(1) البعد الأيديولوجي
في سابقة هي الأولى منذ إنشاء جامعة الدول العربية انعقد في ديسمبر عام 2002 المؤتمر الثقافي العربي الأول تحت رعاية الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، وشارك في أعمال المؤتمر الذي رفع شعار “حوار الحضارات تواصل لا صراع”| العديد من ممثلي النخب الثقافية، ومؤسسات المجتمع المدني (غير الحكومية) العربية. وأتى ذلك الاجتماع غير العادي في سياق السعي لتحديد وصياغة رؤى وموقف ثقافي عربي مشترك إزاء ما يواجهه العرب والمسلمون عموما من تحديات مصيرية تهدد وجودهم ومستقبلهم في الصميم، خصوصا في ضوء تداعيات أحداث 11سبتمبر المأساوية، وما أحدثته من تبدلات وتطورات خطيرة، شملت ميدان العلاقات الدولية بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والثقافية، وحيث يجري على نطاق واسع تفكيك وإعادة صياغة وبناء لعلاقات القوة والسيطرة. للتحالفات والصراعات على المستويين العالمي والإقليمي بأبعادهما الجيوسياسية والجيوعسكرية ناهيك عن تداخل المصالح الاقتصادية القديمة منها والجديدة. والتي تمثلت في مبدأ الرئيس جورج بوش الابن وسياسات المحافظين الجدد الذين احكموا سيطرتهم على الإدارة الأمريكية، والتي تمثلت في إستراتيجية الحروب الاستباقية والحرب المفتوحة على الإرهاب التي وضعت موضع التنفيذ، كما يعود العامل أو البعد الأيديولوجي (باعتباره تزيفا للواقع) ليحتل موقعه بامتياز في اطارسعي الولايات المتحدة لاعطاء مظلة ومشروعية دولية للحشد العسكري الدولي تحت قيادتها لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان، ثم قيامها منفردة مع حليفتها التابعة (بريطانيا) لغزو واحتلال العراق واسقاط نظام صدام حسين. وقد تمثل البعد الإيديولوجي في التالي: إن التناقض الرئيسي في العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتحقيق الانتصار النهائي لليبرالية الغربية انتقل وتموضع في إطار عالمي جديد للصراع، يتمثل في تنافس وصدام الحضارات وفقا لصموئيل هنتجون وبرنارد لويس وغيرهما من أيديولوجيي الليبرالية الجديدة والمحافظين الجدد المهيمنين في عدد مهم من معاهد الابحاث و الدراسات الإستراتيجية، والصحف الكبرى، وعبر مراكز الضغط (اللوبيات ) من المسيحيين/ الصهاينة الجدد ذات التأثير والنفوذ الواسع على صناع القرار في الإدارة الأمريكية، ومجلسي الكونغرس، والرأي العام الأمريكي , ومع إن هنتجون حدد 8 نماذج حضارية مرشحة للتنافس والصراع غير انه اعتبر إن شكل تجلي التناقض الرئيسي في هذه المرحلة التاريخية يتحدد بين الحضارة الغربية وما تمثله من خيارات ومنجزات وقيم، وبين الحضارة الإسلامية التي تمثل النقيض على طول الخط لها. هذا الطرح الأيديولوجي الفاقع يدحض أطروحات غربية أخرى ( فوكوياما) ترى بأن نهاية التاريخ قد اكتملت بالانتصار النهائي للرأسمالية، وقوى السوق على المستوى العالمي رغم الإقرار بوجود أنماط هامشية ما قبل الرأسمالية في بعض البقاع الثانوية والمعزولة، وهذا الانتصار أنهى وجود الايديولوجيا بوجه عام لصالح الليبرالية والبراجماتية ( النفعية ) الاقتصادية. وفي الواقع فأن البعد الإيديولوجي والاستقطاب العقائدي المشبع بالعدوانية وغطرسة القوة والهيمنة (الامبريالية) لم ينتف أو يضعف على الإطلاق في الخطاب الأمريكي، بل تصاعد مع العولمة أو “الامركة” وفقا لنقادها، ومناهضي تسلطها وسيطرتها المطلقة على مقدرات الشعوب والمجتمعات قاطبة. هذا الخطاب الإيديولوجي اتخذ أبعادا خطيرة بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية لاقترانه بتنفيذ سياسة هجومية ذات أبعاد عسكرية، أمنية، سياسية،وثقافية اختزلت هذه الايدولوجيا إلى مقولات صارخة ومباشرة مثل “ زلة اللسان “ التي تفوه بها الرئيس بوش حول “ الحرب الصليبية “ أو تساؤله “ لماذا يكرهوننا “؟ ويجيب “ لأنهم يكرهون حريتنا وثراءنا وقيمنا “ وضمن هذا السياق تقسيم الرئيس الأمريكي العالم إلى ابيض واسود، وأن الصراع الاساسي هو بين معسكر الخير الذي تقوده الولايات المتحدة، ومحور الشر الذي يضيق ويتسع وفقا للمصالح الأمريكية الثابتة، والتي اختزلها جورج بوش في مقولة “ من ليس معنا في الحرب على الإرهاب فهو ضدنا “. ومع إن الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية حاولت التفريق بين الإرهاب من جهة والإسلام والمسلمين من جهة أخرى، ودعت إلى احترام وحماية العرب والمسلمين المهاجرين في بلدانها، غير إن مجمل التشريعات والقوانين الجديدة المقيدة للحريات المدنية تحت عنوان مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية كانت موجهة في المقام الأول ضد العرب والمسلمين، ومنظماتهم وتجمعاتهم داخل الولايات المتحدة والدول الغربية وخارجها، كما أخذت الأصوات والشعارات العنصرية التي تطالب بالانتقام، والثأر من العرب والمسلمين تتزايد و تتصاعد من قبل القوى والتيارات اليمينية، الفاشية، والدينية المتطرفة التي دأبت على بث روح الكراهية والعداء للأجانب بدوافع سياسية، اقتصادية،اجتماعية، أيدلوجية، ثقافية، وعنصرية، ولا ننسى هنا الدور الذي مارسته تجمعات ومراكز التوجيه والتأثير الإعلامي والاقتصادي والسياسي اليمينية أو الواقعة تحت تأثير اللوبيات اليهودية والصهيونية في استغلال أحداث سبتمبر الإرهابية، والنتائج السلبية و الخطيرة لتنامي وتصاعد وامتداد الإرهاب “ الإسلامي “ وجرائمه ليشمل المجتمعات العربية والإسلامية وعلى الصعيد العالمي على حد سواء لرسم صورة نمطية سوداء وكريهه عن العرب والمسلمين، المتعطشين للدماء، والمعادين بفطرتهم، ونمط مجتمعاتهم،و تفكيرهم للحضارة الغربية وقيمها الحضارية والثقافية، وتحميلهم وزر كل ما يعتمل ويمور في مجتمعات الغرب من تناقضات وأزمات، مثل تفاقم البطالة،الفقر، تدني مستوى الأجور، انتشار المخدرات والجريمة المنظمة، وتصاعد وتيرة العنف والتطرف والإرهاب. وفي المقابل فإن قوى التطرف والتكفير من الجماعات الاسلامية المتشددة، وممارساتها الإرهابية، المتمترسة خلف شعارات إسلامية على غرار “ الحاكمية لله “ و “ الإسلام هو الحل “ وطرح مقولات “ الولاء والبراء” و “ دار الحرب ودار الإسلام “ و “ حربي الدفع و الطلب “ و “ حرب الفسطاطيين بين الكفر والإسلام “ بعد اقتطاعها من سياقاتها الشرعية والتاريخية، أو تأويلها بصورة تعسفية خدمة لأغراضها واستهدافاتها (السياسية والأيدلوجية) المحلية والكونية. تلك الأطروحات والمواقف التي اخذت تحتل صدارة المشهد العالمي وما نجم عنها من ممارسات بشعة و تدمير و عنف دموي شرس و منفلت، ضمن بيئة عربية تتسم بالركود والتخلف الاجتماعي، والريع الاستهلاكي الاقتصادي، والانحباس والاستبداد السياسي، والتكور والانغلاق الثقافي، والضعف والتبعية