أمّا الذكريات العامّة – ذكريات الأمم والشعوب – وبكلمات أخرى، التاريخ، فهي شأن عام حريّ بنا أن نتطرّق إليها علانية. بلا أدنى شكّ، فإنّ عمليّة التذكّر هي عملية انتقائية دائماً. هنالك أمور قد تندثر أو قد يتلاشى ذكرها فتُدفن في غياهب النسيان، وهنالك أمور أخرى تنتشلها الذاكرة لتتصدّر المشهد أمام ناظري الفرد أو المجموع.
لقد مرّ هذا العام الذي سينصرم بعد قليل مخلّفاً لنا كلّ هذه الحال العربية التي لم تلتئم جراحها بعد. وعلى ما يبدو فإنّها حال تشي بأنّ هذه المآزق مرشّحة للاستمرار والامتداد لسنوات طويلة مقبلة. فإذا أمعنّا النظر في حال التفتّت هذه التي ضربت أصقاعاً شتّى في هذه البقعة من الأرض، فماذا نحن واجدون؟
لقد مرّ هذا العام كسابقيه من أعوام هذا «الربيع» الذي لم يأت بنبت، لم يونع زهراً ولم ينتج ثمراً. بل على عكس ذلك تماماً، فلا يزال هذا «الربيع» يهدم حجراً ويقتل بشراً في مشارق هذه البقعة من الأرض ومغاربها.
لقد تفتّتت أقطار هذا «الربيع» بـ «شعوبها» المزعومة وتفرّقت أيدي سبأ عائدة إلى تركيبتها الإثنية والقبلية والطائفية المتأصّلة. فها هو العراق لم يتبقّ منه غير الاسم. وها هي سورية الدامية منذ سنوات قد أضحت ركاماً بشريّاً وعمرانيّاً، وتشتّتت أطياف ناسها إلى أجل غير مسمّى. أمّا اليمن «السعيد» فقد عاد تعيساً بائساً مركوناً على هامش جزيرة العرب ينتظر خلاصاً لن يأتيه في مستقبل منظور. وها هي ليبيا تكتشف أصلها وفصلها القبلي السابق لكلّ سيرورات التشكّل المجتمعي.
أمّا عن لبنان، فحدّث ولا حرج. إنّ حال هذا البلد هي الحال العربية الأصل في الحقيقة، وهي التي انتصرت في هذا «الربيع» العربي. فحال هذا البلد كحال رئاسته المتقاعدة المتباعدة منذ مدّة طويلة. إنّ حالة العجز الطائفي في لبنان قد أضحت مرضاً مزمناً لدرجة أنّهم لا يستطيعون انتخاب رئيس واحد لهم. كم زعيماً طائفيّاً وقبليّاً يحمل لقب «رئيس» في هذا البلد؟ ففلان رئيس وعلاّن رئيس إلى آخر قائمة زعماء الطوائف.
وأخيراً، كما يقال، فالأقربون أولى بالمعروف. فقد يسأل سائل: ماذا في شأن القضيّة الفلسطينية؟ والإجابة عن ذلك ستكون بالطبع بواسطة تساؤلات: ماذا تقصد؟ وعن أيّ قضيّة تتحدّث؟ والسبب من وراء ذلك أنّ هذه القضية لم تعد تعني أحداً في هذا العالم. فها هو العالم العربي، كما أسلفنا، مشغول بقضاياه المستعصية التي لا يبدو أنّها تمضي إلى حلول معقولة. كما أنّ العالم الآخر مشغول بقضاياه. وإذا كان الفلسطينيون أنفسهم قد أضحوا مشتّتين منفصلين في كيانين هشّين لا رابط بينهما، فماذا ينتظرون من العالم أن يفعل، إذا كانوا هم أنفسهم لا يعرفون كيف يتصرّفون كشعب موحّد بقيادة موحّدة تتعامل مع القضيّة بإستراتيجية واحدة؟
إذن، والحال هذه، غنيّ عن التأكيد في هذا السياق أنّ نكبة الفلسطينيين الكبرى مردّها إلى هذه القيادات الفلسطينية البائسة من دون استثناء.
هكذا، إذن، أضحى هذا العالم العربي رجل العالم المريض، على قارعة الطريق، منكوباً بذهنيّات زعاماته الطائفية والقبليّة التي لا تستطيع منها فكاكاً. لقد مرّت عقود طويلة لم تفلح فيها هذه الزعامات في أن تبني دولاً أو تخلق شعوباً، بل ظلّت رهينة المحابس المتجذّرة في ذهنيّاتها. وخلاصة الكلام، لقد انصرم عام آخر والحال العربية الراهنة هي شاهد بارز على فشل ما يُسمّى «القومية العربية». إنّ أحوالنا لا تبشّر بأيّ خير لعقود طويلة مقبلة. كم كان بودّي أن أبعث بعض الأمل في نفوس القارئ العربي! غير أنّني لا أجد سبيلاً إلى ذلك البصيص في هذا النفق العربيّ المدلهم. أليس كذلك؟