1- ما الذي في الاسم؟
هذا سؤال شكسبير في “روميو وجولييت”، كان يقصد اسم الوردة، الذي تفوح منه الرائحة. قطف الموت في بلادنا قبل أيام وردة مضرجة بالدم: جول (جوليانو) مير خميس.
فما الذي في الاسم؟
جول مير خميس. اسم من ثلاثة مقاطع. لكل مقطع تاريخه الخاص، الذي يلتحم بتاريخ عام، وبجغرافية مجازية وواقعية في آن.
جول: أسماه، أبواه صليبا وآرنا، على اسم جول جمّال، الضابط البحري السوري، الذي كان في مهمة تدريبية في مصر عندما وقع العدوان الثلاثي في العام 1956. أصر جول جمّال على القتال دفاعاً عن مصر، رغم أن مهمته التدريبية لم تكن تقتضي ذلك. وخاض معركة بحرية أعطب فيها مدمرّة فرنسية، ودفع حياته ثمناً لذلك العمل. وفي تلك الأيام أصبح اسمه على كل شفة ولسان، باعتباره بطلاً من أبطال الأمة العربية، وما يزال حياً في الذاكرة.
وفي زمن الأصولية الدينية الفقيرة، التي تقسّم العالم إلى فسطاطين، والقادمة من الصحراء، ينبغي التذكير بحقيقة أن جول جمّال كان عربيا وسوريا ومسيحياً من الطائفة الأرثوذكسية.
مير: الاسم الذي ورثته آرنا عن أبيها، جدعون مير، اليهودي المهاجر من ليتوانيا إلى فلسطين في العام 1914. درس جدعون مير الطب في روسيا وفرنسا، وتخصص في أبحاث وعلاج الملاريا. وبعد قيام الدولة الإسرائيلية عمل مستشاراً في الطب الوقائي لدى وزارة الصحة. في العام 1931 وُلدت لجدعون مير ابنة أسماها آرنا.
آرنا مؤنث آرون، وكلاهما من تنويعات مفردة آرنينا العبرية، التي قد تعني جبلاً من القوّة، أو الكثير من العزيمة. حضرت دلالة الاسم في ذهن جدعون مير عندما أطلق على ابنته اسم آرنا، تماما كما حضرت دلالة مغايرة عندما أطلقت آرنا وزوجها، صليبا، في العام 1958 على ابنهما اسم جول. بالمناسبة يحمل الشقيق الأكبر لجول اسم سبارتاكوس (على اسم قائد ثورة العبيد) والأصغر اسم عبير، على اسم أحد القادة الشيوعيين في البرتغال.
حاربت آرنا في صفوف البالماخ (قوات الصاعقة اليهودية) في العام 1948. وانخرطت في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهناك التقت بصليبا خميس، الفلسطيني، الذي سيصبح أباً لأولادها الثلاثة، أحفاد جدعون مير.
في زمن الانتفاضة الأولى عبرت آرنا إلى الجانب الآخر في وضح النهار، اعتنقت قضية الفلسطينيين، وقامت بأعمال تطوعية كثيرة في مخيمات اللاجئين، من بينها إنشاء منظمة للدفاع عن الأطفال، وإنشاء مسرح الحرية في جنين.
وأذكر كيف سمعت من محمود درويش وصفاً يختلط فيه الإعجاب بالدهشة، للقاء جمع بينهما في باريس في مطلع التسعينيات. جاءت آرنا لزيارته متشحة بالكوفية الفلسطينية، الرمز الذي حرصت على إبرازه للعيان في حلها وترحالها، هناك، يقول محمود: بطريقة لا تخلو من المبالغة.
خميس: اسم شائع في العربية ورثه صليبا عن أبيه. صليبا، الاسم الآرامي الأصل يشير إلى أمر آخر، إلى أسماء تقتصر على المسيحيين العرب، والتي يكاد اسم صليبا ينفرد من بينها بشحنة رمزية تستمد بلاغة خاصة من صليب الناصري. وهذا الاسم شائع في فلسطين وسوريا ولبنان، والعائلات التي تحمل الاسم تعود بتاريخها إلى قرون كثيرة مضت، وحتى إلى أسطورة تفيد بأنها تنحدر من ملوك اسبارطة.
