قد تختلف مع جلال أمين تارة في كتابه (التنوير الزائف) وقد تتفق معه تارة أخرى فيما يثيره من قضايا تتعلق بحركة التنوير العربي وتتمحور حول رموز التنوير ومساءلته لهم ونقده لأفكارهم ومقولاتهم . فهو يضع حركة التنوير العربي منذ ولادتها الأولى تحت مجهر الغربلة والتمحيص ، وقد ترى أحيانا أنه يذهب بعيدا ويقع في شرك ما يندد به وينتقصه ولكنه لا بد أن يحرض عقلك على التفكير ويحيي فضيلة الشك في أعماقك ، فتسير معه لا تلوي على شيء مهشما كثيرا من مسلماتك الثقافية وقناعتك العقلية ومتشككا ومتسائلا عن أخرى ، ورافضا الموافقة والتأييد لأفكار أخرى يرفع لواءها الكتاب بالكثير من الحماس والشعور الذي لا أشك أنه ينبثق من الرغبة في الدفاع عن الهوية العربية التي يراها تنتهك على أيدي بني جلدتها .
وهو يكاد يلخص قضية الكثير من المثقفين والكتاب وعلاقتهم بالغرب في شعورهم بالعار إزاء الغرب المتقدم ، فهذا الشعور في تقديره هو الحاكم بأمره في أفكارهم ورؤاهم ومواقفهم ، وهو الذي يجعلهم يتمثلون مفرادت الثقافة الغربية في تعامٍ مطلق عن العقلية النقدية التي ينادون بها ويدعون إلى زرعها في العقل العربي . فالعقل النقدي يمارس نشاطه فقط إذا ما تعلق الأمر بالتخلف العربي المحلي ، ولكنه يتقلص وينكمش ويفقد آلياته وأدواته النقدية إذا ما تعلق الأمر بالغرب المنزه عن كل نقيصة في عرفهم . وبهذا تفقد العقلية النقدية معناها وأهدافها لأنها تتشظى على ذاتها في محاولة بائسة للالتواء على الحقائق وتزييف الأمور فيضحي التنوير تجهيلا ، والمناداة بالحرية وحرية التعبير الغير مشروطة دعوة للانفلات الأخلاقي ، وتهشيم للقيم الثقافية الاجتماعية التي تحدد سمات وملامح شخصيتنا القومية، وتجاوزا وتبجحا يطال حتى المقدسات والثوابت فلا شيء يجب أن يقف في وجه حرية التعبير في منطقهم . ويتم ذلك في استلاب كامل ينتهي بهم بأن كل ما يصدر عن الحضارة الغربية خير مطلق وكل ما ينتمي للعرب والعروبة هو رمز للتأخر والتخلف .
ولعلي أتفق كثيرا مع جلال أمين فيما يذهب إليه خاصة ونحن نرى اليوم من كتابنا ومثقفينا ومفكرينا من يدافع عن الغرب وانتهاكاته لحقوق الإنسان ومحاولاته للهيمنة والسيطرة ، وإخضاع العالم قسرا وعنوة لمزاعم الرغبة في نشر الديمواقراطية ! بينما هي في حقيقة الأمر رغبة في السيطرة والإخضاع والإحكام على الثروات النفطية والطبيعية ، تحقيقا لمصالح الرأسمالية الأمريكية البرجماتية والدائبة البحث عما ينمي ويزيد من مواردها ورؤوس أموالها .
ولكن جلال أمين يحاكم حركة التنوير العربي في أولى خطواتها بمنطق اليوم وأحداثه وما تكشف لنا من عوارت ومثالب الحضارة الغربية في وقتنا الحالي ، والتي كانت مخبوءة دون شك في أوائل خطوات التنوير كما يعترف هو في فقرات من الكتاب . كما أنه يعمد بجرة قلم إلى تصنيف قامة كقامة المفكر المصري الراحل زكي نجيب محمود -على سبيل المثال- ليضعها في خانة أولئك الذين يشعرون بالعار تجاه الحضارة الغربية ، دون أن يضع براهينا أو يقدم حججا تثبت زعمه بل يعتمد في ذلك على شعوره ورأيه الشخصي فيقول أن زكي نجيب محمود كان يعاني من شعور عميق بالعار إزاء الغرب ، لم يفارقه حتى بعد أن بدأ يكتب تلك الكتب التي يقال إنه اعترف فيها بأهمية التراث !! وكأن جريمة زكي نجيب محمود في عرف جلال أمين أنه اهتم بتعريف القاريء العربي بكبار الفلاسفة الغربيين وشرح مناهجهم الفكرية والمدارس التي ينتمون إليها . فيتناسى تاريخ هذا المفكر الدؤوب ويختزله في إحساسه هو الشخصي أن المذكور يشعر بالعار نحو الغرب ، ويغفل كتب له بأهمية ( قيم من التراث ) ، ( وتجديد الفكر العربي ) ، ( وعربي ين ثقافتين ) والتي أماط فيها اللثام عن جميل قيم التراث وعظيم جوهرها مع اهتمامه بنقد التراث وتفكيكه وتحليله ، وهو يقع عنا في شرك ( تصغير الكبراء ) وهو الذي ندد به في كتابه وأفرد فصلا كاملا له .
ثم هو يرفض حرية التعبير الفني والأدبي الغير مشروطة ، خوفا من أن نصل إلى ما وصل إليه الغرب من انفلات أخلاقي وتجاوز وتهشيم لكل القيم ، وكأننا وصلنا إلى حرية التعبير كاملة غير منقوصة دون مقص رقيب يعبث بما ينتجه الأديب أو القاص ، ودون أن يلجأ الأديب إلى طباعة منتجه خارج حدود وطنه في أحيان كثيرة !و يتناسى أن عالمنا العربي السعيد يحارب الأديب على ما يفترض أنه يدور في خلده لا على ما يسطره قلمه في أحيان كثيرة ، وأن حمى التصنيف من الممكن أن تضع كاتبا أو كاتبة في خانة الفسقة والمفسدين بناء على رأي مسبق أو عبارة تقتطع من رواية أو عمل فني دون النظر إلى السياقات ، أو إلى أهداف ومقاصد العمل وما يعبر عنه بشكل شامل . والحقيقة التي يتجاوزها جلال أمين أيضا أن حرية التعبير الأدبي والفني تكاد تكون معدومة في كافة الأقطار العربية ، وأن على الأديب والكاتب أن يقدم الدفوع تلو الأخرى حتى يقدم عمله وحتى يدرأ عن نفسه وصمة الكفر والضلال ، في وقت يستسهل فيه الناس إطلاق الأحكام على عواهنها ولا يجدون حرجا في تكفير الناس وحشر الكثير من الأدباء والمفكرين في زمرة الضالين والمضلين !
ولعل أجمل فصول الكتاب هو ذلك الفصل الذي يدعو فيه جلال أمين إلى إعادة تصنيف الأصوليين والعلمانيين إلى متدينين ووثنيين . وفكرته تتلخص في تعريف المتدين على أنه من يملك اعتقادا تصاحبه عاطفة جياشة تؤثر في سلوكه تجاه فكرة مجردة لا يمكنه التدليل على صحتها بأدلة محسوسة ، بل يستند اعتقاده فيها إلى إيمان مسبق لا يشترط أن يكون بالطبع إيمان ديني ، وهو هنا يؤكد أن هذا التعريف ينطبق على المتدين بالمعنى الشائع كما ينطبق على كثير من العلمانيين وحتى الكفار ، كونهم كثيرا ما ينطلقون من فكرة مجردة لا يمكن إثباتها. وهنا ينقسم المتدين أيضا إلى معتدل وأصولي ومتطرف. ويعرف الكاتب الوثني أنه ذلك الذي يحمل عاطفة جياشة تؤثر في سلوكه ولكن موضوع هذه العاطفة شيء محسوس كصنم من الحجر أو قبر أو شخص بعينه . فيعامل الوثني هذا الشيء المحسوس كما يعامل المتدين فكرته المجردة . والوثني أيضا تستطيع أن تجده في صفوف العلمانيين كما من الممكن أن تجده بين الأصوليين . وفائدة هذا التصنيف تتجلى في التأكيد على حقيقة أن هناك متدينين حقيقيين ومتدينين وثنيين ، كما أن بين العلمانيين متدين ووثني .
جلال أمين يشعل الكثير من القضايا المهمة في مشهدنا الثقافي في كتابه المثير للجدل ( التنوير الزائف ) ، ولعل أهم ما في هذا الكاتب أنه يهشم الكثير من المقولات الثابتة ويرفع الحصانة عن الكثير من الرموز الثقافية ويرفض شخصنة الأفكار، ليؤكد أنه لا يوجد مطلقا من هو فوق مستوى النقد .
Amal_zahid@hotmail.com
* كاتبة سعودية