للخارج، ما اسهم في تظهير هذه الصورة القبيحة عن العرب والمسلمين، والتي تشكل الوجه الآخر للعملة (الإيديولوجية) ذاتها. وهو ما أتاح لأيديولوجي عنصري مثل رئيس الوزراء الايطالي السابق بيرلسكوني القول إن الحضارة الإسلامية منحطة، وإنها أدنى من الحضارة الغربية المتفوقة على مستوى الأخلاق والقيم (وعلى غرار جورج بوش الابن تنصل بيرلسكوني من تصريحاته أمام حدة الانتقادات الداخلية والخارجية). السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ماذا بوسع العرب والمسلمين أن يفعلوا لامتصاص الهجمة (المتعددة الأبعاد) الشرسة التي يتعرضون لها، ومجابهة الاستحقاقات المصيرية الداخلية، و التحديات الخارجية التي تواجههم؟
وكيف يستطيع الخطاب والسؤال الثقافي العربي احتواء وامتصاص البعد الاديولوجي الحاد والأستئصالي للصراع المتبادل بين الأنا والأخر، عبر تجسيد فكرة “ حوار الحضارات تواصل لا صراع “ الذي طرحه مؤتمر المثقفين العرب، وبالتالي تأصيل جدل العلاقة ما بين الخصوصية والكونية؟. وهو موضوع المقال القادم جدل الثقافة بين الخصوصية والكونية/ الأنا والآخر
**
(2)
على الضد من مقولة الفيلسوف الألماني هيجل ” كل ما هو واقع فهو معقول وكل ما هو معقول فهو واقع” وبقصدية (غير منهجية) أرى أن اللامعقول هو الواقع، والواقع لا معقول، لدى إطلالتنا ومقاربتنا للمشهد العام المحبط والبائس بأبعاده المختلفة (وضمنه البعد الثقافي) للعالم العربي. فمنذ أواسط القرن التاسع عشر والمشروع أو بصورة أدق المشاريع النهضوية التجديدية تراوح مكانها، إن لم تنتكس وتتراجع في جوانبها الأساسية الحاسمة، فجهود مفكري ورواد الإصلاح والنهضة في بناء وترسيخ قيم الحرية، العقلانية، التنوير، التقدم، والوحدة القومية اصطدمت منذ البداية بعوائق وعقبات موضوعية وذاتية بطبيعة الظروف السائدة آنذاك، السلطة العثمانية، ثم الاستعمار الغربي، والأنظمة المرتبطة به، ومحدودية مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
الأمر الذي أدى إلى غياب الحامل والتكوين الاجتماعي الحديث الذي يسنده، إلى جانب الاندماج (التابع) المتزايد في السوق والنظام الرأسمالي العالمي. عجزت تلك المشاريع لأسباب تاريخية مختلفة من توليد نسق من المفاهيم والمقولات الجديدة التي تستجيب لخصائص وظروف تشكل وتطور المجتمعات العربية، لذا ظلت أسيرة الإسقاط اللاإرادي لنموذج الآخر- الغرب على الواقع العربي المغاير، أو محاولة التوفيق والمواءمة ما بين مكونات الهوية والتراث من جهة وبين الأخذ الانتقائي لمظاهر تقدم ونهضة الغرب.
الموقف من الغرب
الموقف من الغرب كان ملتبسا منذ البداية، فهو من جهة الغرب القوي والمتطور صناعيا وثقافيا وحضاريا، وتسود مجتمعاته قيم الحرية والعقلانية والديمقراطية، ومن جهة أخرى فهو الغرب الاستعماري المتعالي الذي مارس سيطرته واستبداده الوحشي بحق الشعوب العربية، ونهب واستباح خيراتها، وحد وعرقل من تطورها وتقدمها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويدرج ضمن هذا السياق، تصدى الغرب بقوة لمشروع محمد علي النهضوي المستقل، والعمل على تحجيمه، وإجهاض مشروع الدولة العربية الكبرى في أعقاب تفكك السلطة العثمانية، ومن ثم وقوع معظم البلدان العربية تحت نير السيطرة الاستعمارية (البريطانية الفرنسية) الغربية وفقا لمعاهدة سايكس بيكو.