بيد أن صليبا خميس يستمد بلاغة حضوره في الذاكرة من تاريخه وتاريخنا الوطني. فهو مناضل وطني كبير. مارس دوره الكفاحي في صفوف عصبة التحرر الوطني في فلسطين، وفي صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
نذكر من بين أدواره أنه كان سكرتيراً للجنة الدفاع عن الأراضي في إسرائيل لحمايتها من المصادرة، وهو الذي أطلق على هبّة الفلسطينيين في الثلاثين من آذار 1976 تسمية يوم الأرض. اليوم الذي أصبح جزءا من تقاليد الوطنية الفلسطينية، كما كان أوّل من طرح فكرة إنشاء نصب لشهداء يوم الأرض في سخنين. الفكرة التي جسّدها الفنان عبد عابدي في عمل سرعان ما اكتسب بلاغة ومكانة وخصوصية المزار.
2- أولاد الشيوعيين
ما الذي في الاسم؟ لم نعرف بعد. كل ما في الأمر أننا نحاول القبض على اسم يتكوّن من ثلاثة مقاطع، تبدو ساخنة مثل حبات الكستناء التي نحاول التقاطها من النار بيدين عاريتين. وكل ما في الأمر، أيضاً، أن هذه الخلطة العجيبة نجمت عن لقاء تواريخ ومصائر فردية وجمعية تختزل تاريخ العالم في القرن العشرين: العداء للسامية، الكولونيالية، الشيوعية، النكبة، الاحتلال، والحق في الحرية وتقرير المصير.
وكل ما في الأمر، أيضاً وأيضاً، أن في هذه الخلطة العجيبة ما يكفي من الديناميت الواقعي والمجازي، لإشعال حرائق فردية وجمعية كبيرة وصغيرة، وزعزعة أكثر الهويات طمأنينة حتى لو غطست تحت أطنان من البلادة. فها هنا في ثلاثة مقاطع اجتمعت، واصطدمت، وتعايشت، وانفجرت: صراعات، ورهانات، وآمال، وأوهام، نقرأ فيها تاريخ الصراع في فلسطين وعليها.
اللافت أن جول أصر على حمل اسمه المكوّن من ثلاثة مقاطع بحمولتها القابلة للاشتعال. وهذه عتبة أولى في الطريق إلى الاسم، وقد أصبح ملكية شخصية لفرد بعينه. إذا كنت مشتغلا بالفن، أو السياسة، أو الأدب، ستدرك في وقت ما أن الاسم الذي تختاره جزء من البضاعة الشخصية. وقد كان في مقدوره الاكتفاء باسم الأب، أو الأم، لكنه اختار الاثنين معاً. وهذه مجازفة أولى.
بعد مصرع جول بيومين التقيت بشخص كان زميله في المدرسة، وفي الشبيبة الشيوعية، والأهم من هذا وذاك أنه ينحدر من أم يهودية وأب فلسطيني. سألته كيف نظرتم إلى أنفسكم في تلك الأيام؟
قال: لم نفكر كثيراً في هذا الأمر. لم يشغلنا سؤال: أعربٌ نحن أم يهود. وعندما يسأل زملاؤنا مَنْ أنتم، نجيب: نحن شيوعيون.
لا أعرف ما إذا كان في جواب كهذا ما يمس عصباً نافراً لدى جيل الشباب في فلسطين والعالم العربي هذه الأيام. ولكن هذا الجواب، على مدار قرن من الزمان، كان خاتم سليمان في أربعة أركان الأرض، لما لا يحصى من الباحثين عن عالم جديد، تزول فيه التحيّزات القومية والعرقية والدينية والثقافية والطبقية بين بني البشر. وبين هؤلاء كان أبناء الأقليات الدينية والقومية والعرقية والثقافية، هم الأكثر حرصاً، وتضحية، ومثابرة.
هل اقتربنا من فهم الجواب؟ ليس بعد.
القليل من الناس في العالم العربي يمكن أن يتكلموا بطريقة موضوعية عن اليهود. وهذا مفهوم ومعلوم. لكن الأمر لم يكن، دائماً، على هذا النحو. فمنذ إنشاء الدولة الإسرائيلية أصبح الخلط بين تاريخ أو تواريخ اليهود على مدار قرون طويلة، وبين تاريخ الصهيونية تحصيلاً للحاصل. وهذه النتيجة تنسجم مع وتخدم الرواية الصهيونية، التي ترى في نفسها أعلى مراحل التاريخ اليهودي، وفي إسرائيل خلاص اليهود. وكلا الأمرين خطأ. فلا هي بالخاتمة السعيدة، ولا دولتها نهاية التاريخ.
عاشت أقليات يهودية في مناطق مختلفة من العالم، وتعرّضت بأشكال متفاوتة للاضطهاد. وهذا أسهم في بلورة وتعزيز حساسية خاصة إزاء الظلم، تستمد مقوّماتها من ذاكرة المُضطهَدين، وقراءة انتقائية للنصوص الدينية والفلكلورية، وأدبيات الشتيتل والغيتو اليهوديين في أوروبا الشرقية والوسطى، ومن تجارب واقعية، مؤلمة في أغلب الأحيان. تفسّر هذه الحساسية انخراط النخب اليهودية المتعلمة، منذ أواسط القرن التاسع عشر، في مختلف الحركات الراديكالية الداعية إلى المساواة.
لم تكن الصهيونية، خلافاً للشيوعية، في مختلف تجلياتها الأيديولوجية، دعوة للمساواة، بل كانت في الواقع معادية لفكرة تحويل اليهود إلى مواطنين يتمتعون بالمساواة في بلدانهم الأصلية. ولأنها كذلك، كانت حركة هامشية في أوساط اليهود حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن الاشتراكية، بتنويعات ماركسية ومثالية مختلفة، كانت بمثابة القناع الأيديولوجي، للتيار الرئيس في الحركة الصهيونية منذ بداية الاستيطان في فلسطين، مروراً بإنشاء الدولة، وحتى أواسط السبعينيات، إلا أن ذلك القناع سقط في الواقع، وأسقطته على صعيد المعرفة الكثير من الدراسات الأدبية والتاريخية. وربما ينبغي التذكير، هنا، بكتاب زئيف شتيرنهال عن الأساطير المؤسسة لإسرائيل.
والصحيح أكثر وأكثر أن التجربة المُعاشة للفلسطينيين، تجربة التطهير العرقي، والاقتلاع، والتمييز، والنفي، تفضح حقيقة ذلك القناع بكفاءة أكبر من كل مراجعة فكرية أو تاريخية محتملة.
بيد أن كل ما تقدّم لا ينفي حقيقة أن الصهيونية كانت قادرة على جلب وتجنيد أعداد من اليهود في مشروع لإنشاء دولة يهودية تتقنّع بشعارات اشتراكية، وقوموية، بدت بعد الحرب العالمية الثانية، وما أسفرت عنه من نتائج كارثية، وكأنها البوابة الوحيدة للخلاص. ومن هذه البوابة عبر الكثير ممن سيعرفون في وقت لاحق بجيل البالماخ.
وربما كان يزهار سميلانسكي أفضل من صاغ صورة البالماخ في الحقل الأدبي، في توليفة يختلط فيها الواقعي بالمُتخيّل، والتاريخي بإسقاطات نرجسية ذاتية. وإذا شئنا وصف هذه التوليفة على طريقة ما قل ودل، فلنقل إن “أيام تسيلاغ” و”خربة خزعة”، بين أعمال أخرى كثيرة، تمثل الكولونيالية باعتبارها خطاباً في الأدب، وتعيد التذكير بأسطورة الجلاّد المقدس، الذي يتجلى في الأزمنة الحديثة في صورة مَنْ يطلق النار ويبكي.
