لازالت السياسة في البلاد العربية، رغم انتخابات العراق وعودة البرادعي في مصر وبعض الاجواء الديمقراطية الايجابية في بعض المواقع العربية مثل الكويت ولبنان، حكر علي فئة مسيطرة او فرد قائد او جناح من عائلة او فئة من طائفة. بمعنى اخر لازلنا في البلاد العربية في مرحلة ما قبل الثورة الديمقراطية وافاق اجتياحها لعالمنا في السنوات العشر القادمة. السياسة حتى الان عند العرب هي سياسة سيطرة من الاعلى. وفي هذا النمط من السيطرة اوهام حول القوة والثبات، لكنها في الجوهر مليئة بالتناقضات والهشاشة. لقد سيطر في البلاد العربية حكم الاستخبارات قبل حكم المعلومات والعلم، وحكم القوة قبل حكم الحكمة، وحكم العائلات وفروعها والقبائل قبل حكم المؤسسة والدولة بصفتها مساحة الجميع، وسيطر ايضا حكم التفسير الاصولي قبل التفسير المجدد والمتنور. حتى اللحظة العالم العربي يعيش مأزق السياسة وكيفية التعامل مع الدولة.
لكن مشكلة التحول الى الديمقراطية مرتبطة حتى الان بضعف الطبقة الوسطى العربية. فغياب هذه الفئة الاساسية للتقدم هو احد اهم مسببات تراجع العالم العربي عن مشروع التحديث والتنمية الذي بدأ في النصف الاول من القرن العشرين. بلا طبقة وسطى مستقلة فاعلة اقتصاديا وغير معتمدة على الدولة لن يكون هناك نجاح في التقدم والحريات والتنمية في البلاد العربية، بل ستسير الدول العربية حتما نحو حالة من الفشل والفوضى.
وتؤكد لنا تجربة الغرب وتجارب مجتمعات اخرى غير غربية بأن الحقوق والحريات والديمقراطية تتطلب طبقة وسطى مستقلة. فمن خلال نمو الطبقة الوسطى نجحت التجارب العالمية في تحديد الفساد وفصله عن احتكار السلطة ونجحت بنفس الوقت في عملية التوسع في الحريات والحقوق وتحديد صلاحيات الطبقة الحاكمة من الملوك والرؤساء وتحديد مدد بقائهم في السلطة انطلاقا من مدنية الحكم. ان سعي الطبقة الوسطى في التجارب العالمية لحماية استثماراتها ومستقبل انتماءها للاوطان التي نشأت فيها جعلها تسعى الى ضمانات لحرية الرأي والمعرفة والانتقال والتجارة ووضوح الادارة والشفافية وتداول السلطة. هذه التطورات هي المسؤولة في المجتمعات العالمية عن التجديد والنمو والتنمية والادارة الحديثة والمستقبل الواعد والجامعات المتقدمة والمرافق العلمية والطبية والبحثية.
في الحالة العربية التنمية ترتبط حتى الان بوجود الكثير من التلاصق بين الذين يقودون الدولة وبين الذين يسيطرون على الاقتصاد، وفي هذا افساد للتنمية وادخال لها في طريق مسدود لا يختلف عن ذلك الذي دخل فيه الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه المفاجئ. ان اصحاب السلطة في الدول العربية هم شركاء في الاقتصاد، بل يصعب على الكثير من الشركات والاستثمارات العمل في الكثير من الدول العربية بلا شريك ”متنفذ“ يكون احد اركان السلطة والحكم. ان القول السياسي الشهير ”ان السلطة المطلقة تتحول الى مفسدة مطلقة“ فيه الكثير من الصحة. فكلما ازدادت الصلاحيات لدى الفئات الحاكمة كلما ازدادت نسب الفساد وانتشرت، وهذا بدوره يحد من نمو طبقة وسطى مؤثرة مستقلة وافرة العدد قوية البنية تحترم ذاتها قادرة على القيام باعباء التنمية وحماية الاستقرار البعيد الامد.
كانت اول الضربات الموجهة للطبقة العربية الوسطى الصاعدة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين عندما انتشرت سياسة التأميم في معظم الدول العربية. كما ووجهت لهذه الطبقة الوسطى ضربة قاسية عندما حولتها الدولة الى طبقة تعتمد على الدولة وعقودها مما حد من نموها المستقل. بل يمكن القول ان النفط تحول في الدول النفطية لاحد اكبر العوامل التي تحد من نمو هذه الطبقة، وذلك من خلال سيطرة الدول على الانتاج والثروات مما حول المجتمع الى موقع استهلاك لا انتاج وموقع اعتماد لا استقلالية. وقد انتجت هذه السيطرة الحكومية ضعفا عربيا واضحا في كافة مجالات العلم والانتاج والمؤسسات. ولم تكن عملية بروز مفكرين كبار مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ ومغنين ومغنيات مثل عبد الحليم حافظ وام كلثوم وملحنين مثل عبدالوهاب وعشرات غيرهم في ذلك الزمن السابق سوى تعبير عن نمو الطبقات الوسطى المستقلة ومطالبها. لكن تللك التجارب لم تصمد امام سطوة الدولة.