صورة المستعمر الأوربي كانت الأكثر حضورا لدى الشعوب العربية، الأمر الذي حفز المزاج الشعبي والنخب العربية (الشعبوية) الفاعلة الرافضة لا للحالة الاستعمارية ومظاهرها السائدة فحسب، بل لنظمها وقيمها. اخذين بعين الاعتبار الظروف التاريخية، الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية التي تشكلت على أرضيتها البرجوازية (كمبرادورية تابعة) وعلاقاتها المتشابكة والمتداخلة بعلاقات الإنتاج الإقطاعية وشبه الإقطاعية التقليدية، و حتى ما قبلهما، وخصوصا على صعيد السياسة والأفكار. والأمر ذاته انسحب بدرجات ولكن بدرجات اقل بالنسبة للفئات الوسطى في المجتمعات العربية، وهو ما وسمها بطابع المحافظة، والازدواجية والانتقائية، ونشير هنا إلى دور مستوى الوعي والإدراك المتدني للغالبية الساحقة من الناس، ونفسيتهم الاجتماعية (الرعوية )، وذاكرتهم التاريخية (النصية والنقلية )، وتراثهم المشبع بالخيال، الأسطورة، والترميز الممتد عميقا والمتحكم بوجودهم وتفكيرهم وسلوكهم كمجتمع أبوي (بطريركي).
انسداد الأفق
مما تقدم يتبين لنا كيف واجه المشروع النهضوي العربي منذ بداياته انسداد الأفق التاريخي، و أزمته البنيوية. السؤال المطروح هنا: هل كان ذلك بالنسبة للمجتمعات العربية قدرا لا فكاك منه؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا استطاعت شعوب ومجتمعات بلدان أخرى في آسيا (اليابان ثم الصين والهند وبلدان جنوب شرق آسيا) وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، رغم انطلاقتها من مقدمات وزمن أكثر تأخرا وتخلفا من المنطقة العربية أن تحقق خطوات ومنجزات حضارية حقيقية في كافة المجالات ؟ على المستوى السياسي أدى كفاح الشعوب العربية لنيل استقلالها، وتحقيق سيادتها الوطنية، إلى بروز ثم ترسيخ الدولة الوطنية (القطرية)، ومع موضوعية وضرورة هذه العملية تاريخيا إلا أنها شكلت بداية الانتكاس في المشروع القومي العربي، إذ أصبحت العلاقة ما بين القطري، والقومي المحور الرئيس الذي تتمفصل عليه كافة مشاريع العمل العربي المشترك، وكافة الصراعات والتناقضات أيضا. وبذا فقد تحققت عملية قطع تاريخي لقيام وتبلور اللأمة العربية في إطار دولة مركزية واحدة، بخلاف ما تم في مناطق عديدة من العالم قديما وحديثا. فالأمة العربية هي من الأمم القليلة في العالم التي لم تحقق وحدتها القومية بعد. وإذا كان هناك ما نضيفه في هذا السياق، فهي التجربة التاريخية المتميزة لعملية توحيد معظم شبه الجزيرة العربية، منبع العرب والعروبة والإسلام، التي قادها المؤسس الراحل عبد العزيز آل سعود، أخذين بعين الاعتبار حدودها وشروطها التاريخية، والمهمات المعقدة الملقاة عليها في سيرورة الانتقال من الكيان- الدولة، إلى الكيان- الوطن. كذلك التنويه إلى التجربة الوحدوية الناجحة لدولة الأمارات العربية المتحدة.
