ا الشفاف – خاص
لم يكن مقدرا لإمارة دبي ان تشهد هذ التعثر المالي الذي لا يبشر بالخير لمستقبل الإمارة التي اظهرت نموذجا متقدما في عمليات النمو السريع والمّطرد والذي فاق حدود الخيال في بعض المشاريع (على غرار بلط البحر) واجعل عليه منتجعا يـُرى من الفضاء الخارجي من اجمل منتجعات العالم. إضافة الى السباق المحموم عالميا وعربيا على تنفيذ إنجازات عمرانية احتلت موقع الصدارة في موسوعة “غينيس” للارقام القياسية، من اكبر برج في العالم الى اكبر فندق تحت المياه الى ما هنالك من الانجازات التي تم تحقيقها في سرعة قياسية.
ولكن مع بداية تعثر الإمارة في سداد ديونها يبرز التساؤل عن مكامن الخطأ في ما حصل ولماذا وصلت دبي الى مرحلة تعجز فيها عن سداد بضعة مليارات، على الاقل هذا ما هو ظاهر اليوم، بعد ان كانت تنافس عل إدارة موانئ في الولايات المتحدة وبريطانيا وهي لاعب رئيسي في معظم البورصات العالمية وبعد ان انجزت اكبر صفقة في تاريخ شراء الطائرات قاربت المئة وخمسة وعشرين مليار دولار وفي ظل الرؤيوية التي اعلن عنها حاكم الامارة الشيخ ورئيس الوزراء الاماراتي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لجهة التطاول في البنيان وتحقيق نسب نمو كسرت جميع الارقام القياسية الاقتصادية العالمية؟!!
اولا، لا بد من التوقف عند الوظيفة التي أوكلت لإمارة دبي في الفترة السابقة. والسؤال المشروع هنا هو: هل استنفدت دبي هذه المهمة؟ فبعد ان كانت ملاذا استثماريا وعامل جذب اقتصادي لرؤوس الاموال تحولت الى عامل طرد لرأس المال الاستثماري.
والجواب على السؤال يستولد بالضرورة تساؤلا آخرا بشأن ما إذا كانت السلطات الاماراتية أحسنت إدارة هذه الفرصة من اجل ترسيخ بناء اقتصادي سليم يأخذ في الاعتبار المخاطر الاقتصادية على غرار تداعيات الازمة المالية العالمية والتي لم تكن في حساب احد إلا أن علم الاقتصاد يفترض دائما أخذ المخاطر غير المتوقعة في حسابات الربح والخسارة وإنجاز الموازنات سواء للدول او للشركات او الافراد؟!!!
والإجابة عن التساؤلات السابقة وفي ظل الوقائع الميدانية لا تشير الى ان السلطات في إمارة دبي قد أخذت هذه المخاطر يالاعتبار. ربما لان هذه السلطات ارادت تحقيق الاستفادة القصوى من الفرص التي اتيحت لدبي والدفع بها الى الحدود القصوى متجاوزة جميع الحسابات الاقتصادية حتى البديهية منها، وصولا الى إعلان الشيخ محمد بن راشد يوما ان دبي مدينة لا تتسع إلا للأغنياء. وانطلاقا من هذا التوصيف الوظيفي، انطلقت ورش الرفاهة في سائر انحاء الإمارة آخذة في طريقها التقسيمات الاجتماعية – الاقتصادية للطبقات والشرائح التي تكونت منها الامارة كذلك القواعد الاقتصادية لجهة مخاطر الإدانة المفرطة وعالية المخاطر وصولا الى تورّم اسعار العقارات التي شكلت الرافعة الرئيسية لاقتصاد إمارة تفتقر الى ابسط عوامل الجذب الطبيعية للسياحة في مناخ صحراوي سعى حكام الامارة الى تلطيفه.
من ابرز الاخطاء التي ارتكبت في دبي توزيع بطاقات الاعتماد على المقيمين والوافدين والمواطنين من دون ضمانات فعلية، فضلا عن الإنفلاش المرضي في سوق الإقراض ايضا من دون ضمانات مما جعل كتلة نقدية كبيرة تخرج من الامارة كي لا تعود اليها الى جميع البلدان من دون استثناء.
ومن الأخطاء ايضا المضاربات غير المشروعة في سوق العقارات والتي كنا أشرنا اليها في مقال سابق للتعثر الحالي، بحيث كانت المعاملات المصرفية لتمويل سوق العقار ورقيّة الطابع كي لا نقول وهمية، فلا كتل نقدية تنتقل بين المصارف ولا ضمانات فعلية موازية لحجم الإقراض العقاري بمعنى انه كان يكفي لطالب شراء شقة سكنية في جنة دبي ان يدفع 5 % من سعرها الاصلي عند اطلاق المشاريع السكنية، على ان يباشر الدفع عند استلام الشقة. وفي المرحلة الانتقالية، تتولى المصارف تمويل عمليات البناء آخذة على عاتقها مخاطر كبيرة ابرزها تعثر سداد الشاري. ولكن هنا ايضا قد يرد احدهم بان الطلب على العقارات فاق العرض باضعاف مضاعفة. وهذا صحيح، ولكن الطلب لم يكن في اي وقت من الاوقات محليا بل استثماريا، نظرا للارباح التي تحققها المضاربات غير المشروعة في سوق العقارات.
فبعد ان يتم انجاز المرحلة الاولى من المشروع يرفع السعر بنسبة 25 % في المئة وعند الانتهاء قد يتضاعف سعر الشقة السكنية تبعا لمكان المشروع ونسبة البذخ فيه. وهنا تصبح الشقق السكنية معروضة للبيع من جديد. وإذا تضاعف ثمن الشقة بعد انتهاء المشروع تكثر عمليات البيع من قبل المستثمرين، ما تسبب بمكاسب هائلة. إذ على سبيل المثال، لو افترضنا ان سعر الشقة عند إطلاق المشروع كان 500000 درهم إماراتي أي ما يوازي 136 الف دولار اميركي، فإنه يكفي لشرائها 25 الف درهم والباقي معاملات ورقية ضمانتها الوحيدة شيك ابيض من دون تاريخ ومن دون تحديد القيمة. ولكن بعد سنة ونصف السنة، يتضاعف سعر الشقة عند التسليم فيحقق الشاري ارباحا توازي 500 الف درهم مقابل دفعة اولى قدرها 25 الف درهم اي ما يقارب 7 ألآف دولار اميركي وهي نسب ربح وهمية وغير طبيعية ولا يقرها قانون ولا اقتصاد.
هذا طبعا إذا كانت الشقة بيعت لمرة واحدة. ولكن في بعض المشاريع كان الطلب مرتفعا بحيث تضاعفت اسعار الشقق والفيلات اربع مرات او ثلاث في الحد الادنى والمصارف هي الممول الرئيسي لعمليات البيع والشراء.
هذا على المستوى العقاري.
اما على المستوى السياحي، فلا يمك انكار ان دبي نجحت في استقطاب الملايين من السواح حول العالم نظرا لحسن إدارة تسويق الامارة كمعلم سياحي رائد على المستوى العالمي يقدم للسائح كافة اشكال الخدمات السياحية بالتزامن مع عمل السلطات الدؤوب على تنويع المعالم السياحية وإغنائها.
وكما اشرنا في مقال سابق، فهذا النمو المطّرد والمتسرع والسريع جرف معه الطبقات الاجتماعية. فزاد المواطنون غنى، واصبح الوافدون يعملون جاهدين لسداد ديونهم التي تم إغراقهم بها عبر بطاقات الاعتماد والقروض الميسرة. ولكن لم يتم ربط هذا النمو بفلسفة إجتماعية تربط الوافدين بالإمارة بحيث يصبح هؤلاء معنيين بالاقتصاد في الإمارة ويعملون للمحافظة عليه بدلا من تحقيق الاستفادة القصوى من الفرص التي اتاحتها المصارف قروضا وبطاقات إئتمان بحسن نية او بسوء نية لا فرق. فالنتيجة كانت وبالا على الاقتصاد في دبي، ديونا هالكة معظمها غير قابل للتحصيل إضافة الى شقق يعجز اصحابها عن سداد اقساطها طويلة الاجل والتي لم تعد تساوي اليوم اكثر من 30 في المئة من آخر سعر تم بيعها به في احسن الاحوال. هذا إذا افترضنا حسن نوايا المشترين وهم كذلك لانهم كانوا يلتزمون سداد القروض والديون متحينين افضل الفرص لبيع العقارات ليحققوا اكبر نسبة من المكاسب.
15 ألف شركة و100 مليار دولار لإيران
هذا جانب. وفي جانب آخر، شكلت دبي ملاذا آمنا للشركات الايرانية (الأوف شور) التي بلغ عددها اكثر من خمسة عشر الف شركة وساطة تجارية وعقارية ومالية كما انها شكلت ايضا عامل جذب لرأس المال الايراني المقدر باكثر من مئة مليار دولار والمحاصر بالعقوبات الدولية، ومنفذا للبضائع العالمية الى الموانئ الايرانية بعد ان تمر بمرفأ “جبل علي” ومنه الى مرفأ بر دبي ومنه الى ايران بالمراكب الصغيرة. كما ان عبد القدير خان ابو القنبلة النووية الباكستانية أجرى معظم تعاملاته مع ايران عبر دبي ومن منطقة الديرة تحديدا حيث لديه مكاتب لشركته.
ولانها كذلك، زارها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن مطالبا قياداتها بالعمل على التخفيف من غلوائهم في إفساح المجال امان ايران للنفاذ من العقوبات الدولية. إلا ان الامارة، ولحسابات الجيرة، لم تتخذ من التدابير ما يكفي للمساهمة في محاصرة ايران انسجاما مع قرارات المجتمع الدولي، الامر الذي حاول حاكم دبي تداركه مؤخرا فاصدر اوامره بعزل عدد من القيادات المالية.
ففي العشرين من الجاري، أقال الشيخ محمد محافظ مركز دبي المالي “عمر بن سليمان” الذي قاد الجهود الرامية الى تحويل دبي مركزا ماليا للشرق الاوسط. كما اقال “محمد القرقاوي” و”سلطان احمد بن سليم” و”محمد علي العبار” من مناصبهم القيادية في دبي القابضة وشركة دبي للاستثمار بحجة انهم اخفقوا في مواجهة الازمة المالية. ولكن في الحقيقة للعارفين بخفايا الامور في دبي ما كان الشيخ محمد ليتخلى عن هؤلاء القادة لولا اصولهم الايرانية محاولا القيام بمبادرة اللحظة الاخيرة لانقاذ ما يمكن انقاذه والسعي الى تأجيل سداد ديون مستحقة على الامارة وشركاتها العقارية.
وفي سياق متصل، يبرز موقف إمارة ابو ظبي من إمارة دبي التي وصفها بيان رسمي من ابو ظبي بـ”الجارة”، مشيرا الى ان ابو ظبي سوف تتدخل لانقاذ ما تراه مناسبا للانقاذ من دبي. وفي هذا الصدد، لا بد من العودة الى اللقاء الشهير الذي جمع الشيخ محمد بن راشد بحكام امارة ابو ظبي طالبا معونتهم في بداية الازمة المالية العالمية. فبادروه بأن عليه ان يتدبر امره بنفسه لانه قام بما قام به من دون استشارتهم، وابلغوه انه جرهم الى سباق محموم في قطاع البناء لا يريدونه وليسوا جاهزين له. كما وانه من خلال التسويق لامارة دبي طغى على امارة ابو ظبي مع انها العاصمة الاتحادية والاغنى موارد نفطية. فطالبوه بشطب اسم “دبي” عن الخارطة العالمية لصالح العاصمة ابو ظبي، والتخلي عن ابرز معالم دبي وهي “شركة طيران الامارات” و”شركة موانئ دبي” والجزر الاصطناعية لقاء مد يد العون له، إلا انه رفض. وها هو اليوم يقلب الطاولة في وجه امارة ابو ظبي وحكامها ليشاطروه مسؤولية إفلاس الامارة. إلا أن ردة فعل ابناء الشيخ زايد لم تأت بحجم توقعات الشيخ محمد بن راشد فاعلنوا انهم سيستنسبون المشاريع التي سينقذونها من دون استعدادهم لانقاذ الامارة بكاملها.
وإزاء ما سب،ق لا بد من تسجيل تواطوء جميع الذين الذين مروا في دبي واستقروا فيها او استثمروا فيها في سوق العقارات او اي نشاط آخر خصوصا لان نسب الربح التي كانت تعرض عليهم تجاوزت الحدود المعروفة والتي تقرها القوانين الاقتصادية وكانوا يتنعمون بالعائدات الكبيرة لتوظيفاتهم في سوق عالي المخاطر.
واخيرا لا بد من الاشارة الى ان دبي الحالية لم تعد تشبه دبي منذ سنة، وهي بالتأكيد لن تكون نفسها دبي بعد سنة من الآن، حيث يُرتقب ان تكر سبحة التعثر المالي جارفة معها ابرز معلم اقتصادي عربي. كما ان استمرار التعثر سوف ينعكس سلبا اولا وآخرا في دبي خصوصا وان ديونها على كثرتها قد لا تتجاوز ديون “بنك ليمان برازر” التي شكلت بداية رأس الجليد في الازمة الاقتصادية العالمية والتي ناهزت 600 مليار دولار.
هل تسقط دبي تحت ضربات الازمة الاقتصادية؟
” دبي” تدفع ثمن سياساتها الجريئة و”أبو ظبي” تدعم.. وتتحيّن الفرص!