غالبا ما يكون بعض غلاة المتحمسين في الدفاع عن القضايا العادلة، أسوأ أعدائها. وهذا ينطبق بدقة على الضجة التي أطلقتها قناة “المنار” عندما اتهمت من سمتهم بعض الأوساط بالتورط في فتح “الساحة التربوية في لبنان للغزو الثقافي الصهيوني” بسبب كتاب مدرسي للتاريخ يُدَرَّس باللغة الإنكليزية في بعض مدارس بيروت ويتضمن فقرات عن مذكرات الفتاة الألمانية اليهودية آن فرانك ذات الثلاثة عشر عاما التي كتبتها من مخبئها خلال الاحتلال النازي لهولندا، قبل أن يُلقى القبض عليها وتُقضي مع معظم أفراد عائلتها في معسكرات الاعتقال النازية.
كان يكفي ريبورتاج تلفزيوني لا تتجاوز مدته الثلاث دقائق في نشرة أخبار قناة “المنار” مساء 30 تشرين الاول الماضي، أعده صحافي متحمس وشارك فيه نائب في البرلمان عن حزب الله ومحامٍ لبناني، كان يكفي هذا الريبورتاج، لكي يتم سحب الكتاب من التداول في المدارس التي تدرسه، بناء على قرار مؤسف وغير مبرّر لوزيرة التربية بهية الحريري، ولكي يظن بعض القائمين على قناة “المنار” أنهم سجلوا نقطة إضافية في التجاذبات السياسية التي تسيطر على الساحة اللبنانية، في حين أنهم قدموا على طبق من الذهب خدمة لا تقدر بثمن للدعاية الصهيونية المتطرفة التي تجهد من سنين للربط بين تيارات معاداة السامية في اوروبا وبين حركات المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني في منطقتنا.
كان يكفي ريبورتاج تلفزيوني قصير لصحافي متهور، أعاد موقع قناة “المنار” الإلكتروني تفريغه كتابة على صفحته الرئيسية، وتم انطلاقا منه تحرير خبر لـ”وكالة الصحافة الفرنسية” في بيروت بلغات عدة، ومن ثم جال أنحاء العالم وتلقفته وسائل الإعلام العالمية ونشرته كبرى الصحف الدولية على صدر صفحاتها تحت عنوان “حزب الله” يمارس الرقابة على آن فرانك في لبنان. نعم كان يكفي مثل هذا الريبورتاج لكي تقوم الدنيا ولا تقعد في العالم، على لبنان ومقاومته وإعلامه وحتى مؤسساته التعليمية!
الطريف والمفجع أن موقع قناة “المنار” الإلكتروني في تفريغه الحرفي لمضمون الريبورتاج أغفل خطأ فادحا وقع فيه الصحافي معد التقرير عندما قال متباهيا بكشفه وهو يحمل الكتاب المدرسي بيده ويعرض صفحاته على جمهور المشاهدين، الآتي: “هذا هو الكتاب الذي يدرس في المدارس في بيروت ويتكلم عن ذكريات فتاة إسرائيلية خلال الحرب العالمية الثانية”!!
هذا الصحافي، إما أنه لا يعرف أنه إبّان فترة كتابة آن فرانك ذكرياتها اليومية بين العامين 1942 و 1944، لم يكن هناك بعد في العالم دولة اسمها إسرائيل، وهذه مصيبة! أو أنه يعرف ولكن تسرعه في إعداد التقرير جعله يرتكب مثل هذه الهفوة، وهذه مصيبة أكبر. المهم ان هذا الريبورتاج وامور اخرى من مستواه جعلت هذه القناة التلفزيونية، كبش فداء سهلا، لكل من يريد أن يتصيد في الماء العكر، ويربط بين العداء للسامية وجرائمها في أوروبا والمقاومة في لبنان. وإلا فكيف نبرر احتجاج هذا الصحافي على ظهور نجمة داود في الكتاب، وهي النجمة التي أجبر النازيون اليهود على وضعها على صدورهم كعلامة فارقة ووردت بهذا الشكل على صفحات الكتاب المدرسي؟!
لم يكن ينقص هذا الريبورتاج ليأخذ طابعا شبه رسمي سوى إستضافة النائب عن “حزب الله” حسين الحاج حسن الذي لم يعترف لقصة آن فرانك بحقها في أن توصف بمأساة عندما قال: “لا احد يدرس كتابا في المدارس اللبنانية من دون الاطلاع على المضمون. فبدل ان تدرس هذه المدارس العريقة والمحترمة ما أسمته، بين هلالين، مأساة هذه الفتاة، تخجل هذه المدارس من أن تدرس مأساة الشعب الفلسطيني او مأساة الشعب اللبناني وتاريخ المقاومة وتاريخ مقاومة لبنان ومعاناة اهل الجنوب واهل لبنان من الاحتلال الصهيوني”.
والحقيقة أن النائب حسين الحاج حسن ما كان سيبخل بصفة “المأساة” على قصة آن فرانك، لو كانت أتيحت له الفرصة خلال مراحل تعليمه المدرسي أن يطلع على حقيقة مأساة الفتاة الألمانية اليهودية ويقرأ مذكراتها ويعرف كيف اختبأت مع عائلتها في باحة داخلية من منزل بالعاصمة الهولندية أمستردام لمدة 25 شهرا كتبت فيها يومياتها قبل أن تكتشفهم الشرطة النازية وتفرق الطفلتين آن فرانك وأختها عن أبويهما وتنقل الجميع إلى معسكرات الإعتقال النازية حيث لم ينجُ من العائلة سوى رب الأسرة.
لا بل إن النائب الحاج حسن، ما كان سينزلق إلى هذه المقارنة التفاضلية بين مأساة آن فرانك ومأساتي الشعبين اللبناني والفلسطيني، لو كان يدرك ليس فقط كيف أصبحت يوميات آن فرانك في نظر شريحة واسعة من الرأي العام العالمي، صوت وضمير كل من قضوا في معسكرات الإعتقال النازية. ولكن كيف حاولت الدعاية الصهيونية أن تحتكر هذه اليوميات لمصلحتها وتوظفها في تبرير إنشاء دولة إسرائيل كوطن قومي لليهود من ضحايا الهولوكست؟
الحقيقة أن النائب الحاج حسن لو تمعّن قليلا في التاريخ القريب، لكان تذكر كيف احتجت المنظمات الصهيونية العالمية والهولندية على الزيارة التي قام بها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في العام 1996 لمتحف آن فرانك في العاصمة الهولندية، تعبيرا منه عن الاحترام لمأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية، كما قال، ومنعا لأي إلتباس بين معاداة السامية ومعركة الفلسطينيين العادلة.
نعم لو كان النائب الحاج حسن يتمعن قليلا في حقيقة معسكرات الاعتقال النازية والمكانة التي تحتلها هذه الجريمة الكبرى بحق الإنسانية في الضمير الجمعي الأوروبي، والصراع المرير والصعب الذي تقوم به بعض القوى التقدمية الأوروبية لمنع إسرائيل من احتكار النطق باسم ضحايا الهولوكوست، والتأكيد على أن الفلسطينيين هم في النهاية ضحايا الضحايا، لكان قارن بين مأساة آن فرانك وضحايا الهولوكوست من جهة مآساتي الشعبين الفلسطيني واللبناني من جهة أخرى، بشكل تكاملي لا تفاضلي!
ويا ليته سمع قبل أن يعقد مقارنته المؤسفة، بالضجة التي اندلعت في هولندا العام الماضي عندما قامت دار النشر “بوم رانغ” المتخصصة بنشر بطاقات بريدية توزع مجانا في الجامعات، ودور السينما، والمقاهي، بطباعة بطاقة لآن فرانك، التي تعتبر لدى الكثيرين في أوربا رمز المعاناة اليهودية على أيدي النازيين، وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية الحمراء، رمز النضال الفلسطيني. لقد أثارت هذه البطاقة البريدية ضجة كبرى في هولندا، واعترضه العديد من المنظمات اليهودية بشدة على نشر البطاقة وطلبت عبثا من دار النشر سحبها من التداول.
حتى أن هاري كنيه تال، السفير الإسرائيلي في هولندا، تدخل في الموضوع وأبدى انزعاجه الشديد قائلاً “كانت آن فرانك أيقونة في التاريخ الهولندي وقتلت بسبب كونها يهودية. أساء الفنان استخدام هذه الأيقونة واستعملها في شرح صراع سياسي مختلف تماماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذا أمر مخزٍ، و ليس بإمكاني أن اعبر عن الصورة بكلمات أخرى”.
هذا الجانب المخزي هو ما قامت “الاونيسكو” مشكورة هذا العام بالتأكيد عليه عندما أضافت محفوظات الصور والأفلام الخاصة باللاجئين الفلسطينيين التابعة لوكالة “الأونروا” إلى جانب يوميات آن فرانك باريس إلى سجل “الاونيسكو” لذاكرة العالم. وهذا الجانب المخزي برأي السفير الإسرائيلي، هو ما كان يتوجب على النائب حسين الحاج حسن وقناة “المنار” الإيغال فيه، ليس فقط بالمقارنة التكاملية بين عذابات آن فرانك وعذابات أطفال قانا وجنين وغزة، ولكن بتشجيع أطفالنا من خلال مناهج التعليم أن يحذوا حذو آن فرانك ويسجلوا بصدق وشفافية معاناتهم في دفاترهم اليومية. عندها سيكون من الصعب على ما يسمى جيش الدفاع الإسرائيلي أن يحول إجسادهم أشلاء مدماة تعرضها قنواتنا الفضائية من دون أن يكون لها اسم يُسمى وقصة تُروى وصوت يتكلم وضمير يسأل العالم.
ولكي يزداد الطين بله، لم يكن ينقص هذا السجال الذي أخذ أبعاداً دولية واسعة النطاق، إلا أن يستكمل داخليا. فالنائب الشاب سامي الجميل في برنامج “نهاركم سعيد” على قناة “ال بي سي” لم يترك فرصة ريبورتاج قناة “المنار” تفوته من دون أن يقدم نفسه ليس فقط مدافعا عن حق الرأي وحرية التعليم والحق في تدريس يوميات آن فرانك في المدراس اللبنانية، بل ليطالب تحت مسمى اللامركزية أن تقوم كل منطقة في لبنان بتدريس تاريخها الخاص إلى جانب التاريخ اللبناني العام. منطق المساواة لدى الجميل بين الطوائف في لبنان وفقا لعباراته يجب أن يكون على الشكل الآتي: “أنا برجع لمنطق المساواة اذا كان حزب الله بدو يسيطر على منهج بمدرسة الآي سي يحق لنا نحنا كمان أن نطّلع على مناهج التربوية التي يعلمها هو في مدارسه.”
ولم يكتفِ الجميل الشاب بذلك، بل طالب لحزبه بوزارة التربية، لأن “كتاب التاريخ هو من أوليات الحزب الذي يعتبر أن هذا الموضوع لا بد من أن يخضع لورشة كبيرة يتم على أساسها كتابة التاريخ اللبناني بشكل ينصف الجميع ويحترم تضحياتهم في سبيل لبنان”.
ويضيف الجميل الابن: “نحن نعترف بشهدائه ونطلب منه الاعتراف بشهدائنا أيضاً ولا نطالب سوى بالمساواة في ما بيننا تحت مظلة الدستور اللبناني”. أما إذا لم يحترم الطرف الآخر شهداء حزب الكتائب فإن الجميل يهدد بإعادة النظر في تركيبة البلد كلها ويقول: “قدمنا تضحيات لهذا البلد ونستحق الاحترام من الطرف الآخر أيا كان. فإذا كان الفريق الآخر لا يعترف بنا، عندها لننظر في تركيبة هذا البلد”.
في ظل هذا السجال لا يبقى لنا إلا أن نتخيل كيف سيكتب تاريخ هذا البلد بين من يرى في ورود يوميات آن فرانك في كتاب تاريخ مدرسي، تمهيدا للتطبيع وإبقاء “للساحة التربوية في لبنان مشرعة لغزو الثقافي الصهيوني”، ومن يريد حقيبة وزارة التربية لأجل إعادة كتابة تاريخ لبنان.
ألم يصرح سامي الجميل عند انتخابه للندوة النيابية بالآتي: “سأدخل مع شهدائنا كلهم، مع شهدائنا في تل الزعتر وحرب المئة يوم، لن نتركهم خارج مجلس النواب بل سندخلهم معنا وسنقول الحقيقة ولن نسكت وسأكون ضميركم وهويتكم وتاريخكم داخل مجلس النواب.” وها هو اليوم يحاول أن يفعل ما يقول ليس فقط في مجلس النواب ولكن في وزارة التربية!
نعم إنها إعادة كتابة تاريخ لبنان بين من يريد إقحام معاداة السامية في صلب هذا التاريخ ومن لم يتعلم من الماضي شيئا ولا يزال يفتخر بمجزرة “تل الزعتر” التي هي في نظر القوانين الدولية جريمة ضد الإنسانية، ويعتبرها حسب قوله “صفحة ذهبية” في تاريخ المقاومة اللبنانية.
aliatassi@yahoo.fr
* كاتب سوري
تدريس التاريخ في لبنان بين العداء للسامية والجريمة ضد الإنسانية
Tell Zaatar was a terrorist fortress that played a role in massacring, pillaging, looting and kidnapping of thousands of innocent Lebanese before its combattants ‘were’ wiped out….As to the sicklyso-called ‘resistance’ aka HA and its ugly anti-semitic diatribe against Ann Frank’s diary: well what can we expect from the hijackers of planes and hostage takers and claimants of Divine victories?!?!
Long Live the Victorious Dead of the Real Lebanese Resitance to the PLO and Syria….