضية رفيق الحريري وعدالة الخيار الشعبي في سورية.
هذا في الخارج. اما في الداخل فلدينا استحقاقان.
الاول هو تشكيل حكومة غير حزبّية ترعى شؤون الناس بدلاً من حكومة تصريف الفضائح وحماية سياسة النظام السوري في لبنان.
الاستحقاق الثاني هو انتخاب رئيس جمهورية قوي بلبنانيته وقادر دستورياً. وهما امران علينا ان نتّبع فيهما الكتاب لا الأهواء والنص لا الأقوال. ولنا الثقة الكاملة برعاية فخامة الرئيس والرئيس المكّلف لهذين الاستحقاقين، ولو أنهما تأخرا كثيراً
نعم، خسرنا الكثير الكثير في هذه الرحلة الطويلة قبل الوصول الى موعدنا مع لبنان الذي نريد.
خسرنا الكثير الكثير من قامات وطنية كبيرة وشخصيات سياسية وأمنية وإعلامية ومواطنين عزل الا من الايمان بالله والوطن!
لكننا لم نخسر الحلم بهذا اللبنان
ولم نخسر الرهان على هذا اللبنان
ولم نخسر الإصرار على هذا اللبنان
الذي لأجله نقاتل معاً كل يوم وسنظل نقاتل مهما طال زمن التضحيات
فلبنان اولاً ليس خيارنا،
لبنان اولاً قدَرنا وقدَر كل اللبنانيين . وسننتصر!!
* نائب في البرلمان اللبناني – مداخلة في تكريم بيار صادق ونصير الأسعد