شن مفتي السعودية، مساء الخميس الماضي، هجوماً كاسحاً على مَنْ أسماهم “منتقدي ولاة الأمر”، قائلاً إن: “نقد الولاة علناً، وعلى المواقع والمحطات الفضائية الشريرة، ونقد المجتمع علناً، خطأ ومِنْ فساد الأخلاق والعقيدة”.
بعد يومين، أي مساء السبت، اجتمع القضاة في نادي قضاة مصر، احتجاجاً على قرارات للرئيس المصري، رأوا فيها اعتداء على استقلالية القضاء، ومحاولة لمصادرة واحتكار سلطات لا تدخل في صلاحيات الرئيس. وقد ترافقت مواقف القضاة مع مظاهر متلاحقة للاحتجاج عبّرت عنها شرائح اجتماعية مصرية تُوصف في اللغة الدارجة بالقوى الليبرالية والعلمانية ودعاة الدولة المدنية. وينبغي أن نضيف، هنا، أن مفتى السعودية شن أيضاً هجوماً على المطالبين بالدولة المدنية قائلا إن هؤلاء: “شرذمة من البشر تحاول الطعن في هذا الدين بحجج واهية، وشعارات زائفة”.
القاسم المشترك بين هجوم مفتي السعودية على منتقدي “ولاة الأمر”، وهجوم القضاة المصريين على قرارات رئاسية رأوا فيها تهديدا لاستقلالية القضاء، أنهما من تجليات الصراع على هوية الدولة. أما الفرق بينهما فيتمثل في أن المفتي يدعو إلى تعزيز هوية الدولة السعودية بصفتها الحالية، بينما ينخرط القضاة المصريون، ومعهم قوى اجتماعية مختلفة، في معركة عنوانها هوية الدولة المصرية القادمة.
يتجاوز كلا الأمرين حدود الدولتين السعودية والمصرية. فمن المنطقي، أن يكون نموذج “ولي الأمر” و”الرعية” صالحاً لغير السعوديين، أيضاً، طالما أن مسوّغاته مستمدة، في نظر مفتي السعودية، من صحيح الدين، وطالما أن رأس المال النفطي والرمزي قادر على تحويل الأقوال إلى أفعال. ومن المنطقي، أيضاً، أن يهدد الصراع على هوية الدولة في مصر، باحتمالات واقعية “للعدوى”، أي أن يتجاوز حدود وخصوصية الحالة المصرية، وأن يجد ما يكفي من “الأنصار” في بقية البلدان العربية.
بمعنى آخر: يدور الصراع على هوية الدولة. وأزعم أن هذا الصراع جديد، على الرغم من حقيقة أن “الدولة” السعودية حاولت الدفاع عن نموذجها وتسويقه على مدار سبعة عقود مضت، وعلى الرغم، أيضاً، من حقيقة أن الناصريين والبعثيين والقوميين حاولوا الدفاع عن، وتسويق، نماذج مغايرة للدولة، خلال الفترة نفسها.
ولكن كيف يكون الصراع جديداً، وقد اعترفنا بتاريخه الطويل؟
الصحيح أن عنصراً جديداً يقتحم الآن، ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي، المشهد السياسي في العالم العربي، وهذا يحدث بوتائر مختلفة، استناداً إلى خصوصية هذا البلد أو ذاك، ومدى نضج المجتمع وتقاليده وقواه السياسية.
وأعني بالعنصر الجديد أن كافة الصراعات السابقة دارت في الواقع حول هوية النظام وليس هوية الدولة، على الرغم من الخلط بين الاثنين، وقد كان متعمداً في حالات بعينها، أو كان الفرق بين النظام والدولة غائباً في مناطق لم تتحوّل بعد إلى دول بالمعنى الحقيقي للكلمة، رغم العلم والنشيد وعضوية الأمم المتحدة.
ولكن كيف يتجلى العنصر الجديد في الواقع، وما هي تعبيراته السياسية والثقافية؟
هذا العنصر يمكن العثور عليه باعتباره خلاصة لعوامل مختلفة من بينها: أولاً، أن كافة أشكال الصراع على السلطة، التي عرفها العالم العربي قبل الثورات الأخيرة، امتزج فيها “الوطني” ب “القومي”، بينما انفصل هذا عن ذاك في كل التحوّلات الراديكالية على مدار العامين الماضيين. هذا لا يعني، بطبيعة الحال، ألا تستنكف هذه القوة أو تلك عن لعبة خلط الأوراق في سياق الصراع على هوية الدولة، ولا يعني حتى أنها لن تنجح لفترة قد تطول أو تقصر.
ثانياً، انفصال “الوطني” (الداخلي: الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية) عن “القومي” (الخارجي: العروبي، الوحدوي، تحرير فلسطين، والتصدي للتغريب الهيمنة..الخ) تحقق من خلال لحظة نادرة في التاريخ السياسي العربي، لحظة نـزول ملايين من البشر إلى الشارع، وهي اللحظة التي كان يستحيل التفكير فيها قبل وقوعها بأيام قليلة، وتبدو بعد وقوعها لحظة غير قابلة للتكرار. أثارت لحظات كهذه حيرة وفضول أفضل العقول في القرنين التاسع عشر والعشرين، وما تزال مصدر فتنة وإثارة حتى الآن. لم يسبق “للقومي” أن تمكن من توليد لحظة كهذه. وهذا الخاص، فقط، هو الذي سيمكّن المجتمع من الانخراط في الشرط الإنساني العام، أي التعامل مع مفاهيم مثل الفصل بين السلطات، وحقوق الإنسان بما فيها المواطنة، على أساس المساواة المطلقة، وحرية التعبير، وتداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، باعتبارها جزءاً من منظومة القيم الكونية السائدة، المحكومة بضوابط ومرجعيات قانونية وهيئات عابرة للحدود الإقليمية أولاً، ومن مكوّنات الدولة الحديثة ثانياً. بكلمة واحدة: الخصوصية تراجعت والكونية تقدّمت.
ثالثاً، الديمومة، وأعني بذلك أن اللحظة الثورية الأولى، حتى وإن لم تكن غير قابلة للتكرار، تخلق ديناميات نفسية وسياسية ورمزية تواصل الحياة بطريقتها الخاصة، وعلى مدار عقود طويلة من الزمن. وهذا معنى القول إن التحوّلات الثورية تحتاج إلى عقود طويلة قبل اتضاح مدى وحجم ما غيّرت في الواقع. وفي هذا السياق يمكن اعتبار الصراع الدائر حالياً في تونس ومصر وبلدان عربية أخرى بين قوى الإسلام السياسي، و”القوى المدنية” من التجليات المحتملة لتلك الديناميات الفريدة والخاصة.
تحيل هذه السمات مجتمعة إلى حقيقة مفادها أن ما كان قبل ثورات الربيع العربي لن يشبه ما بعدها. بيد أن هذا لا يعني أن حسم الصراع على هوية الدولة سيكون سريعاً وحاسماً. وإذا كان ثمة من خلاصة، فلنقل إن مصر التي شهدت ولادة الإسلام السياسي في أواخر عشرينيات القرن الماضي، كرد على انهيار الخلافة، هي التي ستشهد هزيمته التاريخية. متى وكيف، لا أحد يعرف على وجه اليقين.
كان الإسلام السياسي القوّة الوحيدة التي امتلكت منذ البداية تصوّراً أيديولوجياً لهوية الدولة، بينما كان خصومه مشغولين بهوية النظام، وبعدما تمكّن من الوصول إلى سدة الحكم، فقد أصبح التنازل عن تصوّره الخاص ثمن البقاء فيها. مفارقة يمكن تفسيرها، ضمن أمور أخرى، بمكر التاريخ. أما كلام مفتي السعودية فمجرد وسيلة إيضاح للكلام عن الماضي الذي لم يمضِ تماماً، والجديد الذي لم يولد بكامل جلاله بعد.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
جديد اسمه الصراع على هوية الدولة..!!
شكرا لصاحب المقال