ضمن التصورات الخاطئة التي وقع فيها معدو وثيقة التصور المستقبلي للعرب في اسرائيل، هو الأفتراض ان المجتمع العربي في اسرائيل، ثابت في تفكيره وغير متحول في خصائصه ويكاد يبدو حسب منطلقاتهم، مجتمعا متكاملا لا يعاني من مشاكل تعيق تكامله وتوافقه. لا يعاني من النزاعات التي تميز مجتمعات العالم الثالث أو ما دون ذلك.. ويتجاهلون تفسخه وتشرذمه المقلق!!
انتبهت لهذ الرؤية ” الأكاديمية الطفولية ” في التعامل مع الواقع العربي الأسرائيلي في المداخلة التي شاركت فيها احدى القيادات النسائية التي ساهمت في كتابة ” التصور المستقبلي ” للعرب في اسرائيل، وذلك في الندوة التي نظمها معهد ” ميمري “في القدس حول الوثيقة المذكورة (معهد ” ميمري ” في اسرائيل يبحث في الأعلام في الشرق الأوسط، وشعارة الأساسي: “التعرف على الجيران من أجل تحقيق السلام “، وهو من المجموعات اليهودية التي تدعم قضايا السلام والمساواة، ولهم موقع مميز على شبكة الأنترنت باللغتين العبرية والانكليزية – www.memri.org.il).
كنت قد طرحت، ضمن تصوري لعبثية التصور المستقبلي، بصيغته المطروحة، تجاهل ما يعاني منه مجتمعنا من التفسخ والتشرذم والركود، التي تنعكس بكل سلبياتها على الحياة الاجتماعية والسياسية اليومية.ورأيت حقيقة هامة كررتها كثيرا في مقالاتي، ليس حبا بالتكرار، انما للتحذير من الواقع الفاسد الذي يسكت عنه، خاصة ممن يعتبرون أنفسهم ” قيادة سياسية ” وربما ” قيادة قومية “… لأني أرى بهم المسؤولين مباشرة عن هذا الواقع الأجتماعي المأزوم، واقع التفسخ الطائفي والتشرذم الفئوي والعائلي.. بصمتهم وغيابهم الصارخ عن قضايا مجتمعنا الملحة والمقلقة، وابتعادهم عن هموم الناس اليومية، وغرقهم بالمنافسات الشخصية للبروز أفضل قومجيا وشعارات صارخة، بعيون مشاهدي محطات التلفزة العربية.. فهل نستهجن أن خطاب الأحزاب السياسي لا يربطه رابط بالواقع العربي في اسرائيل، ولا يتعامل مع هموم الجماهير العربية وقضاياها، الا بالخطابات التهريجية للقيادات الحزبية ؟(ويؤسفني أن بعض التفاصيل لا أستطيع تسجيلها في مداخلاتي، حتى لا يفهمني بعض القراء بشكل خاطئ، ولكن يستحسن ان يراجع القراء خطابات ” قياداتنا السياسية ” في مواقع شبكاتهم العنكبوتية.. وليقارنوها أذا تمكنوا مع المفاهيم الماركسية الأصيلة والوطنية السليمة..)
القائدة النسائية المحسوبة على “القيادات الرسمية”، قالت في ردها غير المباشر على تصوري حول التفسخ والتشرذم والأزمة القيادية في مجتمعنا.. بأن ما اسميه تفسخ وتشرذم، هو ” تعددية حزبية “، وأن هذا من شروط الدمقراطية ومميزاتها.
واضح أن هذا المنطق كان ضمن نقاط الأنطلاق للمجموعة الأكاديمية، عديمة الخبرة السياسية والنضالية التي أعدت وثيقة الرؤية المستقبلية. ان عدم فهم (أو التجاهل المقصود) للواقع الاجتماعي المتفسخ والمتشرذم، والتعامل معه كحالة أكاديمية مستقرة ومثالية، قاد الى الأخطاء المميتة في صياغة الوثيقة، وجعلها مجرد ثرثرة اخرى مضرة بنضالنا داخل اسرائيل، هذا النضال غير السهل، الذي يفترض انتباها للطروحات الصحيحة، في صياغة المطالب العادلة، والأهم لوضع استراتيجية نضالية تلائم الواقع الذي نعيشه. أن رأب التصدع في مجتمعنا، يحتاج الى دراسة (اكاديمية أيضا)، تضع الأصبع على مكان الألم، بدون اعتبار لرأي ” الممولين ” وتحديداتهم السياسية والفكرية للتصور المستقبلي المطلوب. نحن لا نكتب ” تصور مستقبلي ” لشعبنا من دمشق، ولا نكتبه من عمان أو من ليبيا.. ولا نكتبه من ايران.. نعرف أن الأقلام العربية “جريئة” أكثر منا في مهاجمة اسرائيل والصهيونية.. ولكنها فأرية تماما في طرح هموم المواطن العربي في الأوطان العربية، وجبانة حتى النخاع في نقد الواقع العربي، وانا لا الومهم.. وأفهم واقعهم، ولكن ليخففوا غلوائهم الخطابي…
هل حقا ما أسميه تفسخا اجتماعيا وأزمة قيادية هو مجرد ” دمقراطية وتعددية حزبية “، وليس أزمة حادة خطرة على تكاملنا الاجتماعي والسياسي ؟!
صحافتنا، رغم ترددها وتحفظها، لعدم كسر العلاقة مع الأحزاب، ضمانا للاعلانات الحزبية، خاصة مع كل انتخابات بلدية او عامة للبرلمان.. الا انها لا تخلو من المقالات والتحقيقات الصحفية التي تتناول جوانب هذه الأزمة. ومن حسن حظي اني أصبحت قادرا على الكتابة بحرية، وعدم التقيد بالضوابط التي يفرضها محررو الصحف على هذا النوع من النقد السياسي والاجتماعي، نتيجة توفر مساحة نشر واسعة على الشبكة العنكبوتية (الأنترنت).
المقلق حقا، هو أن من يعتبرون أنفسهم “قيادة سياسية” – مثل زميلتي في ندوة القدس، وقادة حزبها، وقادة سائر الأحزاب والفلق الحزبية، وبعضها أحزاب ورقية.. ينكرون أن مجتمعنا في أزمة، وأحيانا، حتى يخففوا قلق الناس، يحاولون المقارنة بين وضعنا، ووضع الشعوب العربية. السبب بسيط، اذا أقروا بالأزمة، ستوجه أصابع الأتهام لهم، وسترتفع الأصوات بالتغيير. أذن أفضل لراحتهم، وضمانا لمكانتهم.. الأصرار ان الدنيا بخير !!
راجعوا المقالات التي ينشرها ” القادة والمفكرون ” المحليون على شبكات الانترنت.. ويغرقون المواطن العربي، في العالم العربي بالأساس.. بالعنتريات والفلسفات والنظريات، التي تخدم قبل كل شيء، مروجي هذا اللغو ومصالحهم المادية والشخصية .. حتى على حساب القضايا العربية المصيرية. وحق المواطن العربي في نظام دمقراطي يحترم حقوقه كمواطن وانسان،عبر تصوير بعض الأنظمة العربية الفاسدة، والتي تمارس طغيانا سلطويا رهيبا، كقائدة النضال القومي التحرري !!
اذن ما هي مظاهر الأزمة التي يعيشها مجتمعنا ؟
اولا : التعددية الحزبية لا تعني تعدد المكاتب الحزبية، وفيضا من الزعماء الحزبيين المتنافسين على المواقع الشخصية وعلى شاشات التلفاز وشبكات الأنترنت المختلفة، وترديد الشعارات الصارخة. التعددية الحزبية تفترض مبدءا اساسيا جدا، الحوار والصراع الفكري بين الطروحات المختلفة، خدمة لتطوير رؤيتنا وفكرنا، ومواجهة فكر الطائفية السياسية والعائلية السياسية، الآخذ في الانتشار والسيطرة.
ثانيا : انتشار الطائفية والطائفية السياسية، وتحولها الى حالة اجتماعية- سياسية مرضية، بحيث بدأت في السنوات الأخيرة تسود مجتمعنا، كبديل للوطنية وللمسؤولية الاجتماعية.
الطائفية كانت دائما في مجتمعنا، ولكن كشكل من أشكال المجتمع التقليدي المحافظ، غير انها كانت معزولة وقليلة التأثير والضرر، أيضا بفضل الرؤية السياسية السليمة والصحيحة، واسلوب مواجهتها، من القيادات السياسية النهضوية التي ميزت رعيل الشيوعيين الأوائل وقدرتهم وجرأتهم على مواجهة الخلل الأجتماعي بكل مظاهره. اليوم تحولت الطائفية البغيضة الى جزء اساسي من الواقع الحزبي والسياسي، وتشارك مشاركة فعالة في المنافسة على المناصب السياسية وفي السلطات المحلية. وهناك ترابط مقلق أكثر في التحالف والاندماج بين الطائفية السياسية والعائلية السياسية. المميز اليوم في الانتخابات للسلطات المحلية، تكاثر القوائم الطائفية والعائلية، وازدياد قوتها.. وتضاؤل القوائم الحزبية وضعفها، والأكثر خطرا من ذلك، النهج الذي صار يميز الأحزاب السياسية، بدل مواجهة الطائفية السياسية والعائلية السياسية، هناك عملية اندماج بين الأحزاب السياسية، وبين الطائفية والعائلية، بحيث صرنا نرى ان مرشحي العائلات أو الطوائف، هم بنفس الوقت مرشحو الأحزاب السياسية، التي تتنافس الأحزاب من وراء ظهرهم. أي أن الأحزاب تتنازل عن مبادئها في سبيل الأدعاء انها زادت تمثيلها، وكسبت مواقع جديدة. ولكن الواقع، ان المرشح الطائفي أو العائلي، لا يخدم في المقام الأول الا قاعدته الطائفية أو العائلية، أو كلتيهما معا.وأين يقع دور الأحزاب الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والتربوي في هذه الحالة ؟؟ أين يقع دورهم في نشر الوعي الفكري والسياسي والاجتماعي والأخلاقي ؟؟ بعض الأحزاب بدأت تنظر لضرورة الأندماج مع الطائفية والعائلية لأنها تشكل أكبر التجمعات السياسية في مجتمعنا.. للأسف هذا التنظير طرحة أحد قادة الجبهة الدمقراطية (الحزب الشيوعي الاسرائيلي) ولم يثر ردود فعل ونقاش الا من كاتب هذه السطور. وآثاره برزت في خطاب (قبل أيام) لعضو الكنيست، وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الاسرائيلي ورئيس مجلس الجبهة (الشيخ) محمد بركة.(أمتنع عن نشر تصريحه المضحك المبكي حتى لا يفهمني بعض القراء خطأ)
هل غابت الحقائق المؤلمة والمذهلة للطائفية السياسية والعائلية السياسية عن بصر وبصيرة معدي وثيقة التصور المستقبلي ؟! هل يتجاهلون التوتر الأجتماعي الحاد والتشرذم المخيف، الذي دفعتنا اليه الطائفية البغيضة ؟ هل يتجاهلون، أن أحداث عنف مؤلمة ضربت علاقاتنا الأجتماعية نتيجة الطائفية والعائلية المستشرية في مجتمعنا، بغياب مواجهتها فكريا وتثقيفيا ؟! هل يتجاهل معدو الوثيقة ان مجتمعنا يتبعثر بالهجرة الواسعة ايضا، خاصة من ابناء الطوائف الصغيرة، الذين لا يرون أملا في اصلاح الواقع الاجتماعي ؟! لا يا سيدتي العزيزة، ما نواجهه ليس تعددية حزبية.. وشكل من أشكال الدمقراطية.. حقا نحن مجتمع يتمتع بدمقراطية واسعة جدا رغم واقع الاضطهاد القومي والتمييز العنصري.. ولكن ” قادتنا ” منغلقون، مع سبق الاصرار، عن القضايا الملتهبة لمجتمعنا، ويحاولون كسب الطائفية، بغض النظر عن شرذمتها وتفسيخها لوحدتنا الوطنية، وضربها تكاملنا الاجتماعي، والتفافنا السياسي وراء مطالب وطنية، الذي كان مصدر قوتنا في مقارعة السلطة ومواجهة مخططاتها (نماذج : يوم الأرض.. معركة اول أيار 1958، معركة الغاء الحكم العسكري.. المعركة ضد القوائم السوداء التي حرمت المئات من الشيوعيين والوطنيين من حرية التنقل، والتي أطلق فيها محمود درويش قصيدته الشهيرة ” سجل أنا عربي ” وسالم جبران قصيدته ” سجل اسمي في القائمة السوداء “.. الغضب الجارف (شبه انتفاضة) على مقتل الشباب العرب الخمسة في اوائل الستينات، معركة الغاء التمييز في مخصصات الأطفال العرب، معركة الهويات التي قادها المحامي الشيوعي حنا نقارة في السنوات الأولى للدولة لمنع تهجير آلاف الفلسطينيين، معركة الوقوف بالأجساد ضد سيارات التهجير، اختراق الحصار على كفرقاسم وفضح الجريمة التي ارتكبت.. ومعارك اخرى كثيرة لا تسعفني الذكرة اليها) اليوم نتمزق، نتشرذم ونتفسخ ، ولا حياة لمن تنادي، المهم خدمة مصالحهم، وليحترق الجميع، ما داموا هم على ظهور الخيل !!
ثالثا : محصل حاصل، هناك تفريغ للأحزاب السياسية من مبناها الداخلي، ومن تفعيل الكوادر في العمل السياسي الميداني، وتتحول الأحزاب أكثر وأكثر الى اطر موسمية للأنتخابات، خصوصا الانتخابات البرلمانية (الكنيست). وتحتل الشخصانية الحزبية القمة، وكل مؤسسات الحزب ولجانه وقادة فروعه واعلامه، أصبحت في الظل، مهمتها نفخ الشخص – الزعيم وتمجيده، وكنا شهودا على ظاهرة عبادة الفرد التي فرضت نهجا قضى على الوعي السياسي، والفكر المتنور، وحطم مشروعا سياسيا، كان حلما جماهيريا طال انتظاره.. أضحى اليوم مهزلة ومأساة مبكية !! وهذه لم تبق ظاهرة في حزب بعينه، بل تنتشر واضحت ظاهرة تنسخ في جميع الأحزاب.
اذن هل بالصدفة غياب النقاش السياسي الحقيقي المكشوف بين الأحزاب ؟ نعرف عمق الضغينة بين الأحزاب.. ولكن لا نسمع ولا نقرأ حتى كلمة نقد واحدة.. وحتى في معركة الانتخابات الأخيرة كنا شهودا على “اتفاق سلام ” غير مكتوب بين الأحزاب العربية، بحجة انه يجب توجيه النقد لصد الأحزاب الصهيونية (ومع ذلك لم تحصل الأحزاب العربية الا على أقل من 50% من أصوات أصحاب حق الأقتراع العرب وذهب الباقي للأحزاب الصهيونية، وأكثر من 35% من العرب لم يشاركوا بالتصويت من منطلقات رفض نهج الأحزاب العربية أو رفض المشاركة بانتخابات لبرلمان اسرائيلي!!).
ان مجتمعا لا تجري فية نقاشات سياسية واجتماعية وفكرية وثقافية، وليست فيه مبارزات سياسية، وتختفي من صحافته التحقيقات حول الفساد والخلل والنقد، هو مجتمع يندفع الى اللامبالاة والبلادة.
النقاش بيننا لا يعني عدم مواجهة السلطة العنصرية، وتعرية سياستها. مجتمعنا ليس كاملا ومليء بظواهر الفساد والرشوة والخلل في المسؤولية من الأحزاب حتى المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية، والصمت عنها بحجة مواجهة السلطة العنصرية، هو مبرر غير أخلاقي، يقود الى المزيد من الفساد والتفسخ الاجتماعي.. الذي تسمية زميلتي في ندوة القدس ” تعددية ودمقراطية “.
القصور الذي بدا في الوثيقة عن “الرؤية المستقبلية”، هو استمرار، بمظهر أكاديمي، للواقع المأزوم سياسيا واجتماعيا، ولن يقود الى وضع نهج عقلاني سليم للخروج بمجتمعنا الى آفاق رحبة، برؤية مستقبلية تواجه الواقع المأزوم والفاسد سياسيا واجتماعيا.
بالطبع، لا بد من مراجعات أخرى للعديد من القضايا التي يطرحها “التصور المستقبلي”.. الذي سيطرح للنقاش، كما فهمت، على لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في اسرائيل… وآمل ان يساهم اصحاب الرأي من كل الاتجاهات السياسية والفكرية في طرح مواقفهم..لعلهم يساهمون في احداث هزة ونهضة في الوعي الجماهيري العام على الأقل!!
*نبيل عودة – كاتب، ناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة