نتقاطع في شوارع الدائرة السابعة منذ عدة سنوات، يحدث ذلك اكثر من مرة في الاسبوع. نتبادل التحية عن بعد، في الفترة الاولى كنت انا الذي يبادره قائلا: “يوم سعيد ياسيد بايرو”. فيرد علي بهزة خفيفة من رأسه وابتسامة عريضة: “يوم سعيد يا سيد”.
أقابله مصادفة إما خارجا من منزله الكائن في “rue cler” الذي لايبعد عن مكتبي اكثر من مائة متر، أو ذاهبا الى مقر الحزب الذي يتزعمه (التجمع من اجل الديمقراطية) الذي يقع خلف مكتبي مباشرة، واصادفه في بعض الاحيان، عائدا من البرلمان الذي لايبعد اكثر من 500 متر. لكني لم اره ولو لمرة واحدة يخالط مجموعة السياسيين التي كانت تلتقي صباح كل يوم اثنين في مقهى “le centenaire” من حول زعيم اليمين الليبرالي آلان مادلان. كانت هذه المجموعة تتكون من جان بيار رافاران الذي اصبح رئيسا للوزراء، والوزير السابق جيرار لونغيه، والقاضي اللامع الذي اختطفه السرطان مبكرا في سنة 2005 تيري جان بيير، الذي دخل السياسة من باب النيابة الأوروبية، بعد ان فجرعدة قضايا فساد شغلت فرنسا طويلا، منها فضيحة “أوروبا” ضد رئيس وزراء فرانسوا متيران وصديقه بيار بيري غوفوا، الذي وجد منتحرا، وتم نسب ذلك الى عدم قدرته على تحمل الامر، فأطلق النار على نفسه سنة ،1993 وآخر الفضائح التي فجرها هي قضية “الفرقاطات” الفرنسية التي بيعت الى تايوان، واتهم فيها وزير خارجية ميتيران رولان دوما بتلقي عمولات.
إن عدم مخالطة بايرو لهذه المجموعة له عدة اسباب، اهمها انه كان يغرد خارج سرب اليمين الليبرالي، في فضاءات اكثر رحابة مفتوحة على عوالم سياسية وانسانية مختلفة كليا، عن عالم الدائرة السابعة الضيق والصغير. وهناك سبب آخر يتمثل في انه حافظ على مسافة من ابناء البرجوازية، التي دخلت السياسية من باب التطرف اليميني مثل مادلان وفيليب دو فيلييه وآخرين. بقي يحتفظ بصفاء فلاحي منطقة البيرينيه مسقط رأسه، ويتعاطى السياسة بنبل وكبرياء وحساسية فيكتور هيغو.
يسير دائما على قدميه، وحيدا من دون حراسة او مرافق، يبدو خفيفا في حركته على هذا الطريق الذي اعتاده منذ سنوات. وفي كل مرة كنت اراه فيها تتحرك فيّ نعرة الحشرية، فأذهب إلى حد التواطؤ عليه بيني وبين نفسي، فكنت غالبا ما اجري له نوعا من المحاكمة، تدور من حول ترشيح نفسه للرئاسة. كنت اتوصل دائما الى نتيجة هي في صالحه، ولذا شعرت بالأسف لأنه وقف عند سقف 7 في المائة في انتخابات سنة 2002. لكن حينما صادفته في اليوم الثاني لاعلان النتائج لم يكن مستاء من ذلك، لا سيما أن البعض كان يعتبر انه لن يتجاوز عتبة 5 في المائة، لأنه تنقصه قبل كل شيء الامكانات اللوجستية الضخمة، من أجل الحصول على مكانة جيدة في الانتخابات الرئاسية، ثم انه ليس من طبقة الاعيان مثل فاليري جيسكار ديستان الذي سبق ان وصل الى الرئاسة عن طريق هذا الحزب، هو اقرب الى ريمون بار رئيس وزراء جورج بومبيدو، الذي حافظ على مسافة من محترفي السياسة بمقاييس السوق من أمثال ديستان، وظل يمارس العمل السياسي من منظور المنفعة العامة، لذا عاد الى عمله الاكاديمي، حين قرر ان يهجر اروقة العمل الحكومي والحزبي.
إن مواصفات بايرو وإمكاناته الشخصية تتجاوز كافة المناصب السياسية التي تقلدها، من النائب والوزير وحتى زعيم الحزب. وهذا ما جعل من طموحه الرئاسي ابعد من الفرصة السياسية العابرة، وأقرب الى المشروع السياسي الذي ينهض من داخل فرنسا التعددية، التي باتت ضحية للاستقطابات في العقود الثلاثة الاخيرة. وهناك جملة من الاسباب التي تعزز هذه الفرضية وتسندها: الاول، هو شيخوخة قادة اليمين الديغولي، الذين كان حضورهم في جو العمل السياسي، يقدم ضمانات كثيرة، سياسية واخلاقية، لاستمرار فرنسا في خط متوازن على المستويين الداخلي والخارجي. وقد تبين خلال السنوات الاخيرة من ولاية الرئيس جاك شيراك الثانية، ان الاجيال السياسية الجديدة في اليمين التقليدي بعيدة عن الديغولية، وان هذه التركة الكبيرة التي عاشت عليها فرنسا بشتى اطيافها السياسية مهددة، من قبل من يعتبرون انفسهم احفاد الجنرال ديغول، لكن في حقيقة الامر ان قامات هؤلاء قصيرة، وليست على قدر من السمو الذي يؤهلها للسير مع حركة التاريخ.
أما السبب الثاني، فهو ان “ثنائية” حكم اليمين التقليدي والحزب الاشتراكي في العقود الثلاثة الاخيرة، أوصلت فرنسا الى ازمة كبيرة، الأمر الذي صار يحتم الحاجة الى حركة اصلاحية كبيرة، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الاخلاقية، واللافت في الامر هو ان هناك احساسا عاما بأن اليمين التقليدي والاشتراكيين باتوا عاجزين عن القيام بهذه المهمة، لذا يجب التفتيش عن بديل آخر للعقد السياسي القادم، وليس مصادفة ان بايرو حصل على 19 في المائة من اصوات الناخبين في هذه الدورة، رغم الامكانات اللوجستية شبه المنعدمة، وهذا يدل ان هناك جمهورا واسعا أخذ يتحسس هذه الحاجة.
يكمن السبب الثالث في شخصية بايرو المتعددة الجوانب أنه في الدرجة الاولى رجل مخضرم، يقع في الوسط بين جيل السياسيين القدامى وجيل السياسيين الجدد، ولكنه يعتبر الأقرب ما بين مرشحي الرئاسة الى جيل الزعامات التقليدية، التي قادت فرنسا في الفترة الماضية، وقد اشتغل مع هؤلاء طويلا من جيسكار ديستان صاحب نظرية “فرنسا لا تحكم إلا من الوسط”، الى ريمون بار وحتى شيراك، وفي نفس الوقت هو الأقرب الى الوسط السياسي الجديد، الذي اخذ يتشكل في السنوات الأخيرة وبرزت ملامحه بوضوح خلال العامين الماضيين. هو بمعنى من المعاني يضع قدما في الماضي وأخرى في الحاضر، وهو يتجه نحو المستقبل، وهذا ما يميزه على مستوى زعامات اليمين بكافة ألوانه. إنه ليس من أصحاب فلسفة القطيعة، التي بشر بها مرشح اليمين التقليدي نيكولا ساركوزي، حين بدأ بتقديم ترشيحه في صيف السنة الماضية. وكان رد بايرو عليه هو إقامة “جمهورية سادسة”، ويطرح في كتابه المعنون “أمل” مشروعا لذلك، واستراتيجية تتمثل في صورة رئيسية بكسر الحواجز الحزبية القائمة بين اليمين واليسار، بهدف احداث ما يسميه الثورة السلمية. ومن هنا يمكن قراءة النداءات التي صدرت قبل الدورة الأولى عن كل من رئيس الوزراء الاشتراكي السابق ميشيل روكار، والوزير الاشتراكي السابق بيرنار كوشنر، والعديد من الشخصيات الاخرى. لقد نادى هؤلاء بضرورة قيام حلف بين الحزب الاشتراكي وبايرو، وهذا الأمر يتجه نحو الانتخابات التشريعية أكثر، لأن بايرو سوف يضطر الى فك تحالفاته السابقة على هذا المستوى مع اليمين التقليدي، ولذا قرر تشكيل حزب جمهوري، قادر على احياء الفكرة الأوروبية في الأوساط الفرنسية التي صوتت ضد الدستور، ووراثة الاشتراكيين واليمين التقليدي معا.
استطاع بايرو ان يستميل ناخبي الطبقات الوسطى، وموظفي القطاع العام والكوادر من أنصار الحزب الاشتراكي، بفضل موقفه المختلف عن المرشحين الآخرين بصدد المكاسب الاجتماعية، وادخال اصلاحات على الانظمة الاقتصادية والوظيفية.
لقد ميز بايرو نفسه خلال الولاية الثانية لشيراك، فاتخذ موقفا مختلفا عن جميع تيارات اليمين التي وحدها الرئيس في حزب اطلق عليه اسم “الاتحاد من اجل حركة شعبية”. لقد فضل الاحتفاظ بكيان سياسي مستقل لتيار الوسط المعارض لخط عمل الحكومة، التي شارك فيها بعض المحسوبين عليه مثل جان لوي بورلو وزير الشؤون الاجتماعية. صحيح أن رصيده في انتخابات سنة 2002 لم يتجاوز 7 في المائة، إلا أنه بدا للمراقبين لتطورات المشهد الفرنسي انه يعمل، على تشكيل نوع من المصداقية والرصيد السياسي، وتبين أنه نجح في ذلك حين بدأت استطلاعات الرأي في شباط/فبراير الماضي تمنحه نسبة اكثر من 15 في المائة، والفوز على كل من ساركوزي ورويال إذا رست المواجهة بينه وبين أحدهما في الدورة الثانية. وهنا يمكن ملاحظة جملة من النقاط المهمة وهي أن شعبية بايرو تقدمت بثبات، الأمر الذي زاد من رصيده ودفع قطاعات كاملة لتحسم أمرها في اتجاه التصويت له. والملاحظة الثانية، وهي أن الرأي العام بدأ يستجيب لفكرة إخراج فرنسا من ثنائية الاشتراكيين واليمين التقليدي، وصار يتقبل فكرة السير وراء بايرو. وسوف تتجلى أهمية موقعه أكثر فأكثر خلال الانتخابات التشريعية المقبلة المقررة في العاشر من حزيران/ يونيو المقبل.
إن تحول بايرو الى حكم في الحياة السياسية الفرنسية اليوم، هو الخطوة الأولى في مشروع يستهدف بناء فرنسا جديدة قائمة على التعددية، وبعيدة عن الاستقطاب والإقصاء.
bacha@noos.fr
“الخليج” الإماراتية