بعد مضي أكثر من شهر على مسرحية الإنتخابات البلدية والإختيارية في لبنان، وبعد أن ارتسم المشهد النهائي للبلديات – جنوبا- كما أراده الأكثريون والنافذون، تفتح المناطق ذات الغالبية الشيعية في الجنوب الأبواب على مصراعيها لإستقبال رياح معركة جديدة هي معركة إتحادات البلديات البالغ عددها سبعة والتي ينضوي تحت لوائها عدد كبير من البلدات الجنوبية. هذه البلديا هي: اتحاد بلديات الشقيف – إقليم التفاح- جبل الريحان- جبل عامل- بنت جبيل- ساحل الزهراني – صور، رئاسة ثلاثة منها تابعة لحزب الله وأربعة لحركة أمل. أما منصب نائب الرئيس ومسؤوليات الأعضاء فسوف يتم توزيعها لاحقا بالتساوي والتراضي بين الحليفين وفق نظام حصصي يؤمّن عدم تدخل أو دخول أي عنصر خارج منظومة “الثنائية”.
انتخابات ما جرى منها وما سوف يجري, لا يمكن وصفه إلا بالشكلية أو المسرحية، وهي أقرب إلى التعيين منها إلى الإنتخاب، بمفهوم جديد أطلق عليه مصطلح” التوافق الحّبّي” بعد أن قامت القوتان النافذتان بعملية “حصر إرث” اتفقتا بموجبها على توزيع البلدات الجنوبية حصصا وراثية في ما بينهما. واستطرادا، تم تعطيل انتخابات روابط المخاتير في المناطق التي حصل فيها المستقلون على مقاعد اختيارية بالقوة، من قبيل تطيير نصاب الجلسة الأولى لإنتخابات رابطة مخاتير النبطية حيث حضر عشرون مختارا من أصل واحد وستين ينتمون للرابطة، بقصد استبعاد من توجب استبعاده والإتفاق على توزيع مناصب الرئيس ونائبه وأمانة السر بالرجوع إلى قانون حصر الإرث المعتمد. إن تأجيل مواعيد إنتخابات الإتحادات والروابط ليس إلا شكلا جديدا من أشكال تضييق الخناق على الناخب الشيعي ليتسنى للفريقين استكمال نهج مصادرة رأيه والإطباق على قراره المدني والأهلي بعد أن استفردا كليا بقرارته السياسية والعسكرية وأمكن لهما إزالة كل الشوائب العالقة بأذيال تحالفهما وتطهير ثوب التوافق المعقود من رجس المعترضين عملا بمقولة “من ليس معنا فهو حتما ضدنا”.
التوافق بين حزب الله وحركة أمل الذي قفز فوق إرادة المواطن الجنوبي وكمّ صوته يوم الإنتخابات في 23 أيار الماضي, يشرع لنفسه الحق في الصراع على رئاسة إتحادات البلديات وروابط المخاتير. فالمحرم على الناخب حلال على النافذين، ومنع الناس من حق الإختيار وحرية التعبير يقابله تعنت في حق الإختيار وتأخير إلزامي للإنتخاب ريثما يتم توزيع الحصص وفق قانون احتكاري خاص. هم الثنائي الشيعي في ذلك هو القضاء على محاولات التغيير المتنامية بجميع اشكالها وأحجامها في المجتمع الشيعي، خوفا أو توجسا من خصوبة ربما أزهرت أو أثمرت في مكان ما، وتطلّعاً إلى مزيد من قولبة هذا المجتمع وتأطيره في صورة نمطية موحدة وتحويل أفراده إلى نسخ مكررة في الأقوال والأفعال والقناعات تبدأ من تطلعات القادة وتنتهي عندها، علما أن ما حققه المستقلون في الإنتخابات البلدية حينها لم يكن فوزا رقميا بقدر ما كان رسما أوليا لخارطة تحولات جديدة في المجتمع الجنوبي، الأمرالذي أزعج الثنائي السائد، بعدما أحرجته صناديق الإقتراع وكشفت عن نسب غير مناسبة لحجم الإصطفاف السياسي الذي أعد للإستحقاق البلدي. وهذا، رغم الإمكانات المادية والأمنية التي سخرت له وما ألصق به من عناوين مصيرية فضفاضة، وما نتج عنه من تزكيات مريبة واجتهادات قانونية غير مسبوقة. لذلك فهو يسعى جاهدا إلى إقصاء المستقلين وتغييبهم، عله بإقصائهم يستعيد بعضا من عافيته المفقودة، أو يلمس في تكريس الثنائية وتبديد التعددية صحة في موقفه السياسي، هذا بعد أن أصبح المرض في نظره بديلا من العافية.
البلدات الجنوبية اليوم تنتظر تدفق مزاريب المساعدات العربية والدولية، و الميزانيات المرتقبة التي سوف تصرفها وزارة الداخلية للبلديات المنتخبة، لكنها لن تغير شيئا من واقعها الآخذ بالتخلف والتراجع على صعيد الإنماء. لأن المساعدات عادة ما تصب في جيوب المتمولين من الطرفين وتتعزز مقدرات الطبقة الأرستقراطية الشيعية التي نمت وتعاظمت بعد حرب تموز، والتي اعتادت على نهب الطائفة المحرومة لناحية الإعمار والإنماء كما سبق ونهبتها لناحية السياسة والإنتماء .
(الصورة من جريدة “الأخبار”)