لم يكن الإخوان مؤهلين لحكم مصر، لذا سقطوا بعد عام. لماذا لم يكونوا مؤهلين، وما معنى أنهم لم يكونوا مؤهلين، وكيف سقطوا؟ هذه هي الأسئلة، التي يطرحها المصري حازم قنديل، المحاضر في علم الاجتماع السياسي في جامعة كمبردج، ويحاول إجابتها في كتاب جديد بعنوان “داخل الجماعة”، صدر بالإنكليزية في تشرين ثاني (نوفمبر) الماضي.
وفي سبيل العثور على إجابات محتملة، اختار قنديل طريقة في البحث يختزلها عنوان الكتاب نفسه. لم يبحث تاريخ الجماعة من خلال ما كتبه آخرون عنها، وما كتبته وأشاعته عن نفسها، ولا من خلال محطات معيّنة في تاريخها، بل من خلال لقاءات مع أعضاء حاليين وسابقين، ودراسة منهاج التربية والتثقيف المُعتمد، وكذلك طريقة تنظيم الأعضاء، في أُسَر، ومناطق، حسب التوزيع المهني، والجغرافي، والتسلسل الهرمي، والعلاقة بين القيادة والقاعدة، وآليات الضبط والسيطرة، التي تحكم علاقة الجماعة بالمنخرطين في صفوفها.
وفي هذا السياق احتل منهاج التربية، الذي تعتمده الجماعة في تثقيف الأعضاء، وضمان عدم حدوث انشقاقات، مكانة خاصة في البحث. وهذا المنهاج عموما يتسم بالعداء لفكرة الثقافة، التي تعني تحريض الأعضاء على القراءة والاطلاع وطرح الأسئلة والبحث في الإشكالي أو المسكوت عنه. فالمنهاج يتجلى في أدبيات قليلة، تهيمن عليها كتابات حسن البنا، وسيّد قطب، وبعض الكتب المُعتمدة لكتاب إسلاميين.
والمطلوب من منهاجٍ كهذا تسليح العضو بقناعات أخلاقية، وسياسية، ودينية، راسخة ليكون طليعة الجماعة المؤمنة، التي إذا اكتمل إيمانها، ونجحت في التدليل عليه، ستحظى بمكافأة إلهية لتمكينها في الأرض. فكرة التمكين هذه مشروطة بالتدليل على صدق وصلابة الإيمان. لذا، يرى قنديل أن الجماعة لم تجتهد على مدار ثمانية عقود في طرح تصوّرات حول معنى ومبنى الحكم والدولة والاقتصاد والمجتمع. وهذا ما تجلى بصورة فادحة بعد وصولها إلى سدة الحكم في مصر، واكتشاف حقيقة فقرها وافتقارها لكفاءات إدارية وسياسية وفكرية تمكنها من التعامل مع وإدارة المجتمع، والاقتصاد، والسياسة، والدولة الحديثة.
وللتدليل على أمر كهذا، يحلل قنديل الخلفات التعليمية والأكاديمية لقيادات الجماعة، وأغلبها تخصصات في العلوم الطبيعية،ـ في ظل غياب واضح للتخصص في العلوم الإنسانية. وحتى بالنسبة لدراسة الحقوق، ووجود الكثير من المحامين في صفوفها، يرى قنديل أن المحامين غالباً ما كانوا شراً لا بد منه، فالجماعة تنظر إليهم بعين الحذر، ولكنها تحتاجهم للدفاع عنها في المحاكم.
علاوة على المرجعيات التعليمية والأكاديمية، يحلل قنديل التوزيع الجغرافي لقيادات الجماعة، خاصة في الشورى ومكتب الإرشاد، فيجد أن السمة الغالبية في العقود الأخيرة تمثلت في تعزيز هيمنة القادمين من مناطق ريفية، بينما تراجعت نسبة أبناء المدن والحواضر الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية، في الصفوف القيادية الأولى.
المهم، ربما كانت فكرة الحتمية الدينية، هي إسهام قنديل الأبرز في تحليل المخيال السياسي للجماعة، وهذه الفكرة تصلح لتحليل مختلف جماعات الإسلام السياسي. وموجز هذه الفكرة أن العناية الإلهية ستتكفل بتمكين المؤمنين، طالما ثبت إيمانهم، ونجحوا في التدليل عليه، أما الأخذ بالأسباب، مع كل ما يستدعيه من بلورة تصوّرات وبرامج اجتماعية وسياسية، فيقع خارج المخيال السياسي العام للجماعة.
لذلك، يشير قنديل إلى التصوّرات الميسيائية، والخلاصيّة، التي هيمنت على أعضاء الجماعة، ويهتم بشكل خاص بالأجواء السائدة في أوساط المعتصمين في ميدان رابعة، الذين اعتقدوا أن العناية الإلهية لن تتخلى عنهم، وأن عودة مرسي إلى القصر الجمهوري أكيدة ومضمونة، بدليل أحلام المنام، التي تكلّم عنها كثيرون على منصة رابعة، وفيها وعود بالتمكين، والعودة المُظفرة، خاصة وأن الاعتصام ترافق مع شهر رمضان، والذي وقعت فيه حوادث تاريخية كثيرة، اجتهد المعتصمون على استرجاعها والاستشهاد بها.
ولعل في هذا المخيال القِيامي، كما يرى قنديل، ما يفسر الصدمة المروّعة،ـ التي أصابت المُعتصمين، بعد نجاح قوات الأمن في فض الاعتصام، وتفريق المعتصمين. لم يتوقعوا تلك النتيجة، وانخرط البعض في أعمال عنف دموية تعبيراً عن الغضب واليأس والإحباط، بينما اعتقد البعض الآخر أن في هزيمتهم في رابعة ما يدل على أن إيمانهم لم يصح بعد، وبالتالي يندرج السقوط من سدة الحكم في باب العقاب والامتحان الإلهيين.
ويعتقد قنديل أن المصريين، الذين نبتت الجماعة في بلادهم قبل ثمانية عقود، ولم يسبق لهم أن تعاملوا معها في وضح النهار، بعيداً عن أجواء العمل السري، أو الدعاية الحكومية، أصيبوا بخيبة أمل صريحة بعدما اكتشفوا أن ما أشاعته الجماعة، وما شاع عنها، من تقوى وورع، لم يصمد في الواقع، وأمام اختبار الحقيقة، فقد راوغوا، وعقدوا الصفقات، وساوموا، وفعلوا كل ما من شأنه أن يوصلهم إلى سدة الحكم، من وراء ظهر الوطنيين الذين أشعلوا ثورة الخامس والعشرين من يناير.
وقد تفاقم إحساس المصريين بخيبة الأمل، عندما اتضح بعد وصول الجماعة إلى سدة الحكم، أنها لا تملك برامج لمعالجة المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية من ناحية، وأنها لا تتورع عن اتباع سياسات النظام السابق، وتسعى للتحالف مع ما تبقى منه من ناحية ثانية. لذا، يعتقد قنديل أن الموجة التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين في مصر استمدت زخمها من إحساس شعبي عميق بالخديعة، ومن الخوف على مستقبل مصر وحاضرها. وفي فصل خاص تقصى قنديل مصائر مشابهة لأذرع جماعة الإخوان في العالم العربي، بما فيها فلسطين، وكيف يحاول هؤلاء النجاة من الغرق.
المهم أن كتاب قنديل يفتح نوافذ إضافية نطل منها على جماعة الإخوان من الداخل، لنرى: كيف صعدت، ولماذا سقطت.
khaderhas1@hotmail.com