إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
نُشِرَ على “الشفاف” لأول مرة في 3 تموز/يوليو 2015
يحلم كثير من العرب بتدخّل عسكري تركي في سوريا، لأسباب مختلفة. إما لأسباب “سورية” بحتة. أو لأسباب “عربية”، أو لأسباب”سُنّية”!
أو لأن البعض لم يهضم حتى الآن انقضاء عهد الإمبراطورية العثمانية أو حتى عهد “الخلافة”! أغرب ما في الموضوع هو أن معظم دعاة “عودة الخلافة” هم من “العرب”! فالأتراك وضعوا إمبراطوريتهم العظيمة خلفهم، وباتوا يتطلّعون إلى المستقبل.. “الأوروبي” لبلادهم! وكما كتب التركي “فالح رفقي” في كتاب “جبل الزيتون”، فإن “البكاء على فقدان المنطقة العربية “عاطفة تاريخية” بدون فائدة”!
هل تتدخّل تركيا فعلاً، وتقيم منطقة عازلة على الحدود؟
المؤكّد هو أن القيادة الحالية للجيش التركي ضد التدخّل. وهي تخشى عواقبه الدولية وحتى المحلية (عودة أعمال العنف الكردية داخل تركيا نفسها)، كما يتذرّع كبار الضباط بأن حكومة أوغلو باتت مؤقتة وأن من الأفضل انتظار تشكيل حكومة جديدة.
في أي حال، سيتوقّف مصير مشروع التدخّل على نحو التحالفات التي ستسفر عنها المفاوضات الدائرة. فإذا ما تحالف حزب إردوغان مع حزب “الحركة القومية” (بحصلي)، فقد تتطور السياسة الخارجية التركية باتجاه التدخّل العسكري. أما إذا اضطر داوود أوغلو للتحالف مع “حزب الشعب الجمهوري” (الأتاتوركي)، فسيضطر إلى التخلي عن فكرة التدخل العسكري في سوريا.
المقال التالي، المأخوذ عن جريدة “حرية” التركية يعبّر عن “الذاكرة التاريخية” للأتراك إزاء المنطقة العربية. وهي لا تشجّعهم على “التورّط” في المنطقة التي يسميها بعضهم “المستنقع”!
بيار عقل
*
في خطاب ألقاه في العام الماضي، انتقد (رئيس الحكومة في حينه) رجب طيب إردوغان أحزاب المعارضة بشدّة لأنها تصف الشرق الأوسط بأنه”مستنقع”.
وقال إردوغان: ”بالنسبة لآبائنا قبل ١٠٠ عام، أيّاً كانت حالة استانبول، فإن ”المدينة” كانت مثلها؟ وأيّاً كانت حالة إزمير، فإن بيروت كانت في مثل حالها؛ وأيّاً كان حال أنقره، فإن حلب كانت في مثل حالها… ولكن الحكومات اللاحقة في تركيا أدارت ظهرها للمنطقة وأطلقت عليها تسمية ”مستنقع”. وتابع لينصح شباب الأمة بدراسة تاريخهم. وبصورة خاصة، فقد أوصى إردوغان بقراءة كتاب ”جبل الزيتون” الذي كتبه الروائي التركي يعقوب قدري كاراوسمانوغلو، وموضوعه الحملة العسكرية العثمانية في الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى.
ولسوء الحظ، فقد أخطأ إردوغان بإسم مؤلّف الكتاب. فالذي كتب ”جبل الزيتون” هو ”فالح رفقي أتاي” الذي عمل في مرحلة لاحقة من حياته صحفياً ثم رجل سياسة.
عدا خطئه بالنسبة للمؤلف، فإن إردوغان كان مخطئاً كذلك في فحوى الكتاب. فشكوك ”فالح رفقي” في دور الإمبراطورية العثمانية في المنطقة تطغى على الكتاب كله. وهو لم يصف الشرق الأوسط بأنه ”مستنقع”، ولكن ذلك هو الإنطباع الذي يخرج به القارئ. وإذا ما اتبع شبان تركيا اليوم نصيحة إردوغان وقرأوا الكتاب، فالنتيجة ستكون عكس ما يتوقّعه الرئيس التركي.
وكان ”فالح رفقي” في سن العشرين حينما اندلعت الحرب العالمية الأولى. وكان قد أمضى سنوات وهو يراسل صحفاً ترتبط بكبار القادة العسكريين، وفي ١٩١٤ تم تكليفه بالعمل مع وزير البحرية العثماني، وقائد الجيش الرابع المتمركز في القدس، جمال باشا. وكان جمال باشا يمثل ثُلث “الثلاثي العسكري” الذي عُرِف بتسمية “الباشوات الثلاثة” الذي حكم الإمبراطورية إبان الحرب العالمية الأولى، وكان مسؤولاً عن الدفاع عن المقاطعات العربية للإمبراطورية العثمانية. وكانت مهمته هي إعادة المنطقة إلى الحظيرة العثمانية، وقد اكتسب شهرة مخيفة بين العرب بسبب تعامله بلا رحمة مع كل أنواع الإنشقاق.
إن ”جبل الزيتون” بمعظمه هو مذكرات ”فالح رفقي” عن عمله مع جمال باشا. وفي حين كان جمال باشا واثقاً بـ”عَثمَنَة” سوريا وفلسطين، فإن ”فالح رفقي” يكتب أنه كان هو شخصياً يعتبر ذلك الطموح عقيماً. وهو يصوّر القدس وضواحيها كبلاد أجنبية، لا يمكن للإمبراطورية العثمانية أن تحوز على ولاء سكانها. ويقول ” فلورنسا ليست تابعة لنا، والقدس مثلها. كنا نتجوّل في شوارعها مثل السوّاح. وفي سوريا وفلسطين والحجاز، فإنك إذا سألت أحداً من الأهالي “هل أنت تركي؟”، كان الجواب “توقّف عن هذا الهراء!”
وفي فصل يحمل العنوان الساخر ”إمبراطوريتنا”، يصف العثمانيين بأنهم ”حرّاس لا يتلقون رواتب” في المنطقة. ويقارن واجبات الإمبراطورية بواجبات الشيخ المسلم العربي المتواضع الذي كان يحتفظ بمفاتيح كنيسة القيامة في القدس: “كانت التجارة، والثقافة، والزراعة، والصناعة، والبناء، وكل شيء في أيدي العرب أو في ايدي دول أخرى“. ويضيف “وحدها الجندرمة (الدرك) كانت تابعة لنا؛ ولكن حتى الجندرمة لم تكن جندرمة حقيقية- فهي كانت مجرد مظهر لجندرمة”. وفي حين يستخف بدور العثمانيين، فإنه نادراً ما يتساءل حول مبرّر وجود الفرنسيين والبريطانيين في المنطقة.
البكاء على فقدان المنطقة العربية “عاطفة تاريخية” بدون فائدة!
ويرفض الوطني ”فالح رفقي” النحيب حول الإنسحاب التركي من المنطقة ويعتبره ”غير ذي فائدة” قائلاً أنه ليس”شعوراً واقعياً، بل إنّه عاطفة تاريخية”. ورغم وطنيته التركية، يعرب ”فالح رفقي” عن احترامه لطموحات الشبّان القوميين العرب. وهو يصف عملية إعدام مجموعة منهم في بيروت، ويخلص إلى ”أنهم بمعظمهم كانا من الشبان الوطنيين. وقد تقدّموا بشجاعة نحو المشانق وهم ينشدون النشيد العربي”.
وقبل انتهاء الحرب، قام ”فالح رفقي” بجولة في أوروبا برفقة جمال باشا، وخطر له أن وضع الإمبراطورية العثمانية وحليفها الألماني بات ميؤوساً. وكان اعتقاده هو أن تركيا قد خسرت الحرب. ويكتب “في بروكسيل، كان بوسعنا أن نقارن ضيق الموقف الألماني بحالة البحبوحة والراحة التي يعيشها الحلفاء. وقبل أن أعود إلى دمشق، كنت قد تعلّمت أشياء كثيرة، وحصّلت تجارب جديدة مع الأسلحة، وشاهدت تطورات عسكرية كثيرة. ولكنني، بالمقابل، كنت قد فقدت آخر قطرة أمل في النصر. وعرفت أننا نغرق.”
بعد الإنهيار النهائي للإمبراطورية العثمانية، أصبح ”فالح رفقي” نائباً في برلمان الجمهورية التركية الجديدة. ويعرفه طلاب المدارس الثانوية في تركيا بفضل الكتب التي وضعها عن مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
واليوم، إذ تطمح أنقرة لاستئناف دور تركيا العسكري في منطقة منهارة، في حين تحذّر المعارضة من الغرق في ”مستنقع” الشرق الأوسط، فإن كتاب ”جبل الزيتون” يستحق القراءة بالفعل!
لقراءة الأصل بالإنكليزية: