المخرج المصري يسري نصر الله وشريطه الاخير «جنينة الاسماك». لم افهم حيثياته. منذ مشهده الاول، استعنتُ بالصبر. لعلّ الدقائق القادمة تأتي بما ينير عقلي. ولكن عبثاً: كلما تتالت المشاهد، ابتعدتُ عنه، وشردتُ في اشياء اخرى، لأعود اليه، وانتبه الى انني ضجرتُ، وان الفيلم اطول مما يجب. خرج بعض المشاهدين من اوله او نصفه. لكنني كنت مصرّة على البقاء حتى النهاية. اسم المخرج سمّرني على الكرسي: مخرج جاد ومهم، صاحب «مرسيدس» و»سرقات صيفية» و»صبيان وبنات»…
لكن بريق الذكاء لم يصبْني. عبثٌ ايضاً. خرجتُ من الفيلم خائبة: لا تواصل فني ولا متعة فنية. فقط بضعة ساعات ضائعة. كما في خيبات سبقت. «يلاّ! فيلم آخر من موجة الافلام «المعارِضة»… والسلام!». وقد ينال نقداً بما يستحق.
لكنني كنت غلطانة، مرة اخرى. باستثناء القليل القليل، كان الاقبال «النقدي» على الفيلم مثل سيل جارف من المديح له ولمخرجه. وكلمات كليشيهات من قبيل: الفيلم «حالة عالية من التأمل». الفيلم «فكري، رمزي، سوريالي». فيلم «يعتمد على التداعي». الفيلم ينطوي على «قيمة فكرية». وفيه «تجديد في اسلوب السرد». «أهم افلام يسري نصر الله». «عمل غير مسبوق في السينما العربية». «تجربة جديدة مغايرة للسائد»… الى ما هنالك. ودائما ترفق المدائح بـ»شرح» للفيلم. وهو شرح واحد، بإختلاف الاقلام. قصة الفيلم او موضوع الفيلم: «عن» مذيعة وطبيب تخدير. «عن» الخوف والعزلة وضرورة البوح الخ.
وكأن دفتر الشرح وزّع عليهم جميعاً، كأنهم تبلغوا بأمر «قصته»، أو خلاصته من مصدر واحد.
الشرح ثم الشرح. والمغالاة في الشرح. يتدخل المخرج نفسه في هذه العملية. فيعيد لنا التلخيض والثيمات وآراءه السياسية والاجتماعية التي لم نفهما من الفيـــلم. كأنْ يقول مثلا في معرض شرحه له: انه «ليس عن الخوف، وإنما عن اشخاص خائفين، وهذا مختلـــف تماماً». أو ان فيلمه «محاولة للتخلص من سيطرة التاريخ على الحكاية». ما يستدعي المزيد من الشرح.
حتى الآن، الامور عادية. شلل سينمائيين ونقاد، مثل شلل مثقفين او صحافيين. اما ان يتخلى المخرج عن اناقته المعهودة ويتعالى على جمهوره بالعبارات الواضحة، بعدما تعالى عليه بلغته السينمائية المتعثرة… فهذا ما كشف عن عيوب ثقافية صميمة، لا تقتصر على نصر الله وحده.
في البدء طبعا: المداحون من النقاد الذين اوسعونا ضرباً على دماغنا، وهم يرددون انهم «فهموه» وان الذين لم يفهموه هم كذا او كيت من الناس: أقرب الى الدهماء منه الى «النخبة» التي صنع من اجلها الفيلم، او عندما اعلنوا بان عدم الفهم او الفهم مجرد «وجهة نظر»(!). وبعد ذلك يتبرّع احد أبطال الفيلم بجلسات «تفهيم» لمن لم يفهموا، بعدما نعتهم بـ»الجهلة بفن السينما».
ثم يأتي دور يسري نصر الله نفسه الذي يقف على قمة التعالي، وبشيء من المهابة يقول هنا وهناك: «شباب تافه» (عن الذين تملْملوا من الفيلم اثناء العرض الخاص). «سيأتي يوم يفهمونه». «كل افلامي مهمتها ان تفكرك بنفسك». «أفلامي عايزة ناس عندها احساس». «جنينة الاسماك موجه لأي حد عنده احساس». «أنا مسكون بالبشر وافكر بجمهوري ومشاكله».
طبعا لا يعلََّق على هكذا كلام. ولكن الواقعة نفسها تحيي جملة من الدلالات، اهمها:
اولا: الفهم والصعوبة. قليلون جدا كتبوا انهم لم يفهموا الفيلم. «البوح» بعدم فهم الفيلم كان يتم شفاهة. وبقليل من الحذر والتردّد، خشية الانزلاق الى مستوى الدهماء.
والحال ان عدم الفهم هو الحالة الذهنية الطبيعية امام اي نص او صورة، تعصى على العقل. عدم فهمك ليس بالضرورة دليل جهلك او قلّة فطنتك. بل قد تعني ايضا ان صاحب النص او الصورة امام واحد من الاحتمالين: إما ان فكرته غير واضحة. وإما انه غير متمكن من لغته، سينمائية كانت هذه اللغة او ابجدية. اما التذرع بالعمق، بحجة كراهية «اللغة المباشرة»، وخلطه بالغموض، فهذا من باب حجب تشوّش اللغة أو الافكار، أو نتيجتهما. اذ لا تعارض بين البساطة والوضوح من جهة، وبين التركيب والعمق من جهة اخرى. وفيلم نصر الله الاخير غامض، ولكنه ليس عميقاً.
ثانيا: عقـــــدة الغرب. يسترسل نصر الله ويقـــول ايضـــا دفاعــا عــن فيلمه انه ليس «مخرج شباك التذاكر» (أي لا يبحــث عن الجماهيرية). فهـــو مموّل من الأوروبيين، أي انــه قبـــضَ ثمن شغـــله سلفاً قبل بــــدء التصوير، وليس «محكومـــاً بمنطق السوق». الفيلم معدّ للمهرجانات والتلفزيونات الغربية. والاعتراف الذي يقدره فعــلا هـو اعـتراف جهات التمويل والتسويق الغـــربييــن، مثـــل اصراره واصرار مدّاحيه على الاستقبال «الحار» الذي لقيه الفيلم في مهرجان برلين الاخير.
نصر الله نقيض مخرج الشباك، ولكنه نظيره ايضا. الاثنان لا يحترمان عقل الجمهور: الاول لأنه يدغدغ غوغائيته، بافلام «مقاولات»، تعيدنا الى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. والثاني لا يحاكي الا نفسه. ولا يحتاج الى حسابات سوق (علما بأن حسابات موضة الافلام «المعارضة» لم تغِب عن الفيلم ابداً). والمشكلة الاخرى هي ان هؤلاء انفسهم محاربو الغرب والامبريالية وسطوة الغرب الثقافية، يتوسلون اعتراف الغرب بهم، وبعد ذلك يستقوون به لتأكيد أهميتهم او موهبتهم امام جمهور «محلي»، لم يفهمه او لم يستسغه.
النقطة الاخيرة: الاستبداد والنرجسية. واضح ان يسري نصر الله مصاب بهوس الاختلاف والتفرّد. فيلمه الاخير خلق مناخا من التعالي الفكري والفني، يصعب من الآن فصاعدا عدم ربطه بالفيلم نفسه. واذا لم يسارع ويسأل نفسه، ولو للحظة واحدة، «حقا! لماذا لم يفهموا؟». اواذا لم يشك، ولو للحظة، بانه «قد يكون اساء التعبير»، فانه حتماً في طريقه نحو الاستبداد الفني، وحوله المداحون والمبخّرون، تماماً مثل اي مستبد، مثل اي «رئيس».
صدق الشاعر اللبناني عباس بيضون حين كتبَ: «نزداد فخراً كلما ازددنا ضعفاً. كأنما المديح هو ايضا لغة اليأس».
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة