في بدايات الحرب الاهلية وبعد ان بدا لحزب الكتائب اللبنانية احد ابرز اطرفها في ذلك الوقت ان الامر استتب له في المناطق المسيحية، وهو الذي فوض نفسه يومها الدفاع عن المناطق المسيحية وتطهيرها من الجيوب الفلسطينية واليسارية فارتسمت حدود الدويلة، وقف يومها احد ابرز قيادات الحزب المرحوم جورج سعاده ليعلن بالفم الملآن متوجها الى اللبنانيين والمسيحيين وفي لقاء جماهيري في منطقة نفوذ كتائبية، وجورج سعاده نائبا عنها، ان من ليس كتائبيا ليس لبنانيا، مضيفا من ليس منا فليرحل عنا.
رئيس ومؤسس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل وقيادات الحزب حينها كانت تفاخر بانجازاتها الميدانية وتسوق الاتهامات الى مناوئيها من انهم عملاء لسوريا والفلسطينيين وابو عمار وبالتالي يجب محاكمتهم بتهم الخيانة الوطنية وبيع البلاد للغريب. ولأن الامر استتب لحزب الكتائب، فهو توجه نحو الآخرين في الوطن من منطق إلباسهم لبوس الخيانة ودعوتهم الى التحاور ثانيا على قاعدة بسيطة لخصها الشيخ بيار الجميل حينها بأن ما للمسيحيين هو للكتائب وحدها وما لباقي الوطن يجب اقتسامه مع الكتائب، بما يعني ذلك إقرارا بالمكتسبات التي انتزعها حزب الكتائب بالقوة من الوطن.
وانطلاقا من تلك الوقائع، اندرجت ثنائية التخوين والولاء للوطن التي ما تزال سارية المفعول حتى اليوم ثم تفرعت لتصبح ثنائية طائفية ولاحقا مذهبية الغت هامش التمايز خارج الثنائيات القاتلة. فاللبناني لم يعد يجد لنفسه مكانا او متنفسا للتواصل مع الآخر. فتواصل المسيحي مع المسلم في بداية الحرب الاهلية كان خيانة، والعكس صحيح. فأصبح التواصليون اكثرية صامتة خانعة وخاضعة لمنطق رعاع الميلشيات على اختلافهم.
فالثنائية حكمت المنطق السياسي اللبناني وتعددت اشكالها من مرحلة تاريخية لأخرى. فاما ان تكون مع وحدة المسار والمصير اي مواليا للبنان ويجب ان يمر هذا الولاء اولا بسوريا فتنتفي لبنانية الولاء، واما ان تتهم بالعمالة لاسرائيل والاف بي اي والسي اي اي والامبريالية الدولية والصهيونية العالمية وما الى ذلك من نعوت. وحينا آخر اما ان تكون مع الاتفاق الثلاثي اي سوريا وهيمنتها على لبنان،واما ضده مع ما يستتبع ذلك من تخوين متبادل. واما انت مع كتائب امين الجميل او القوات اللبنانية واما انت مع العماد عون. اما انت مع القوات اللبنانية واما انت مع الحركة الوطنية.واما انت عميل لعملاء الصهاينة والانعزاليين في لبنان. ولاحقا اما انت مع حزب الله او انت مع حركة امل. واما انت مع الفلسطيني ضد لبنان او يجب ان يكون الولاء اولا وآخرا لطائفتك الشيعية ابان حرب المخيمات، واما انت مع لبنان اولا او انت ضد المحكمة الدولية وتستهين بدم الرئيس الحريري.
وقبل الانتقال الى الثنائية التي تحكم المرحلة الراهنة لا بد من التوقف عند ما انتجته الثنائيات من حروب داخلية لتكريس غلبة صاحب رأي على آخر. فكان المسيحيون اول من من سعى الى الغاء الصوت الآخر داخل مناطق سيطرة حزب الكتائب. فقتل طوني فرنجية وما كانت ردة الفعل على مقتله بأفضل من فعل القتل نفسه: الغاء متبادل ثم ضبضبة الفرق المسلحة المسيحية من “حراس ارز” و”تنظيم” وسواهم وصولا الى “حزب الوطنيين الاحرار” بحرب ضروس. وفي معزل عن الاسباب اندلعت حرب الإلغاء بهدف نزع سلاح القوات اللبنانية لصالح جيش العماد عون.
هذا غيض من فيض على المستوى المسيحي. اما في المقلب الآخر لم يكن الوضع افضل حالا. فمن الغاء “المرابطون” ومحاولة الغاء “الحزب الشيوعي” وحرب “امل” و”الاشتراكي”، وحرب المخيمات، وحرب العلم، وحرب امل حزب الله في اقليم التفاح وسواها من حروب الازقة والشوراع التي كانت تبدأ بشعارات كبيرة تخوينية وتنتهي بشطب فريق بكامله من المعادلة السياسية او تكريس امر واقع سياسي جديد يزيد من حصة اللاغي ويهمش الملغى او يحجم دوره.
ما نشهده حاليا عود على بدء لا يختلف في سياقاته عن مسارات الحرب الاهلية. فهناك ثنائية المقاومة التي قررت تسليح نفسها بصبغة الالوهية، فسلاحها الهي ورجالها رجال الله وحتى شبكة اتصالاتها، وبالتالي فان منطقها التخويني اصلب وامتن. ففضلا عن محاربة عدو تاريخي هناك مشكلة الالوهية. فبالاضافة الى رمي الآخرين بتهم العمالة تصح ايضا تهم الكفر. فأنت لبناني، اذاً انت مع المقاومة الالهية وفي هذا السياق لا مجال للنقاش ولا للرأي الآخر. فمن هو هذا الذي يتجرأ ويتنطح ليناقش الله جل جلاله. فما هو الفارق اذاً بين “من ليس كتائبيا ليس لبنانيا” في سبعينيات القرن الماضي و”من ليس مع المقاومة ليس لبنانيا” حاليا. انها ببساطة الغاء للآخر الذي هو هنا عموم الشعب اللبناني ليس بفعل الحجم التمثيلي لقوى الرابع عشر من آذار بل لان الآخر هنا هو عامة الشعب اللبناني من غير “المقاومين الشرفاء” و”اطهر الناس” واهلهم ومؤيديهم على ما قال الامين العام لحزب الله يوم فتح باب الثنائية على مصراعيه فأسبغ على جماعته صفة الطهارة وبالنتيجة على من يخالفه الرأي النجاسة، وتاليا اعطى رخصة بقتل العملاء والانجاس وغير الشرفاء. وهنا تندرج مقولة “من ليس منا فليرحل عنا” تحت طائلة القتل المبرر شرعا. وما هو الفارق بين ما لنا لنا وحدنا وما لكم لنا ولكم، فالسلاح لنا وقرار الحرب والسلم في يدنا، وتوقيت مفاوضة اسرائيل معنا، ونحن نريد الثلث المعطل ورئيس جمهورية لنا فيه الحصة الاكبر، وطبعا رئيس المجلس النيابي خرج من ظهرانينا ونريد رئيس حكومة مستقلاُ لا يتبع لتيار الآخر مهما علا شأنه. فنحن اذاً نريد السيطرة على البلاد ورقاب العباد مسلحين بالحق الالهي القروسطي وبالصواريخ ومنطق التخوين.
ولان الشيء بالشيء يذكر عندما احكمت “حركة التوحيد الاسلامي” سيطرتها على مدينة طرابلس في ثمانينات القرن الماضي، قامت الحركة بزرع مجسم كلمة الله بدلا من تمثال احد رجالات الاستقلا ل ، عبد الحميد كرامي. وتاليا اصبحت هناك استحالة لاعادة نصب عبد الحميد كرامي الى مكانه لان لا احد يتجرأ على انتزاع مجسم الله من مكانه فهذا اعتداء على الله جل جلاله. انه الحق الالهي الذي يستغله مسلحون لابعاد الشبهات عن سلوكهم، والصاق تهمة الكفر المسبق وتاليا ترخيص بالقتل مبرر شرعا.
اذا كان لا بد للحرب اللبنانية التي اندلعت عام خمسة وسبعين ان تنتهي يجب وبطوباوية مفرطة ان نتعلم كلبنانيين على اختلاف انتماءاتنا من دروس الماضي. فلا منطق “من ليس منا فليرحل عنا” نجح في السيطرة على البلاد وانتهى الى ما انتهى اليه من شرذمة وتفتت يصعب معها حاليا البحث عن محاربي تلك المقولة. ولا “حرب الالغاء” اسفرت الغاءً للقوات اللبنانية. ولا حرب العلم ولا سواها من الحروب الأخرى اوصلت الى ما هو دون الدمار والخراب ومزيد من الانقسام الاهلي والطائفي والمذهبي.
وللأمانة التاريخية، سعى المجتمع المدني اللبناني الى ايجاد مساحة له بين الثنائيات. إلا ان هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل ولم يكتب سوى لمحاولة يتيمة ان تعيش فترة من الزمن بدايات تسعينيات القرن الماضي وهي “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني”. وقد لا يكون السبب في ان التجربة عاشت لسنوات قبل ان تضمر في صدق نوايا المؤتمرين فقط بل ايضا للمرحلة التاريخية التي كانت تشهد آنذاك نقاشا سياسيا اقتصاديا حول اعادة الاعمار والاجماع اللبناني على محاربة اسرائيل والاستتباب النسبي للامن الذي سعى رئيس الحكومة اللبنانية حينها رفيق الحريري الى تكريسه بما اوتي من جهد وما قدم من تنازلات شخصية وعلى حسابه من اجل انجاح المشروع الاقتصادي وتغيير وجه لبنان المدمَّر. هذه الحقبة سمحت لتجربة “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” ان ترى النور وتعيش في سعي ارتقى الى مرتبة الهاجس لدى المؤتمرين على البحث عن معنى لبنان ورسالته وهويته وصولا الى تكريس كينونته التاريخية بما هو وطن لجميع ابنائه .
ولكن مع الانسحاب الاسرائيلي وبداية معركة الاستقلال عادت الثنائية لتحكم الواقع السياسي الجديد في لبنان، فانكفأ المؤتمرون لصالح الثنائيات وانفض عقدهم.
ان لبنان بحاجة اليوم الى التيار الثالث لاخراجه من دوامة حروب الالغاء التي تنتج ثنائيات تستنخ حروبا نتائجها هجرات ودمار ودماء.
kricha@radiosawa.ae
* كاتب لبناني- دبي
ثنائيات لبنانية حروب الغاء وعود على بدءالمليشيات والنظم الشمولية هي دلالة على ان الامة تسير نحو مزبلة التاريخ لانها تعمل على تدمير العلاقات الاجتماعية ومنه تدمير البلد والامة.يقول العالم الاجتماعي خالص جلبي(أن تكون لكل قرية مقبرة معروف لا ينكره أحد أو يجهله، ولكن أن يوجد مقابر للحضارات؛ فتلك لا تخطر إلا في بال العباقرة والفلاسفة المميزين، وشرحها للبسطاء لايزيدها إلا غموضا. وموت الأمم مذكور في القرآن، وهو خلاف موت الأفراد، فهناك كل نفس ذائقة الموت. وهناك لكل أمة أجل. وموت الفرد بيولوجي، أما المجتمع فهو تقطع نسيج العلاقات، وفي يوم كانت الخلافة العثمانية الرجل المريض على البوسفور ثم مات. وحسب… قراءة المزيد ..