وقد صعب مهمة نمو طبقات وسطى عربية ان الدولة في البلاد العربية بقيت اسيرة العلاقة المبهمة والصعبة بين الدولة والاسرة المسيطرة. لا يوجد دولة عربية واحدة بما فيها الدول الجمهورية الا والعلاقة بين الاسرة والدولة في إلتصاق كما يلتصق طفل بامه. وبينما يمكن القول بأن هذا الالتصاق كان في السابق اصل نشوء جميع الدول وانه لا ضرر من وجوده في مرحلة، لكن الدول العربية تأخرت في عملية الفصل وذلك بسبب غياب التنمية السياسية و حالة اضعاف الطبقة الوسطى. لقد فصلت الدول الغربية ومعظم لدول العالم بين الاسرة والدولة ( لايشترط ان يكون فصلا تعسفيا كما يؤكد النموذج البريطاني) وهذا سمح لتطور الدولة في العالم بصفتها حامية البلاد والوعاء الاساسي للتنمية والمستقبل. لكن في البلاد العربية ادى غياب هذا الفصل الى ضعف كبير في الحالة الوطنية وتفتت المجتمعات الى فئات وقبائل وطوائف. فأن كان الحكم اسري تحول كل المجتمع لقبائل واسر، وان كان الحكم طائفي تحول كل الجتمع الى طوائف، وان كان الحكم خليط من الاثنين تحول كل المجتمع الى خليط من القبلية والاسرية والطائفية. هذا بحد ذاته يساعد على استقرار السلطة في المدى القريب لكنه يفجر الوطن في المدى المتوسط والبعيد.
ويترتب على ضعف الفصل بين القبيلة او العائلة والدولة ضعف التزام النخب الحاكمة بحكم القانون والمساواة امامه لجميع المواطنين. وبينما يطبق القانون على معظم المواطنين الا ان المقربين وبعض اهم الشخصيات المسؤولة يستثنون من الكثير من القوانين وصولا الى الجريمة. اما في الغرب فهناك قناعة واسعة النطاق بأن القانون ينطبق على كل الافراد من رئيس الدولة الى اعضاء الحكومة وبقية افراد الشعب. وقد شاهدنا ما حل بكل من الرئيس نيكسون ثم كلينتون من خلال تجاوز القانون. فهل يقع شيئ مثل هذا في دولة عربية؟
وامام ضعف دولة القانون يتبلور ضعف اخر: عدم المقدرة على مساءلة الدولة عن اعمالها. الحكومات في الدول العربية ليست مساءلة، وهي لا تحاسب على الكوارث التي تصنعها بحق شعوبها، فواجب المجتمع مدح الدولة في السراء والضراء. عدم المساءلة ادى الى دولة لا تعتمد على رأي الشعب فيها.
ونظرا لضعف الدولة في المجتمعات العربية وعدم انطلاقها من شرعية انتخابية تقررها صناديق الاقتراع اولا، فقد وجدت في الدين وأسلمة بعض او الكثير من القوانين وسيلة لتقوية شرعيتها واعطاءها عمرا جديدا. لكن الكثير من هذه التوجهات في العديد من الدول العربية تحول لعبث سياسي واجتماعي يحولها رويدا رويدا لدول دينية تقتلع التنوع وتقمع الرأي الاخر وتحد من حقوق المرأة والطوائف الاخرى والديانات الاخرى في المجتمع بينما تضرب الطبقات الوسطى صانعة التقدم. وهذا يصب بصورة مباشرة في اضعاف الدول العربية وتفجرها القبلي والطائفي والديني في المدى المتوسط.
عصر الاصلاح سوف يبرز من هذه الظروف الصعبة. لكن مراحل التحول الاصلاحي والديمقراطي لن تكون ممكنة بلا مجتمعات عربية تحمل رؤي متنوعة وطبقات وسطى وقطاعات مثقفة صاعدة وفاعلة مؤمنة بمستقبل اوطانها. الاساس الذي نحتاجه في هذه المرحلة هو فتح المساحة للجميع: للاسلاميين ولغير الاسلاميين للمتدينين ولغير المتدينين، وفتح المجال للكلمة المضادة ولاراء المعارضة، وفتح الباب لعودة المعارضين من الخارج بعد ان اغلقت الابواب عليهم في الداخل. يجب ان يتم هذا فلي ظل إقرار قوانين متقدمة وحريات مكفولة وحيادية واضحة من قبل الدولة تشجع اساسا على نمو الطبقات الوسطى. هذا هو الطريق الوحيد لبناء اوطان مستقرة ولمنع سقوط الدول العربية في دوامة التفكك.
وقد يسيئ البعض الحرية واستخداماتها، وهذه حجة تستخدمها السلطات في البلاد العربية لمصادرة الحرية. لكن توفر الحرية يطور المجتمع برمته. فهل نمنع الهواء لان احدا اساء استخدامه؟ ان منع شيئ لانه يستخدم بصورة سلبية من قبل اقلية صغيرة يساوي منع السيارات لان البعض يسبب الحوادث لالوف الناس.
ان الاصلاح القادم يجب ان يأتي بصورة مبادرات من قادة الدول العربية. فهذا افضل انواع الاصلاح لانه يأتي من القمة ويساهم في تغير هادئ وسلمي. وقد حصل هذا النوع من الاصلاح في كل من اسبانيا والبرازيل في السابق. لكن في ظل غياب هذا النوع من الاصلاح او عدم المقدرة على تحقيقه سوف يكون هناك مرحلة من التذمر والعنف في الشارع قد تؤدي لتحديات تأتي من المعارضة. وهذا يفتح المجال لاكثر من احتمال. قد يقود هذا الى الاتفاق مع المعارضة علي تداول السلطة كما حصل في جنوب افريقيا وبولندا. وان لم يقع هذا سيكون هناك عنف واضطرابات كما حصل في كوريا. وربما تقع ثورات شاملة كما حصل في تشيكوسلوفاكيا والبرتغال. ولو لم يقع اي من هذا ستنهار الدول وينفرط عقدها كما رأينا في يوغوسلافيا وفي الصومال حيث سيطرت الحرب الاهلية لسنوات. هذه احداث ليست بعيدة عن العالم العربي في العقد القادم والذي يليه. امامنا سنوات قاسية يجب التعامل معها بروح قيادية لتخفيف حدتها واثارها على بلادنا.
ان طرق الاصلاح متشعبة كما اوضحنا ووسائله مختلفة منها السلمي ومنها العنيف. لكن يجب ان نحاول تفادي العنف والثورات لانها مؤلمة ونتائجها سلبية على المجتمع كما حصل في جميع الثورات التي عرفها التاريخ بما فيها الثورة الايرانية والفرنسية والصينية. لكن بنفس الوقت يجب علينا تفادي الجمود لانه يوصلنا الى الدول الساقطة والفوضى والعنف الاعمى. من هنا تنبع اهمية الاصلاح السياسي الذي يتطلب قادة لديهم شجاعة و يحملون رؤية لمجتمعاتهم و بلادهم.
ولنتذكر هناك جيل عربي يتشكل في ظل التكنولوجيا الجديدة وفي ظل الانترنيت واليوتيوب والفيس بوك التويتير والاعلام الجديد، وهو نفس الجيل الذي يكتشف ان وطنه قد صودر منه لصالح فئات صغيرة تحتكره، بل يكتشف الجيل الجديد انه يفتقد للمكان ويفتقد للمستقبل والعمل بسبب هذا الاحتكار. الجيل الصاعد متفاعل ولا يمكن صعقه بانظمة مركزية وطرق قيادة تقليدية واساليب عمل تحتكر السياسة والسلطة. هذا الجيل هو الاغلبية السكانية و هو جيل التغير ووسيلته الاصلاح لكنه قابل للاشتعال والعنف كما نلاحظ من ارهاصات الارهاب المنتشرة في بعض الدول العربية.
ان ضبط وقيعة التغير وايصاله الى بر الامان يتطلب مبادرات جادة من القادة العرب، وتنشيط للطيق الوسطى العربية وفتح لمساحة الحرية وتنمية جادة للمشاريع الصغيرة المعتمدة على الشباب، وقوانين اصلاحية وفصل للاسرة والقبيلة عن الدول، وتأكيد على مدنية الدولة وعدم استخدامها للدين في الشأن السياسي، واحقاق لدولة القانون والدولة التي تساءل من قبل شعبها وصولا الى ديمقراطية فيها تداول على السلطة . ان فشل مشروع الاصلاح بأمكانه ان يحول الجيل الصاعد نحو التطرف المطلق بل والافغنة بكل معانيها.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.
نُشِر في “الحياة”