تتسارع منذ حرب العراق التساؤلات حول وضع ومصير المسيحيين في المشرق وفي بعض الدول خاصة العراق وفلسطين ومصر. ولقد حذّر البابا بنديكتوس السادس عشر ما قبل انعقاد “السينودس عن الشرق الأوسط”، في روما خريف 2010 ، من “اختفاء مسيحيي هذه المنطقة المضطربة”، داعياً الى بذل “جهود دولية عاجلة” لحلّ النزاع العربي- الإسرائيلي.
وهذا التحذير بمحمله اذ لا شك انه يجب بذل جهود لحل عادل للنزاع العربي الإسرائيلي لآسباب عدة اولها: تمكين العرب من التقدم والنمو.
اما التساؤل عن امكانية زوال مسيحيي المنطقة وتحديداً المسيحيين في لبنان فالجواب هو التالي:
زوال المسيحيين في بعض مناطق الشرق الأوسط حصل دائماً عندما كانت هناك حروب غربية على المنطقة كالحروب الصليبية، او “حروب الفرنجة” كما سماها المسلمون، والتي ادت الى انقاص نسبة المسيحيين في المنطقة من النصف الى اقل من الربع. كذلك في اواخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، زال المسيحييون من تركيا وخاصة اليونانيون والأرمن من خلال الحروب والتهجير الناتجين عن اصطدام القوميات اليونانية والأرمنية الصاعدة بالقومية التركية الناشئة. كل ذلك على انقاض الدولة العثمانية المتعددة القوميات والأديان والتي حفظت المسيحيين خاصة في لبنان وساهمت في ازدهارهم وتمددهم السكاني، وخاصة الموارنة ،انطلاقاً من جبتي المنيطرة وبشري حتى جنوب لبنان وشمال فلسطين في الجليل وسوريا وحلب وشرقاً في البقاع.
ويجب ان نتذكر انه منذ الفي سنة كانت الحماية الأساسية للمسيحيين من خلال التجذر في الأرض والمحيط والجبال احياناً ومن خلال التحالفات مع المكونات الأخرى للمجتمع ومن خلال انفتاحهم العلمي والثقافي على الغرب. وهذا هو وضع مسيحيي لبنان وسوريا ومصر وفلسطين والأردن والعراق، (رغم التهجير الحالي في هذا البلد الأخير). والضمانة الحقيقية لإزدهار المسيحيين في المشرق هي عندما ينخرطون في المجتمع مع احتفاظهم بتقاليدهم وايمانهم الذي هو جزء من الرسالات السماوية التي ظهرت في منطقتنا ويحملون هموم المجتمع والوطن ويناضلون من اجلها كما فعلوا في القرنين التاسع عشر والعشرين عندما كانوا نواة اساسية للنهضات الثقافية والسياسية والإجتماعية في المشرق العربي.
ولكن هذه الرؤيا تصدَم كلّما ازداد الوضع السياسي تعقيداً، والوضع الإقتصادي تدهوراً ; نسمع انذاك بعض المسيحيين يعلنون جهوزيتهم للهجرة هذه المرة لأنّهم “لم يعودوا مستعدين للتضحية في سبيل وطن أصبحوا فيه “أقلية” مع الوقت بسبب طغيان أعداد الطوائف الإسلامية على الطوائف المسيحية”.
وهنا يجب التساؤل عن واقع الحال
اولاً: ان من يعلن الجهوزية للهجرة كلما تعقد الوضع السياسي والإقتصادي هم لبنانيون من مختلف الطوائف وليس المسيحيون بشكل خاص وهم من يعتبرون لبنان فندقاً صالحاً للسكن ايام البحبوحة والأمان فقط، وليس وطناً يجب الدفاع عنه وعن ابنائه.
ثانياًً: لدينا معطيات احصائية تقدر توزيع المهاجرين منذ عام 1975 حسب الطوائف نعرضها في الجدول رقم 1 التالي:
*
الهجرة اللبنانية في 30 سنة الأخيرة هي هجرة إسلامية بالأساس
وتشير هذه الإحصاءات الى ان اللبنانيين المسيحيين لم يشكلوا اكثر من 23% من المهاجرين منذ العام 1975 حتى العام 2006 . واللبنانيون المسلمون شكلوا اكثر من 77% من المهاجرين اللبنانيين. واللبنانيون المسلمون هاجروا بكثافة منذ مطلع الثمانينات خاصة لنفس الأسباب التي دفعت باللبنانيين المسيحيين للهجرة منذ اواخر القرن التاسع عشر وحتى العقود الأخيرة للقرن العشرين. فهناك وهم يجب تبديله وفهم ان الهجرة اللبنانية منذ ثلاثين عاما هي هجرة اسلامية في الأساس . وتعاظم تدفق الهجرة اللبنانية الإسلامية الى الخارج يعود الى عدة اسباب : اولها ارتفاع المستوى التعليمي السريع بين اللبنانيين ابناء الطوائف الإسلامية ثم وجود شبكات من الأقارب والمعارف وابناء نفس القرى والأحياء في بلدان الإغتراب مما يسهل استقبال الهجرة وثالثاً بسبب سوء الأحوال الأمنية في مناطق اصبحت ذات اكثرية اسلامية خلال الثمانينات : طرابلس، بيروت الغربية، الجنوب المحتل، جنوبي جبل لبنان… ورابعاً في التسعينات سوء الأحوال الإقتصادية في هذه المناطق ذات الطابع الإقتصادي الزراعي والحرفي والصناعي بسبب السياسات الحكومية التجارية والنقدية والمالية التي خنقت القطاعات الزراعية والحرفية والصناعية في لبنان. ومن المعروف ان اكثرية من يعمل في هذه القطاعات هم من اللبنانيين ابناء الطوائف الأسلامية المتنوعة (شيعة وسنة ودروز).
فنفس الأسباب : ارتفاع مستوى التعليم، وجود اقارب في الخارج وسوء الأوضاع السياسية والأمنية والإقتصادية دفعت اللبنانيين المسلمين الى الهجرة كما كانت قد دفعت باللبنانيين المسيحيين الى الهجرة بين 1860 و1980 . فنفس الأسباب تؤدي الى نفس النتائج عند كل الطوائف.
ثالثاً: يجب ان نضيف الى ذلك ان الطوائف اللبنانية اصبحت متقاربة بالنسبة لمتوسط عدد الأولاد بالأسرة الواحدة كما يظهر بالجدول التالي:
ويعود هذا التقارب في التصرفات الديمغراغية بين الطوائف اللبنانية المسيحية والإسلامية اساساً الى التقارب في مستوى تعليم المرأة ومستوى التعليم بشكل عام والهجرة من الريف الى المدينة وتراجع نسبة العاملين في الزراعة مما يخفض من قيمة كثرة الأولاد الإقتصادية كيد عاملة قليلة الكلفة.
نتيجة لهذين العاملين المذكورين اعلاه: كثافة الهجرة الإسلامية في العقود الأخيرة وكذلك تراجع نسب التوالد، استقرت التركيبة الديمغرافية الطوائفية للشعب اللبناني في التسعينات كما يظهر في الجدول التالي:
لذلك المسيحيون ليسوا اقلية كما يقال. فهم كانوا يشكلون 44% من السكان المقيمين بينما المسلمون كانوا يشكلون 56% من اللبنانيين المقيمين مع حسبان الفلسطنيين خارج المخيمات والسوريين المقيمين. وهذه الأرقام تعود الى العام 1995. اما الآن، 15 سنة بعد 1995 ومع هذه الهجرة اللبنانية الإسلامية الكثيفة والتقارب في نسب التوالد بين الطوائف، فمن المرجح ان تكون نسب السكان اللبنانيين بين مسيحيين ومسلمين قد تقاربت اكثر.
لكن البعض يسأل: “انه في ظلّ تنامي خطر الإسلام السياسي (الجماعات الإسلامية السلفية وجماعة الأخوان المسلمين..)، ما الذي سيكون عليه مستقبل المسيحيين في لبنان والمنطقة؟”
وجواباً على ذلك انه ما يسمى بالإسلام السياسي هو مجموعة من الحركات تتبنى فهمها الخاص للإسلام دليلاً في عملها السياسي. ونمت هذه الحركات منذ اكثر من قرن كتعبير عن معارضة التوسع الأوروبي ثم الأميركي في المشرق. ومنذ خمسينات القرن العشرين ومع نهوض الحركات القومية واليسارية المعادية للسيطرة الغربية على المشرق، شجع الغرب هذه الحركات حتى نهاية الحرب الباردة في العام 1990 لمحاربة هذه الحركات السياسية والأنظمة الساعية للأستقلال السياسي والإقتصادي عن السيطرة الغربية وذلك في مصر وسوريا وايران واندونيسيا والهند وباكستان وافغانستان وتركيا وغيرها. اما في مشرقنا العربي فقسم من هذه الحركات اي الحركات التكفيرية يكفر المسيحيين وباقي المسلمين، والأقسام الأخرى لا تعتبر ان المسيحيين مواطنين متساوي الحقوق والواجبات مع المسلمين. لذلك تشكل هذه الحركات تحدياً للديمقراطية ولسيرورة بناء مجتمع مدني تسوده المساواة. ومن هذه الزاوية تشكل تهديداً للمسيحيين وللأكثرية الساحقة من المسلمين. ويجب ان نضيف هنا ان اكثرية هذه الحركات تناهض السيطرة الغربية الآن كما هي الحال في افغانستان وباكستان وايران، وبعض هذه الحركات الأكثر تطرفاً تحوم حولها شبوهات بالإختراق من قبل اجهزة غربية او عربية موالية للغرب، اومخترقة من قبل اجهزة العدو.
وضمن هذه التساؤلات هناك ما يشير الى تدهور الأوضاع المالية والمعيشية للعائلات المسيحية، وعن ازدياد البطالة في صفوف الشباب المسيحي؟
طبعاً ليس هناك من ارقام خاصة عن تدهور الأوضاع المالية والمعيشية للعائلات المسيحية، ولكن هناك ارقام حول ارتفاع نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر وهي معروفة من الجميع.كما ان دراسة اجرتها وزارة الشؤون الإجتماعية بالتعاون مع اجهزة الأمم المتحدة حول الفقر في لبنان خلال العقد الأخير تشير الى ان المنطقة الأكثر فقراً في لبنان هي مثلث عكار، الضنية، طرابلس وهي منطقة ذات اكثرية اسلامية سنية ويليها في الفقر محور قضائي جزين وصيدا وهي منطقة مختلطة طائفياً بين الموارنة والروم الكاثوليك والسنة والشيعة. فأوضاع اللبنانيين المسيحيين المالية والإقتصادية متدهورة، لكن اوضاع اللبنانيين المسلمين قد تكون اكثر تدهوراً للأسباب التي ذكرناها اعلاه بين اسباب الهجرة الكثيفة للبنانيين المسلمين. وفيما يختص ببطالة الشباب اللبناني المسيحي، فلا شك انه جرى توظيف اعداد كبيرة من الشباب اللبنانيين المنتميين الى الطوائف الأسلامية في اجهزة الدولة بين 1990 و 2010، مما خفض الى حد ما من البطالة في صفوف اللبنانيين المسلمين. ولكن ليس بشكل كاف للجم هجرتهم. اما بالنسبة للشباب اللبنانيين المسيحيين فهناك بطالة لكن بنسبة اقل من مثيلتها لدى الشباب اللبنانيين المسلمين. ونشاهد ذلك في النقص في القوة العاملة في المناطق المسيحية. كما هناك حركة نهضة لعودة الشباب اللبناني المسيحي الى ادارات الدولة بمساعدة هيئات وجهات كنسية وسياسية مسيحية عدة. وذلك منذ عدة سنوات تأميناً لمشاركة اللبنانيين المسيحيين المفقودة في اجهزة الدولة منذ عام 1990.
هناك ايضاً اسئلة عن تطور أعداد طالبي الهجرة من الطوائف المسيحية خلال السنوات الأخيرة هل زادت ام تراجعت؟ ويمكن ان نجيب على هذه الأسئلة كما يلي:
من الواضح من خلال قرائتنا للجدول رقم 1ان هناك تراجعاً في عدد المهاجرين المسيحيين منذ 2003، بل منذ 1999، بعكس ما يروج له. واكثرية هذه الهجرة تتوجه الى بلدان الخليج. لأن اكثرية بلدان الخليج لم تصاب بازمات اقتصادية متتالية، عكس البلدان الأخرى التي يقصدها المهاجر اللبناني خاصة في اوروبا والأميركيتين واستراليا. ومن المعروف ان المهاجر الى الخليج يعود اجمالاً الى لبنان.
لكنه يجب علينا ان نسأل عن أبرز العوامل التي تزيد من خطر هجرة المسيحيين:
ان العامل الأول هو الركود الإقتصادي وانعدام النمو المتوازن في كل المناطق وفي كل القطاعات. ومن المعروف ان القطاعات التي نمت بشكل سريع في السنوات الأخيرة هي القطاع المصرفي والقطاع السياحي وقطاعين البناء والعقارات وهذه قطاعات لا تشغل اعداد كبيرة من اللبنانيين مسيحيين ومسلمين. اما العامل الثاني فهو الخلافات السياسية المستوردة من الخارج والتي يغذيها الخارج والتي تشكل عامل عدم استقرار سياسي وامني ونفسي والتي يجب محاربتها بالإتفاق بين الطوائف اللبنانية المسيحية والإسلامية وتقوية الروابط بين المجموعات اللبنانية وتخفيف ارتباطها بالخارج والخضوع لرغباته. يجب زيادة الوحدة والترابط بين اللبنانيين لتخفيف امكانية قوى خارجية من التلاعب باللبنانيين لزرع فتنة بينهم خدمة لمصالحها.
خلاصة:
واخيراً يجب ان نفهم ان اللبنانيين المسيحيين لا يحتاجون الى حماية احد. فحمايتهم “منهم وفيهم” والحماية الأساسية هي في تضامنهم وتضامن جميع اللبنانيين. اما الشعور بان المسيحيين مهمشون اكثر من اي وقت مضى فقد تراجع هذا الشعور، والواقع يتغير منذ 2005 حين كان للمسيحيين الدور الأساس في استعادة السيادة. كما كان لهم دور اساسي في إحتضان اللبنانيين اللذين هجرتهم اسرائيل في حرب 2006. كما استطاعوا منذ ذلك الحين تحسين موقعهم في النظام السياسي وتخفيف تهميشهم المصطنع منذ 1990 وزيادة عدد النواب المسيحيين المنتخبين من قبل مسيحيين والذين يمثلون المسيحيين فعلاً، وذلك في انتخابات 2005 وبشكل اوضح في انتخابات 2009 رغم العورات في تقسيم الدوائر الإنتخابية وتوزيع النواب عليها التي تضاءلت الى حد ما في قانون الإنتخابي الجديد عام 2009.
فإن هذا التضامن بين المسيحيين وبنيهم وبين اخوانهم وشركائهم في الوطن ساعدهم في التسريع في العودة الى الدولة على الصعيد السياسي والإداري. فزمن تهميش المسيحيين قد ولى، فنحن في زمن نهضة المسيحيين لإستعادة حقوقهم ودورهم وشهادتهم في الدولة والمجتمع والإقتصاد في لبنان وذلك على اكثر من صعيد.
boutros.labaki@gmail.com
اقتصادي ومؤرخ لبناني
تساؤلات ووقائع حول وضع المسيحيين في لبنان والمشرق اللقاح الثلاثي فكرة اللقاح فلتة عبقرية يكافح فيها الجسم عدواً لم يطأ مملكة البدن بعد؛ فيفتك به وهو على الحدود، وكذلك الأفكار العضوية في الثورات. ويعتبر “باستور” الفرنسي أبو فكرة اللقاح ضد السعار، وكانت ملحمة من ملاحم الطب في إنقاذ الأطفال من عضات الكلاب المسعورة، وهي قصة تنفع مع السعار “البعثي” في سوريا، وهو ينقض نهشاً في المدن؛ فيهلك الرهط من الناس في عضة واحدة من الشبيحة. واستطاع كل من “سالك” و”سابين” تطوير لقاح “البوليو” ضد شلل الأطفال، وهو مرض أعرفه جيدًا نجوت منه بالصدفة وأنا طفل، ووقع بين براثنه الرئيس الأميركي… قراءة المزيد ..