من نتائج ذالك توطد وثبات مواقع الدولة الوطنية (القطرية )في موازاة ضمور المشروع القومي، خاصة بعد إخفاق المحاولات الوحدوية الجدية (الوحدة المصرية السورية) أو الاستعراضية (على طريقة القذافي) وذالك لأسباب عديدة، أبرزها إغفال وتجاهل المصالح والتباينات الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية (القطرية )والقفز عليها , وفرض وتحقيق المشاريع الوحدوية بأساليب فوقية واستعراضية بعيدة عن المشاركة الشعبية، ولا ننسى بالطبع مؤامرات وضغوط الاستعمار و إسرائيل في إجهاض معظم التجارب الوحدوية. كما إن التجمعات الإقليمية للتعاون العربي على غرار الاتحاد المغاربي ( المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا)، والاتحاد العربي ( مصر والعراق واليمن والأردن) فشلت هي الأخرى في تحقيق الحد الأدنى المطلوب من التنسيق والتكامل بين دولها، وانفرط عقدها فعليا أو عمليا في مواجهة الصدامات والأزمات الداخلية (الخلاف المغربي / الجزائري حول الصحراء) و (غزو و احتلال الكويت من قبل نظام صدام حسين). ونستثني هنا تجربة ومسيرة دول مجلس التعاون الخليجي (رغم المآخذ الكثيرة عليها) المستمرة حتى الآن، و التي نتمنى لها النجاح وتجاوز الكثير من المعوقات والألغام التي تعترضها.
ظاهرة الانقسام
في الواقع فإن الوضع العربي العام يتسم وعلى نحو غير مسبوق بتعمق ظاهرة الانقسام، الاستقطاب، المواجهة، والاحتراب، ليس بين مكونات النظام العربي الرسمي فقط، بل وعلى مستوى غالبية الشعوب والمجتمعات العربية بنخبها، وأطيافها، ومكوناتها الأثنية، والدينية، والمذهبية، والثقافية، مما أدى إلى اختلال وإرباك وتدهور العلاقة الصحية والصحيحة بين الذات والأنا (وطنيا)، وبين الأنا والأنا (قوميا) وبين نحن والآخر (كونيا)، الأمر الذي أدى إلى إضعاف مجمل النظام العربي إزاء التحديات الدولية والإقليمية، الى تفاقم التشطير والتذرير والاحتراب (مناطقيا وقبليا ودينيا ومذهبيا) في داخل المجتمعات العربية، وضمور وانكشاف شرعيات معظم النظم والمرجعيات، و الفشل الذر يع في تحقيق وترسيخ قيم ومفاهيم الحرية، التنمية، الإصلاح، المواطنة، العقلانية، والتحديث.
الشعار المركزي للمؤتمر الأول للمثقفين العرب احوار الحضارات تواصل لا صراعب يستلزم توفر ونجاح اشتراطاته الداخلية أولا وهو مدى التقدم المتحقق والمحرز على صعيد الحوار والقبول والتسامح المتبادل بين الذات و الأنا، والأنا والآخر.
**
(3) جدل الثقافة بين الخصوصية والكونية
هناك العديد من الأطروحات التي ترى ان عالم اليوم لامكان ولا مستقبل فيه للدول الفرادى، والمجتمعات المنعزلة خلف اسوار حديدية، وبأن عصر السيادة الوطنية قد ولى لصالح سيادة كونية جديدة (العولمة) تقودها الشركات متعددة الجنسية، والبنوك الدولية، ومنظمة التجارة الدولية. وان الحدود ووسائل الممانعة القديمة قد تحطمت او ضعفت الى حد كبير، وفي سبيلها للاندثار. السيادة الفعلية ضمن هذا المفهوم (العولمة) لهذه الحكومة المركبة الخفية التي تقود العالم، والتي هي نتاج تطور موضوعي استطاعت من خلالها الرأسمالية العالمية التكيف مع ازماتها الهيكلية والدورية، وتطوير وتشديد آليات هيمنتها (خصوصا بعد فشل وسقوط «النموذج الاشتراكي» البيروقراطي السوفيتي المنافس) وذلك بفعل ديناميكيتها الذاتية، والتدويل المتعاظم للانتاج، التجارة، الخدمات، المال، والتطور المذهل للثورة العلمية، التكنولوجية، المعرفية، والدور المتعاظم لدور وتأثير عولمة الدعاية والاعلام والاتصالات التي حولت العالم الى قرية صغيرة. ناهيك عن بروز الاسواق والتكتلات الاقتصادية والسياسية القارية والاقليمية الكبرى. وفي الواقع أن العولمة اصبحت حقيقة، وحالة موضوعية قائمة لايمكن تجاهلها او القفز عليها، بغض النظر عن تناقضاتها الداخلية العميقة،ومثالبها وافرازاتها الخطيرة على الصعيد الكوني، وبالتالي لم تعد كافة الدول والمجتمعات الغنية او المتخلفة في الآن معا تمتلك القدرة على منع مفاعليها وتأثيراتها المتناقضة، وذلك تحت ذريعة هذا العامل او ذاك ومن ضمنها وفي مقدمتها ذريعة «الخصوصية» بل لابد من التعاطي والتفاعل الواقعي معها من خلال تحسين وتطوير الشروط والظروف الذاتية والموضوعية للتعامل معها، على اساس مستوى معقول ومقبول من الندية كما هو الحال في الدول المتقدمة، وليس من منطلق الاستتباع، وغياب الارادة المستقلة، او السير الاعتباطي في ركابها، وهو ما ينطبق على غالبية البلدان المتخلفة في العالم التي يطلق عليها البلدان النامية.
العولمة والمركزية الغربية
فالعولمة تسعى الى فرض نموذجها الرأسمالي على العالم من خلال الاقتصاد والسياسة والثقافة وتعميم قيم الليبرالية الجديدة مثل اقتصاد السوق وحرية التجارة وفتح الاسواق الوطنية والغاء او تقليص انظمة واجراءات الحماية واضعاف دور الدولة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي الى جانب تسويق مفاهيم الليبرالية السياسية مثل الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الانسان والمرأة والاقليات (الاثني، الدينية، المذهبية) المختلفة كل تلك القضايا تطرح من منطلق العالمية الجديدة السائدة التي تحجب ما قبلها وما عداها والمقصود بالعالمية هنا على وجه التحديد الحضارة الرأسمالية المنتصرة وهي اذ تعلن نهاية التاريخ وموت الايدولوجيا تسعى الى ترسيخ وتأبيد زمنها وايدلوجيتها المجردة على منزع الحتميات التاريخية والايدلوجيات الشمولية البائدة او المأزومة (حتمية انتصار الاشتراكية، امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، الاسلام هو الحل) والتي تتمثل بالسعي الحثيث الى تصنيم وتقديس وتجنيس وتنميط العالمية على صورتها (من حيث الشكل وليس المحتوى) ملغية الذات والازمنة المحلية الاخرى، واذ يلغى مفهوم التاريخ والزمن الخاص بها فهذا يستبطن بالضرورة فرض ايدلوجية «ليبرالية» شمولية جديدة، ناعمة وذات جاذبية في مظهرها لكنها لا تخلو من نزعات قومية وعنصرية وذرائعية في جوهرها. كل ذلك تعبيرا عن عمق نزعة المركزية الغربية المشبعة بتضخيم الذات (الأنا) ازاء الآخر (المغاير) التي ترى في الحضارة الغربية والامتداد الطبيعي للحضارة الأغريقية وللمكون المسيحي الغربي، ومتجاهلة في الوقت نفسه الدور والاسهام الكبير والتراكم الكمي والنوعي الذي لعبته الحضارات والثقافات القديمة والعريقة والديانات الكبرى (بما في لك المسيحية الشرقية) وخصوصا الحضارة العربية الاسلامية ومنجزاتها التي استندت اليها اوروبا في بداية نهضتها بعد ان عاشت قرونا طويلة من التخلف والظلام.
تعميم النموذج الامريكي
المركزية الغربية تعبر عن نفسها في المرحلة التاريخية (القرن الامريكي) المعاصرة من خلال نموذجها الامريكي (وتعمقت مع ايدلوجيا المحافظين الجدد وممارساتهم) كأيدلوجيا مشبعة بالاستعلائية والانعزالية والغطرسة والعدوانية والهيمنة تطمس وتلغي مفاهيم و قيم الاختلاف والتباين والمغايرة والنقد والمساءلة من قبل الآخر بما في ذلك من يشاركنا ذات القيم (اوروبا القديمة) بمعنى فرض الاندماج الكامل (من ارضية الاستتباع) للآخر في منظومة العولمة (الامركة) من خلال فرض قيمها وثقافتها الاستهلاكية والعمل على تهجين وطمس والغاء مقومات الثقافات الوطنية الاخرى من خلال التعميم الكاسح لثقافة واسلوب الحياة والمعيشة والذائقة (الاكل والملبس والشراب) وانماط الدعاية والفنون (موسيقى افلام) المبهرة، بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب ولم يكن مستغربا ان تثير من هذه النزعة (الامريكية) الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية للهيمنة ردود فعل لدى النخب وجماعات متزايدة من الرأي العام في البلدان الرئيسة والمراكز العالمية التقليدية والصاعدة الاخرى مثل اليابان ودول الاتحاد الاوروبي والصين والهند والبرازيل، ناهيك عن غالبية بلدان ومجتمعات العالم الثالث. وما تفرزه مفاعيل العولمة من انقسام حاد (مع استثناءات قليلة) على صعيد الاقتصاد والثروة والمعرفة بين دول الشمال والجنوب وبين المركز (ونواته الأمريكية) والاطراف هي تتناقض مع الدعوات الغربية الداعية للماثلة والتجانس الحضاري الكوني والانساني واحترام التعددية الحضارية والثقافية وحقوق الانسان في العالم.
