استطاعت الكيمياء السحرية اللبنانية ان تحول الثورة المصرية إلى مادة إضافية من مواد الانقسام العميق لساحتها السياسية. والمثقفون اللبنانيون، والمنضوون بغالبيتهم العظمى تحت واحد من الجناحين، 8 أو 14 آذار، ضخّوا على مواد هذا الانقسام سيلا من الكتابات في الصحافة والشبكة الالكترونية ما يكفي ويزيد. كلٌ تمترس خلف قناعاته وصار يسجل نقاطا على غريمه السياسي متّهما اياه بالغباء أو السذاجة أو التواطؤ أو العمالة. فتمّت قراءة للحدث بعيون الانقسام بين 8 و14 آذار، في محاولات أولية متسرّعة لتأكيد صحة «الخط»، صحة الخيار، بواسطة كل المعاني التي صنعتها حتى الآن الثورة المصرية.
أحدهم قال بأن هذه الثورة أوضحت بأنه «لم يعد امام الشعب المصري إلا خيار المقاومة»، والآخر رأى بأن هذه الثورة هي الفرصة للدعوة إلى إسقاط كامب دافيد؛ ولم يتوانَ ثالث عن الدعوة إلى منع «كتّاب 14 آذار» من الكتابة عن مصر منعا باتا، ذلك لأن ثورتها نسفت كل نظرياتهم… وفي سياق البوادر المبكرة لهذا الانقسام، في حمى ثورة الياسمين التونسية، كان احد الكتاب يتساءل كيف استطاع الشعب التونسي ان يسقط بن علي، فيما عجز الشعب اللبناني عن اسقاط فؤاد السنيورة، بكل «اعتصاماته وتظاهراته المليونية وسط البلد عام 2008».
بل كشف الاسبوع الماضي عن وجود صنفين من البيانات الصادرة عن مثقفين لبنانيين، كلاهما مؤيد بحرارة لثورة مصر: الصنف الاول وقّعه «مثقفون من 14 آذار»، والآخر من «مثقفين من 8 آذار». أنا نفسي وقّعتُ على الاول، وفوجئت بعد أيام بصدور الثاني. سبب المفاجأة؟ الآن أدركها: كنت متمنية، ضمنيا، ان يصدر بيان واحد، على اساس الاعتقاد، غير المتبصّر أيضا، بأن الحدث المصري يرسّخ بوضوح قناعاتي السابقة، من دون مواربة ولا تأخير… وكأن صوتاً خافتاً يهمس لي بأن مغادرة جماعة 8 آذار لقناعاتهم تحصيل حاصل، تثبّته بواكير الثورة المصرية.
حتى الآن، يبدو مثقفو 8 آذار هم الأقوى في هذه المبارزة اللبنانية الجانبية؛ ليس فقط لأن رجالاتهم «المعارضين» تمكّنوا، قبل 48 ساعة من الحدث المصري، من إسقاط «ديكتاتورية» 14 آذار، وبوسائل تتفوق على كل الثورات، وكذلك على إحباط «المشروع الصهيوني الاميركي في المنطقة»… ولم يكن بوسعهم التمتع بسكرة نصرهم الثوري هذا بسبب طغيان الحدث المصري اعلاميا على ما عداه، وذلك على الرغم من جبروت اعلامهم وذكائه وتشعّبه. ليس فقط هذا نقول: بل أضِف إلى ذلك أن النظام المصري هو نظام حليف لزعماء 14 آذار، وسَنَد قوي لطروحاتهم المعادية لحزب الله. اما الحليف الاستراتيجي لهذا النظام، أي الولايات المتحدة، فبدت في أقل تقدير مرتبكة حائرة، وأحيانا جاهلة، ولا يجد رئيسها من تفسير لتذبذبه هذا غير القول بأن اميركا تعمل تبعا لـ»مصلحتها»؛ أي اسمعي يا جارة، الـ14 آذارية، حلفاؤك لم ينفعوك، كما تبين لاحقا انهم لم ينفعوا حلفاءك الأصغر.
ثم اسرائيل، ألم تخشَ على مبارك من السقوط؟ ألم تتوسوس على اتفاقية السلام بينها وبين مصر، اتفاقية كامب دافيد؟ فوقفت مع حليفها وصديقها، حامي اتفاقية السلام، حسني مبارك؟ هذه حجة ثمينة بيد جماعة 8 آذار، على اساس القاعدة المعمول بها في عقلياتنا السجالية، من ان اسرائيل تكون بذلك أفصحت عن وجهها الخائف على السلام، ومن ان كل ما يخيف اسرائيل يجب ان يطمئننا. اما زينة الحجج وسط هذه المجموعة، فهي تلك التي تتعلق بدور الاخوان المسلمين: «لا تبتهجوا كثيرا…»، يبدون كأنهم يقولون في حديثهم عنهم، غدا سيأتون ويحكمون ويشكلون الحلف الاسلامي الشاسع، «الشرق الأوسط الاسلامي الجديد»، يلغي اتفاقية كامب دافيد، وندخل مع ايران في حرب إزالة اسرائيل من الخارطة، وتكون مصر البؤرة الغربية لمقاوماتنا جميعا للـ»مشروع الصهيوني الاميركي»…
لكن الحجة ليست ناقصة لدى جماعة 14 آذار، وإن تفوق فيها الاحتمال على التحقّق: فالعاصفة هزّت العرش المصري، صحيح، ولكن هل بوسعنا تخيّل الاختلال الكبير الذي سوف تجرّ اليه هذه الهزة على التوازنات التي حكمت المنطقة، وربما العالم، طوال العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل؟ ليس فقط بفعل الطاقة الهائلة التي سوف يمنحها الحدث المصري للانسان المرشح لتحقيق تغيرات مماثلة في أنظمة مشابهة تماما لنظام مبارك من حيث الفساد والاستبداد، أعني ايران وسوريا؛ الاولى أذاقت قادة انتفاضتها الشعبية الاهوال؛ ولكن من يضمن انهم ليسوا الآن بصدد استكمال عناصر انتفاضتهم الثانية؟ أما سوريا، فلا أبلغ من قول رئيسها إلى الغرب انه لن يسقط، فهو محصن بممانعته، المانعة لمحاسبته: نظام فاسد وقمعي وتوريثي. ليس هذا فقط: اسرائيل نفسها تتساءل حول مصير نظامها؛ نظام ديموقراطي صحيح، ولكن التوازنات السابقة على الحدث المصري رسخت دعاة الحرب في قيادته: الآن ماذا تفعل لو حكم الاخوان في مصر؟ تدافع عن السلام مع مصر، وتتعنت في سلامها مع الفلسطينيين والسوريين؟ هل تتصور مثلا، لو ارتأت اسرائيل ان تقيم سلاما مع سوريا، خوفا على سلامها مع مصر؟ ما يكون مصير النظام «الممانع»؟ بل ما مصير الاختراق الايراني بأسره للمنطقة العربية؟
المطالب! المطالب التي أخرجت الشعب المصري من صبره وفجّرت كل هذا الشوق للحرية… لم تكن الممانعة ولا المقاومة. نعرف الباقي… أما الاخوان، فهم الأقوى صحيح في ظل عهد مبارك، ولكن من يضمن لهم بقاء القوة من بعده؟ «لقد سقط صَنَما النظام والاخوان»، قال أحدهم، ربما مبكرا، ربما لا. وهو يستمد قناعته من مناخ المعتصمين والمتظاهرين، صنّاع الحدث بامتياز.
اما الشكوى المشتركة بين جماعتَي 8 و14 آذار، فحسرتهم، بل غيرتهم، من المصريين، فهي في استحالة رؤيتهم مشهدا شبيها بالمشهد المصري المهيب: شعب واحد ضد الطاغية. الجماهير التي اعتاد عليها الفريقان هي جماهير الطوائف، صاحبة الغضب المبرمج والمؤطّر، المستعد ان يقتل نفسه من اجل افكار مجرّدة، ايديولوجيات مموهة. وديكتاتوريون صغار في كل طائفة، كل مذهب، وديكتاتوريون أصغر منهم ينافسونهم على مواقع السطوة والهيمنة والمحاصصة والتحالفات الخارجية، ويسمون هذه المنافسة: «رفعاً للظلم ومن أجل العدالة». وما يضاعف من المرارة والحسد ان لبنان، الديمقراطي، وصلت حالة ابنائه إلى هذا الدرك الذي أضفى عليه الحدث مزيدا من السخافة والسطحية. كأن الحدث المصري اخترق اعماق البنية الطائفية ووضعها امام أعيننا. قالت لنا المرآة اننا غير قادرين، بوضعنا الحالي والمقبل القريب، على ان نكون مواطنين يعملون من اجل ان تكون حياتهم افضل، من أية ناحية من النواحي أُخذت هذه الحياة؛ بل رعايا مدجّنين في قوقعاتهم الطائفية، في هويات تافهة ولكنها صلبة تمنعنا من النظر إلى بعضنا الا من زاوية ما انتزعنا من هذا البعض الرئاسات والامتيازات والوزارات والثروات…
الحدث المصري يزعزع الأسس التي قامت عليها معادلة 8 و14 آذار، كما يزعزع التوازنات الدولية والاقليمية التي ولّدتها. الافكار تنوجد عندما تسندها وتدعمها ديناميكيات الوقائع والمعطيات على الارض. وعندما تتبدل هذه الديناميكيات بتبدل الوقائع والمعطيات، تسلك الافكار طريقها إلى التغيير؛ وتعتمد سرعة هذا التغيير على الجهوزية الفكرية القابلة لاستيعابه. لذلك فان الاوراق كلها مقبلة على الخلط في نفس هذه الساحة اللبنانية، وهذا الخلط كفيل بتوليد أفكار جديدة. ولا امان الآن في غير جهوزية الانتماء إلى لبنان وحده. «لبنان اولا»، هو من الدروس المصرية الأقوى.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل
ثورة المصرية فرصة لإعادة النظر بالأشياء، لا لإعادة تأكيدها
غسان كاخي
لبنان ليس مصر واللبناني ليس المصري. ومشرق الوطن العربي ليس كمغربه. لبنان ما هو إلا مجمع كانتونات طائفيه مكرهة ولظروف عده أن تعيش ضمن كيان دولة لبنان، وما يحدث في مصر لا يعني هذا اللبناني بشيء. من خلال معرفتي للكثير من الأخوه اللبنانين هنا في المهجر الحظ وبوضوح الفوارق الكبيره لشخصية كل فرد إعتمادا لانتمائه الطائفي.
برايي أن المشكله اللبنانيه لا تحل إلا بإقامة نظام شبيه بالسويسري،كانتونات وبلديات مستقله أداريا، وحصر دور السلطه المركزيه في صياغة السياسه الخارجيه. الجيش والمواصلات من طرق وسكك حديديه