منعوا، مؤخراً، الصحافية الإسرائيلية عميرة هاس من حضور ندوة في جامعة بيرزيت. وتبيّن أن إيلان بابي، المؤرخ اللامع، مُنع في وقت سابق من إلقاء محاضرة في الجامعة نفسها. كل هذا لا يندرج سوى في باب اسمه الفضيحة، ولا يُرد عليه إلا بكلمة واحدة: عيب.
ومع ذلك، لا الفضيحة، ولا العيب، كلمات شائعة في لغة السياسة، رغم ما فيهما من دلالات تكفي لتحليل معنى المنع. ولا أجد ضرورة للاستطراد في كيفية قياس الفضاء العام الاجتماعي والسياسي والثقافي على مسطرة المقدس والمُدنّس. وهذا مُفزع على نحو خاص، إذا ما كان الفضاء المقصود اسمه الجامعة، ومُفزع أكثر لأنه لا يحتمل توصيفاً أكثر من حقيقة أن في كل طهرانية حقيقية أو مُتوّهمة، تعشش “داعش” من نوع ما.
أعرف الاثنين هاس، وبابي. والمُدهش في الأمر أنني غالباً ما وجدت نفسي في موقع “المُعتدل” في النقاش مع هاس، التي تبدو أكثر راديكالية في موقفها من أشياء كثيرة. وبما أنني “قريب” من السلطة الفلسطينية، وهي أقرب إلى المعارضة، كان الخلاف، أحياناً، عصياً على الحل، وربما أفسد خلاف الرأي، في حالات بعينها، للود قضية. وبقدر ما يتعلّق الأمر ببابي (الذي لم يحتمل الإسرائيليون وجوده في جامعة إسرائيلية) فقد فعل، مقارنة بزملائه الفلسطينيين، ما لم يتمكنوا منه: تسمية التطهير العرقي بلغته وأدواته المتداولة في علوم السياسة والتاريخ، وصوته في المنابر الأكاديمية الدولية مرموق، ومسموع، أكثر منهم.
والصحيح، أكثر وأكثر، أن أفضل الأفكار التي تصيب “المشروع الصهيوني”، نظرياً، في مقتل، وفي تخصصات مختلفة، غالباً ما صدرت عن يهود إسرائيليين وغير إسرائيليين. على أية حال، فليقرأ الفلسطينيون في حادثة كهذه حقيقة أننا “نهبط” ولا “نصعد” بكل المعاني السياسية، والثقافية، والأخلاقية، المحتملة للهبوط والصعود.
ولكن ما لنا وهذا كله. فكرتُ، اليوم، أن أكتب عن احتلال صنعاء من جانب الحوثيين. يمكن، طبعاً، وبعد ساعات من البحث قد تطول أو تقصر، على الإنترنت، تكوين “معرفة” من نوع ما بشأن ما يجري في اليمن، و”تصديع” رأس القارئ بتحليل جديد.
وهذا غير مطلوب. فما حدث يتمثل في استيلاء ميليشيا مسلحة على مدينة/ عاصمة، وتحويل مواطنيها إلى رهائن. وما حدث لا يُذكِّر إلا بشيء واحد: حقيقة أن الدولة (مطلق دولة) هي صاحبة الحق الوحيد، والمُطلق، والحصري، في امتلاك السلاح، واحتكار العنف. أما الشعارات التي ترفعها هذه الميليشيا المسلحة، أو تلك، لتبرير الاستيلاء على مدينة أو عاصمة، فأمر قليل الأهمية، سواء أرادت تحرير فلسطين، أو الأندلس.
إذا كبرت الميليشيا صغرت الدولة. وظاهرة استيلاء الميليشيات المسلحة على مدن، أو عواصم، وتحويل مواطنيها إلى رهائن، أصبحت شائعة في العالم العربي، وقعت في أكثر من مكان. وهي، للأسف، مرشحة للانتشار على نطاق واسع، إذ استمر الحال على هذا المنوال، وإذا نجحت الطهرانية بمختلف تجلياتها الداعشية الصريحة، والمُضمرة، في احتلال الفضاء العام.
المهم أن شعار الحوثيين الذين يرفعونه في كل مناسبة، ومظاهرة “سلمية” يقول: “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. لا بأس. وما علاقة كل هؤلاء بالمطالب السياسية للحوثيين، وبحقيقة الصراع القبلي، والمذهبي، والجهوي، في اليمن. وهل يكفي “موت” كل هؤلاء، وحلول اللعنة عليهم، و”انتصار” الإسلام ( لا نعرف على طريقة الحوثيين، أم القاعدة، أم جماعة الإخوان المسلمين) ، لحل مشاكل اليمنيين؟
وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، كما تقول العرب. أذكر، في أواخر الثمانينيات، في مدينة ليبية، أنني سمعت هتافاً لمتظاهرين خارج مبنى البلدية أثار حيرتي. ففي ذلك اليوم هتف أشخاص غاضبون: “فلسطين عربية حرّة، وحجازي يطلع برّه”.
لم أفهم ما العلاقة بين حجازي وفلسطين، ولا حتى مَنْ هو حجازي، هذا اللعين، الزنيم، اللئيم، الذي يرتبط خروجه “برّه” بعروبة وحرية فلسطين. وعندما سألت أحد المقيمين عن حقيقة ما جرى في ذلك اليوم “التاريخي المشهود”، قال إن اللجنة الثورية قررت الزحف على رئيس البلدية، حجازي، وطرده من منصبه، وتنصيب لجنة جديدة تُدير البلدية تعبيراً عن إرادة الشعب.
الزحف، واللجان الثورية، وإرادة الشعب السيد، مالك الثروة والسلاح، كانت مفردات مُتداولة في جماهيرية القذافي. فقد كان من حق المواطنين، في المدرسة، والحي، والجامعة، والمدينة، والقرية، والمصنع، والشركة.. الخ تشكيل لجان ثورية، و”الزحف” (يعني التظاهر، واستخدام العضلات، يعني العنف، إذا لزم الأمر) على لجان سبقتها، وطرد ممثليها من هذا المنصب أو ذاك، والاستيلاء على مكاتبهم، ووظائفهم، وإداراتهم، تجسيداً لشعار الثورة الدائمة.
لا بأس. ولكن، ما العلاقة بين فلسطين من ناحية، والزاحف والمزحوف عليه من ناحية ثانية؟ قال صاحبي: لا يهم المعنى، المهم أن ثمة موسيقى في الشعار، وربما تجد بين الزاحفين من يقول لك إن وجود حجازي في منصبه يعيق تحرير فلسطين، ألا توجد علاقة ديالكتيكية بين الأشياء؟ وكان هذا، في الواقع، درساً بليغاً في ديالكتيك العبث، وموت المعنى.
فلنعد إلى هاس، وبابي، والحوثيين، سنفهم كل هذه الأشياء دفعة واحدة، إذا فسّر لنا عاقل جدلية العلاقة بين حجازي وفلسطين، وربما اجتهد شخص ما في جامعة بيرزيت، وقرر تحويل المُقدّس والمُدنّس (جيرار جينيت، مثلاً) إلى مساق دراسي جديد، شريطة أن يكون على خلفية العلاقة بين حجازي وفلسطين.
khaderhas1@hotmail.com