الكثير من ممثلي ذلك الجيل في الحقل الأدبي ذرفوا الدمع. بنيامين تموز، أهارون ميغيد، أوري أفنيري، وعاموس كينان. لوبا إلياف سبق المؤرخين الجدد في كشف حقيقة ما حدث في العام 1948.
لا نعرف ما إذا كانت تلك دموع التماسيح أم صدرت عن إحساس مُفزع بحجم الكارثة التي حلّت بالفلسطينيين. بيد أننا نعرف أن الشيوعية كانت في نظر الأكثر صدقاً وشجاعة في محاسبة النفس، من أبناء ذلك الجيل، خارطة طريق للتحرر من قبضة الصهيونية، والحفاظ على الإنساني والعام في ذاكرة المُضطهَدين، والانحياز إلى حقوق الفلسطينيين تحت راية الكفاح من أجل مستقبل يضم اليهود والفلسطينيين، ويقوم على مبادئ العدل والمساواة.
وعلى خلفية كهذه نفهم رحلة آرنا من البالماخ إلى الحزب الشيوعي في مسيرة أوصلتها إلى مخيم للاجئين في جنين. ونفهم بالقدر نفسه حجم وطبيعة ذلك الرهان، الذي ربما لم يفهمه أبناء الشيوعيين جيداً، لsكنه كان حلماً في خاطر الآباء، ومحاولة لفض الاشتباك بين هويتين في حالة حرب. أو فلنقل: بين عدوين سقطا في حفرة واحدة. المجاز المدهش الذي لم يكن أحد غير محمود درويش قادراً على صياغته بهذا القدر من اقتصاد البلاغة والوضوح.
3- مأزق الحفيد..!!
كنتُ مُعجباً بجول ومُشفِقاً عليه. فليس من السهل أن تكون صاحب هوية ملتبسة في بلاد تتخندق فيها هويات صريحة وفصيحة وجريحة على خط التماس. وليس من السهل أن تكون وريثاً لرهانات تركض وراء مستقبل يبتعد. باختصار، ليس من السهل أن تكون من هنا وهناك في آن.
وقد حاول جول أن يكون هناك. فابن اليهودية يهودي حسب الشريعة اليهودية. هذه الحقيقة البيولوجية تُعامل كدين وقومية في آن، وهي بهذا المعنى ضمانة لمواطنة من الدرجة الأولى في إسرائيل. وبما أن الخدمة في الجيش، في مجتمع يعبد القوّة، هي أعلى مراحل المواطنة، يصبح اليهودي الإسرائيلي كاملاً إذا التحق بالجيش. وهذا ما فعله جول، أيضاً.
ومع ذلك، لم تسعفه الحقيقة البيولوجية، ولا أعلى مراحل المواطنة، من تناقض في الدم والكينونة. أو كما قال في أكثر من مناسبة: جدي من جهة الأم طرد جدي من جهة الأب، وأنا بين الاثنين، وعائلتي من جهة الأب تحوّلت إلى لاجئين في فلسطين وسوريا ولبنان.
بيد أن التناقض المقيم في الدم والكينونة يصبح مفهوما في سياق أوسع من التجربة الفردية. وأعني أن الهوية الإسرائيلية نفسها إشكالية، مأزومة، ومُغلقة، إلى حد لا يمكنها من استيعاب وصهر عناصر متنافرة في إطار هوية مدنية حديثة واحدة وتوحيدية أعلى من الدين والإثنية والقومية.
يمكن التدليل على هذا الأمر استنادا إلى مصدرين ينطلقان من فرضيتين على طرف نقيض، لكنهما يصلان إلى النتيجة نفسها. شلومو زاند، مثلا، صاحب “اختراع الشعب اليهودي” يفترض أن الهوية الإسرائيلية كهوية مدنية حديثة لم تطرح كخيار منذ لحظ إنشاء الدولة وحتى يوم الناس هذا.
وفي المقابل يفترض باروخ كيمرلنغ في “اختراع الهوية الإسرائيلية وانحلالها” أن نظرية بوتقة الانصهار، التي استهدفت صهر مكوّنات مجتمع المهاجرين الإسرائيلي في أوّل عقدين من عمر الدولة، قد فشلت، وبالتالي انقسم المجتمع إلى جماعات إثنية وثقافية توحي بالتعددية، ولكن في إطار وقوانين وثقافة سائدة غير تعددية. في مكان ما بين هاتين الفرضيتين يمكن العثور على تفسير لعدم قدرة جول على البقاء هناك.
وعندما أراد العودة إلى هنا، اقتفى خطوات أمه ذهب إلى جنين، والمفارقة أنه عاد إلى أمه، عندما دُفن في قبر إلى جوارها. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون اسم الفيلم الذي أخرجه عن مشروعها لرعاية أطفال الفلسطينيين هناك “أولاد آرنا” أخوته. الفيلم بمعنى من المعاني عنه، أيضاً.
كانت رحلة العودة إلى جنين، بالمعنى العملي والمجازي، رحلة العودة إلى فلسطين، وإلى هوية عربية فلسطينية، صريحة وفصيحة. وقد شاءت الصدف أن التقى به في سياق رحلة العائد تلك. كما شاءت أن أكون حاضراً في أوّل لقاء جمع بين محمود درويش وجول، عندما جاء لزيارة محمود في رام الله. كان ذلك في بداية الانتفاضة الثانية، وكان من الواضح أن جول قطع شوطاً بعيداً في رحلة العودة.
حرصتُ، دائماً، على مراقبة الطريقة التي ينظر بها الفلسطينيون إلى محمود درويش، رمزهم الكبير، الذي يكاد يكون ملكية شخصية وحصرية لما لا يحصى منهم حتى بالنسبة لأشخاص لم يلتقوا به في حياتهم.
جاء جول، ابن صليبا وآرنا، ليلتقي بالشاعر الذي كان يزورهم عندما كان طفلاً في البيت، والذي سمع عنه من أبويه، وقرأ له وعنه. يومها لمحت في عينيه النظرة نفسها التي تطل من عيون الفلسطينيين في حضرة محمودهم. ويومها بعد مغادرة جول، فسّر محمود من أين جاء اسم جول.
لا أحد يختار أبويه أو اسمه. لكن الأبوين يختاران الأولاد والأسماء. وعندما تلتقي هويتان صريحتان وفصيحتان وجريحتان على وفي أرض حرام، يصبح لزاماً على من ينجبه زواج الخارجين على قانون القبيلة، إما أن يبقى، أو أن يعبر عائداً في أحد الاتجاهين. قد يجرّب الخيارات كلها، أو يحترف التمثيل. فالممثل أكثر الناس حريّة في الكون، طالما كان الأكثر قابلية لنسيان ما ومَنْ يكون.
أحياناً، كان جول يندمج في دوره على المسرح إلى حد يثير ذعر الممثلين الآخرين. فإذا كانت الشخصية عنيفة أصبح عنيفاً بالفعل. وقد حدث ذات يوم أن رُفعت ضده شكوى قضائية لهذا السبب. فما الذي يحرّض ممثلا محترفاً على اجتياز تلك المسافة التي اشترط بريخت وجودها بين الممثل والنص؟
الاندماج في الدور إلى حد التماهي ليس من ابتكار الفنانين الفلسطينيين، لكنه يفسر جانباً من سلوكهم، كما يفسر جانباً من السلوك اليومي لأقليات تعاني من شروط مجحفة في مناطق مختلفة من العالم. ولن يفهم أحد لماذا تفوّق المسرح اليهودي الناطق بالدييدشية في أوروبا الشرقية والوسطى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما لم يضع ذلك التفّوّق ضمن شرطه الاجتماعي واللغوي والإثني آنذاك.
بيد أن الاندماج على خشبة المسرح، كان يقابله اندماج أكبر، وأكثر تعقيداً، في مسرح الحياة نفسها. وهذا أمر يحتاج، أيضاً، إلى تفسير. ففي مقابلة تعود إلى العام 2005 يقول جول إن إسرائيل تعمل على تدمير الجهاز العصبي للشعب الفلسطيني، أي الثقافة، والهوية، ووسائل الاتصال. كما يوجه انتقادات لاذعة إلى القيادة الفلسطينية التي لم تعد شعبها لمواجهة حملة تدميرية كهذه.
ومن الواضح أنه فهم دوره في الحياة في سياق العمل على حماية الجهاز العصبي لشعبه، وتعزيز الهوية بما يمكنها من الصمود في مواجهة الاحتلال. وفي ظل دور كهذا يتجلى معنى إعادة بناء وتنشيط مسرح الحرية في جنين للحيلولة دون وقوع الفلسطينيين في قبضة اليأس. سأقتطف مقطعا كاملاً من تلك المقابلة:
“الناس فقدوا الأمل. ظلام. غاب الأمل في فلسطين.. لا نستطيع أن نحضر الأمل في علبة أو في كيس، ولكن نستطيع تمهيد الأرض لذلك، هذه مهمتنا اليوم.. لا أمل في الجيل القديم، أعتقد لأنهم رأوا الكثير من الموت والدمار، أغلبهم لا يرفض ما نحاول عمله، لكنهم لا يمدون لنا يد العون، فهم غير مبالين. ولكن آمل مع الجيل الجديد أن نمهّد الأرض لبناء الأمل، والمقاومة، والهوية الجديدة، ووضع خطط إستراتيجية، وفكر، وبلورة مفهوم للحياة، مَنْ نحن، كيف نرى أنفسنا في العلاقة مع الإسرائيليين، وما هي الحقوق التي يمكن أن نعطيها لليهود الذين جاءوا إلى فلسطين في العام 1948 وما بعده، كيف ننظر إلى حياتنا معاً.. تحطم كل شيء. كل واحد يرى نفسه قائداً في الوقت الحاضر، الكل يفعل ما يريد.. لم تكن فلسطين هكذا قبل الانتفاضة.. كانت فلسطين مكانا فريداً في طاقاته الفكرية، وحداثته، وانفتاحه، وفعالياته التقدمية والفنية، وقد نجح الإسرائيليون في ضرب هذا كله”.
4- وقائع موت مُعلن
يصف غارسيا ماركيز في “وقائع موت مُعلن” مصرع سانتياغو نصّار، الذي عرف بموته وأنتظره. وحكاية جوليانو تشبه حكاية نصّار. الفن في ذاته عنصر مزعزع في مجتمعات تقليدية ومحافظة، فما أدراك إذا كانت تلك المجتمعات في حالة حرب وحصار وتمركز على الذات.
وما أدراك، أيضاً، إذا كانت وظيفة الفنان على خشبة المسرح زعزعة سكينة التقليدي والمحافظ. وكانت وظيفته في الحياة تكريس الحداثة والانفتاح، وحماية هوية المكان الفلسطيني من سطوة الميليشيات، التي يرى كل واحد من أفرادها نفسه قائداً، ويفعل ما يريد. وما أدراك، أيضاً وأيضاً، إذا كان صاحب الدور على خشبة المسرح وفي الحياة صاحب اسم يتكوّن من ثلاثة مقاطع تقف على خطوط ساخنة للتماس.
لن أغمط جول حقه، ولا تفرّد وامتلاء هويته. ففي مناسبات كثيرة بعد رحلة العودة كان يقول: أنا فلسطيني مائة في المائة، ويهودي مائة في المائة. لن يصعب على احد تعريف فلسطينية الفلسطيني، لكن يهوديته لا تحتمل التعريف إلا على خلفية:
أولا، تجربة الأقليات اليهودية في مناطق مختلفة من العالم، والعداء للسامية الذي كان الهولوكوست أعلى مراحلها وأكثرها بشاعة، التجربة التي تحاول إسرائيل احتكارها، والتي يساعدها جهلنا على نجاحها في الاحتكار.
وثانيا، على خلفية هوية فلسطينية جديدة تتسع للمسلم والمسيحي واليهودي في آن، وهذه الفكرة في صلب شعار فلسطين الديمقراطية والعلمانية الذي طرحته منظمة التحرير الفلسطينية قبل أربعة عقود، ونسيته الآن.
عبّر إدوارد سعيد في مقابلة ذائعة الصيت مع جريدة الجيرزاليم بوست الإسرائيلية، عن فكرة تضفي بعداً إضافياً على يهودية جول، عندما قال في جملة وضعتها الجريدة عنواناً للمقابلة: “أنا آخر المثقفين اليهود”. كان في ذهن إدوارد وهو يقول هذا الكلام أسماء أشخاص، كان مفتوناً بعلاقتهم مع هوياتهم اليهودية، والتجليات الفكرية لتلك العلاقة: أدورنو، والتر بنيامين، حنا آرنت، كافكا، وفرويد.
ويهمني، هنا، الإشارة إلى مقالة بديعة كتبها إدوارد قبيل وفاته بوقت قصير عن فرويد بعنوان “فرويد وغير الأوروبيين”، حلل فيها إشكالية فرويد مع هوية موسى، ولماذا اختار له في أواخر حياته أصلاً مصريا في كتابه الشهير “موسى والتوحيد”، في محاولة لتحرير اليهودية من الصَدفَةِ العظمية الهائلة التي سجنتها في قوقعة ذات إثنية وهمية، وفرادة حصرية متوّهمة.
إدوارد الفلسطيني بالولادة والإرادة، لم يكف عن التذكير بهوية أميركية مكتسبة تُضاف إلى هويته الأصلية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكون وحدة التاريخ الإنساني العام ـ بما تعنيه من تعددية للهويات والتواريخ الفردية والجمعية ـ بعد الفتوحات الكولونيالية جزءا من مقولاته المركزية في “الثقافة والإمبريالية”.
ولو كان إدوارد سعيد على قيد الحياة، وسمع كلام جول عن يهوديته، سيفهم المعنى والمبنى، وربما يدلنا على البطانة التاريخية والثقافية والوجودية لكلام كهذا، ومدى ما يزعزع من تماسك هوية متوّهمة وفقيرة تحاول الصهيونية اقتراحها على اليهود.
بذلك القدر من التفرّد، وهذا الامتلاء، انتظر جول موته. قبل ثلاث سنوات قال في مقابلة مع القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي وكانت زوجته الفنلندية بجواره: “أقول لهم كيف ستنتهي حياتي. رصاصة من فلسطيني مجنون.. غاضب جداً لأننا في جنين.. أنا وهذه الشقراء الجالسة بجواري نأتي لتخريب الشباب المسلمين”.
وفي مقالة نشرها جدعون ليفي في هآرتس بعد مصرع جول يذكر بأنه سأله عن مخاطر وجوده في جنين، فرد عليه: توجد مخاطر، ولكن ما العمل، لا أملك خياراً غير هذا. وفي مقابلة أخرى يذكر صحافي إسرائيلي جواباً لجول رداً على السؤال نفسه: وما الخيار الذي تبقى لدىّ، الهرب، أنا لا أهرب.
مسألة الخيار تحتاج إلى توضيح: الشجاعة لا تكون مع انعدام الخيارات، بل مع وجودها، وتكتسب المزيد من المعاني مع تعدديتها. عندما يملك شخص إمكانية العيش في نيويورك، أو برلين، أو تل أبيب، لكنه يختار العيش في جنين تعبيراً عن قضية يؤمن بها، ويجعل منها خياراً أخيراً ووحيداً، يصبح وسيلة إيضاح فريدة لمعنى الشجاعة.
في سياق كهذا نفهم أن كل ما كان لدى جول من مؤهلات لا يوجد لدى القاتل: الموهبة، الشجاعة، الانفتاح، التعددية، الوسامة، غواية الجميلات، الفن، اتساع حدقة العين، واختيار الفلسطينية كهوية بالإرادة، ومن بين كل الأماكن في الكون قرار العيش في مكان، لا يملك القاتل القدرة على العيش في مكان سواه.
لذلك، ومهما تكن هوية القاتل، فإن المشكلة لن تُحل بتقديمه إلى العدالة، على أهمية هذه المسألة وضرورة إنجازها. فلم يكن جول خصماً للقاتل بالمعنى الشخصي والحصري للكلمة، بل كان خصماً لما يمثل في الحياة، وفي فلسطين. وما يمثل في الحياة، وفي فلسطين، شائع في بلاد الفلسطينيين والعرب إلى حد يثير الفزع.
لا ينبغي أن نتظاهر بالبراءة. فالفائز العربي الوحيد بجائزة نوبل للآداب تعرّض لمحاولة اغتيال من جانب شخص لم يقرأ كتبه بل سمع ما يحرّض عليها. ربما لم ير القاتل عملاً واحداً من أعمال جول المسرحية بل سمع عنها. ربما أثارت شجاعته لدى القاتل حساً بالدونية، وكم من القتلة اهتم بقراءة حسين مروّة ومهدي عامل؟ وكم منهم ذهب إلى المسرح أو السينما في فلسطين. كانت في المدن الفلسطينية قبل عقود مضت دور للسينما كم تبقى منها الآن؟
لذا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالثقافة الفلسطينية، فقد سمعت وقرأت في الأيام القليلة الماضية كلاماً كثيراً عن ثقافة التسامح والسلام. وهذه أشياء بلا معنى، بل وتشبه غاتوه ماري أنطوانيت الذي اقترحته على الفقراء عندما سمعت بأنهم لا يجدون الخبز.
واللافت للنظر ردة الفعل الصاخبة من جانب العاملين في الحقل الثقافي في فلسطين على حادثة اغتيال جول. فهو في التحليل الأخير واحد منهم. وهذه الحقيقة تعيد تذكيرهم بما تنطوي عليه أدوارهم في حقل الثقافة من مخاطر، يدركها البعض، ويلتف عليها البعض الآخر بالرقابة الذاتية، والانضباط في إطار الحدود المعلومة لخطاب الوطنية، الذي يتحوّل أحياناً إلى مزايدة يعوزها النقد الذاتي، بقدر ما يفيض فيها الثناء على ذات جمعية فوق التساؤل والنقد.
بيد أن المهمة الحقيقية المطروحة على عاتق المثقفين الفلسطينيين، والتي تعيد تذكيرهم بها مناسبة حزينة كهذه، تتمثل في صياغة مفهوم جديد للوطنية الفلسطينية، أو حتى إحياء والدفاع عن مفاهيم كانت إلى وقت قريب تدخل في باب البداهة، لكنها تدخل الآن في باب المسكوت عنه:
التعددية الحضارية والثقافية والإثنية لفلسطين، في هوية تتسع للمسلم والمسيحي واليهودي، وثقافة المقاومة التي لا تلغي الإنسان فينا، ولا تحرمنا من رؤية الإنسان في العدو، والحس النقدي الذي يحرمنا من الاستغراق في صورة وهمية ومتخيّلة لنا في المرآة، ويعيدنا إلى صورة الوجه، كما هو في الواقع، لا في البلاغة الفارغة.
كنتُ معجباً بجول ومشفقاً عليه. جاء قبل زمنه بوقت طويل. ورصاصة القاتل كانت مصوّبة إلى رهان الأبوين على هوية تحرر الأبناء من ميراث الآباء. هوية أوسع من جغرافيا فلسطين، أو فلنقل تليق بتاريخها العريق.
وحتى لو لم تكن الشيوعية هي اسم ذلك المستقبل، فإن المستقبل المنشود في بحثه عن اسم محتمل سيجد، ضمن أمور أخرى كثيرة، في ملامح جول وسيرته وسيلة إيضاح وخارطة طريق. كانت مقاطع اسمه عبئاً ثقيلا عليه، كما كانت هويته مصدراً للوجع والتفوّق على خشبة المسرح وفي مسرح الحياة. رأى موته، ومشى إليه، كما فعل سنتياغو نصاّر في وقائع موت مُعلن.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
الأيام