مركزية شرقية معكوسة
غير انه في الوقت نفسه فان وقوع المجتمعات واعنى هنا المجتمعات العربية/ الاسلامية في شرنقة تضخيم الذات (الأنا) ورفض الآخر (المغاير) هو تعبير عن مركزية شرقية معكوسة وحالة عجز مزمن وانفصام وانفصال عن الواقع والحياة. اذ لم يعد بالامكان الاستمرار في المراوحة والجمود والانزواء والممانعة والتقوقع في الماضي والتراث (التليد الزاهر) او استحضاره ليجيب على اسئلة وتحديات الراهن ناهيك عن ممكنات المستقبل وبالتالي تأبيد بقائها خارج مجرى الزمن والعصر من خلال رفضها وعدائها (على طريقة محاربة طواحين الهواء لدنكيشوت) للحضارة الغربية والذي يعني عمليا استقالتها من التاريخ وغياب المساهمة في الحضارة الكونية المعاصرة ومنجزاتها،التي ينتسب اليها جميع البشر والمستندة الى الحضارة الغربية تحديدا. بغض النظر عن ما هية القوى المهيمنة فيها حياليا، وذلك بحجة وذريعة الخصوصية الحضارية والدينية والاجتماعية والثقافية. او الاكتفاء بالنظر الى نصف الكأس الفارغ فقط والتركيز على وجهها القبيح المتمثل بعهود السيطرة الاستعمارية والامبريالية ونهب مصالح وخيرات الشعوب والمجتمعات في العالم وخصوصا في بلدان العالم الثالث، والتي تأخذ الآن اشكالا جديدة في زمن العولمة.
النصف الاخر
بل يجب ان ننظر الى النصف الآخر المتملئ. الحضارة والثقافة الغربية عموما مثلت تحولا نوعيا في تاريخ ا لانسانية واضافت الى البشرية على امتداد تاريخها الطويل منجزات حضارية تمثل ذروة ما توصلت اليه حتى الآن.فالمنجزات العلمية والصناعية والثقافية وبلورة مفاهيم ومبادئ الدولة الحديثة والمجتمع المدني وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية والعقلانية والمساواة والتعددية والعدالة وحقوق الانسان شكلت جوهرا وملمحا اساسيا للحضارة الغربية (الرأسمالية) غير ان تلك المنجزات لا يمكن فصلها عن كل ماراكمته الحضارات القديمة السابقة ومن بينها الحضارة العربية – الاسلامية كما لم تكن في معظمها تمثل بالمعنى المباشر رسالة واهداف الرأسمالية في باكورة ظهرها وحتى هيمنتها، انها نتاج قرون طويلة قطعتها اوروبا منذ ارهاصات وبدايات النهضة والاصلاح الديني وعصر الانوار في مواجهة الحكم المطلق وسلطة الكنيسة ومرورا بالثورة الصناعية وما رافقها من صراعات فكرية ودينية وانتفاضات وثورات اجتماعية وسياسية وطبقية في مقدمتها الثورة الفرنسية والبريطانية الى جانب حركات التوحد القومي (المانيا وايطاليا) في اوروبا والثورة الامريكية في القارة الجديدة والتي نجم عنها ما بات يعرف بالحضارة الغربية المعاصرة.
جريدة عكاظ السعودية
.