جاءت استقالة الحكومة المصرية في 24 شباط/فبراير لتغذي التوقعات بأن المشير عبد الفتاح السيسي سوف يعلن قريباً ترشحه للانتخابات الرئاسية هذا العام. وحالياً، لا يزال السيسي وزيراً للدفاع في الحكومة التي شكلها رئيس الوزراء الجديد إبراهيم محلب، ولكن من المتوقع أن يحل رئيس أركان الجيش الجنرال صدقي صبحي محل السيسي بمجرد استقالة الأخير في مسعاه للفوز بالرئاسة.
ولا شك أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتهديدات الأمنية الخطيرة في مصر سوف تجعل مهمة الرئيس القادم صعبة للغاية. كما أن قدرة القائد الجديد على دعم هيكل القوة المؤسسية الحالي ستكون أمراً حاسماً في بيئة سياسية محلية ودولية صعبة. وفي هذا الصدد، فإن الخلفية المهنية للسيسي – كونه رجلاً قوياً يتمتع بعلاقات وثيقة مع القيادة العسكرية في مصر ومختلف حكومات دول الخليج العربي – تمنحه ميزة على المرشحين المحتملين الآخرين. لكن لا يزال يتعيّن عليه التعبير عن آرائه بوضوح بشأن قضايا الحوكمة والاقتصاد والسياسية الدولية. ولذلك سيتطلب نجاحه تكوين فريق رئاسي من التكنوقراط يكون مستعداً لاتخاذ قرارات جريئة والوفاء بوعوده للشعب المتعطش لحياة أفضل.
الخلفية
في عامي 2011 و 2013، كان لدى الجيش ومؤسسات قوية أخرى محفزات معقولة للتحرك ضد الحكومة. وفي عام 2011، كانت مراكز القوة منقسمة – وكان عدد قليل قد وافق على ترشيح نجل حسني مبارك، جمال، للرئاسة، بينما شعر الكثير بالإحباط من دور الأسرة الحاكمة المتعجرف والآخذ في الازدياد في عملية صنع القرار. وفي عام 2013، عملت قيادة «الإخوان المسلمين» التي افتقرت إلى الكفاءة وكانت غير بَنّاءة، على دفع جهاز الدولة إلى دعم المتظاهرين. وباختصار، فإن التكوينات المؤسسية في كلتا الحالتين لم تكن تفضل من هم في السلطة في ذلك الوقت.
إلا أن الوضع على أرض الواقع يختلف اليوم عما كان عليه سابقاً، كما كشفت عنه مقابلات عديدة أُجريت على مدى الأشهر القليلة الماضية مع مسؤولين من مختلف الأجهزة الأمنية المصرية. فهناك تحالف وتوافق في الآراء واضحان بين مؤسسات الدولة، وخاصة الأجهزة الأمنية التي تصطف وراء السيسي، الذي يتمتع بدعم كبير من العديد من مراكز السلطة.
وفي الوقت نفسه، تُظهر السنوات الثلاث الماضية السرعة التي يمكن أن يتحول فيها الرأي العام، خاصة إذا كان هناك اعتقاد بأن الحكومة غير فعالة في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية في البلاد. وقد اعترف السيسي نفسه بوجود هذه التحديات، وإذا أصبح رئيساً سيحتاج إلى التعامل مع البيروقراطية المعقدة من أجل حل المشاكل الأكثر إلحاحاً.
وتُشكل الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة في مصر الشاغل الأكبر، لكن هناك عاملا آخر يمكن أن يثير سخطاً شعبياً ضد حكومة بقيادة السيسي وهو الغضب من الإجراءات القمعية ضد الخصوم السياسيين، لا سيما ضد المنتقدين غير الاسلاميين الذين لا يستخدمون العنف. وفي الوقت الراهن، يبدو أن معظم المصريين مستعدون لإعطاء الحكومة مساحة واسعة حول هذه المسألة، في رضا منهم بقبول الأضرار الجانبية التي يعاني منها دعاة الديمقراطية والمجتمع المدني في نضالهم ضد جماعة «الإخوان» والمتعاطفين معها. بيد أن هناك عتبة غير واضحة المعالم إذا تم تجاوزها فإنها قد تقلب الموازين ضد الاحترام الشعبي حول هذه المسألة. ونظراً للجهود التي بذلها السيسي حتى الآن لمواءمة عمليات وزارة الداخلية والجيش، فمن المرجح أن يتحمل العبء الأكبر من هذه الانتقادات.
انتقال القيادة من جيل إلى جيل داخل الجيش
في آب/أغسطس 2012، شهدت مصر تحولاً انتقالياً كبيراً في القيادة من جيل إلى جيل بين أعلى الرتب العسكرية في الجيش عند وصول السيسي وصبحي إلى أعلى المناصب القيادية. وقد خلُص العديد من المحللين بشكل سابق لأوانه إلى أن عزل وزير الدفاع حسين طنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان لم يشكل تغييراً كبيراً، حيث قالوا إن السيسي يمثل استمراراً لعهد طنطاوي. لكن على الرغم من تمتع السيسي بعلاقة وثيقة مع سلفه، إلا أن بعض أساليبه لقيادة وزارة الدفاع تختلف إلى حد كبير. وفي الواقع، فإن صعود السيسي شكل حقبة جديدة داخل المؤسسة العسكرية.
ويأتي جزء من هذا التحول نتيجة للطريقة التي استفاد بها كلا الرجلين بشكل مباشر من التعاون العسكري الوثيق بين الولايات المتحدة ومصر. فقد أُتيحت لكل من السيسي وصبحي فرصة للدراسة في كلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي، حيث تعرفا على العقيدة العسكرية وأسلوب القيادة الأمريكيان العصريان وقاما في الوقت نفسه ببناء صداقات قوية مع ضباط في الجيش الأمريكي. بالمقابل، تعرف طنطاوي وعنان بصفة أساسية على العقيدة العسكرية السوفيتية في سنوات شبابهما، كما تجلى ذلك في أساليب القيادة التي اتبعاها.
وبالإضافة إلى ذلك، كان التعليم العسكري والتدريب أثناء عهد طنطاوي يقوم على الحرب التقليدية، مما جعل كبار ضباط الجيش أقل قدرة على التكيف مع التهديدات الحديثة العابرة للحدود الوطنية والتطورات التكنولوجية السريعة. إن صعود الفاعلين من غير الدول والتقدم في جمع المعلومات الاستخبارية، والتحولات الأوسع نظاقاً في ديناميات الأمن العالمي كانت أموراً صعبة لم يستطع الجيل الأقدم من الضباط تحملها بالكامل. واليوم، يتبنى جيل أصغر من الشباب نهجاً أكثر فاعلية في التعامل مع التحديات الأمنية غير التقليدية.
وعلى وجه الخصوص، يدرك كل من السيسي وصبحي أن التهديد الأمني في سيناء يتطلب رداً عسكرياً قوياً. لقد شن الجيش حملة كبرى غير مسبوقة وفعالة على نحو متزايد ضد الخلايا الإرهابية في شبه الجزيرة والأنفاق التي تيسر عمليات التهريب إلى غزة والتي يعتمد عليها القطاع بشكل رئيسي. وقد تم تدمير أكثر من1,000 نفق في الأشهر القليلة الماضية، كما تم فرض منطقة عازلة للحد من أنشطة الجهاديين والمهربين على الحدود. كما أن الجنرال العسكري المسؤول عن الحملة، أحمد وصفي، هو عضو آخر في قيادة عسكرية شابة صاعدة متحمسة للتعامل مع محفظة سيناء الهامة وأكثر توجهاً نحو التركيز على أمن الحدود ومكافحة الإرهاب.
كما قدّم السيسي نفسه باعتباره المحاور الرئيسي فيما يتعلق بالتعاون الأمني بين الولايات المتحدة ومصر. وهذا أمر مختلف عما كان سائداً في عهد طنطاوي، عندما كان جيل أكبر من ضباط الجيش متردداً في تبني نموذج أمن الحدود الأوسع نطاقاً والأكثر مرونة الذي سعت إليه واشنطن في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر. ولقد أدى ترددهم إلى إمالة محور التعاون الأمريكي مع القاهرة باتجاه رئيس المخابرات السابق عمر سليمان، الذي قدّم نفسه باعتباره همزة الوصل الرئيسية في العلاقة.
أسلوب السيسي في القيادة
أظهر السيسي في منصبه كوزير للدفاع أسلوباً في القيادة أكثر انفتاحاً وصراحة من سابقيه. على سبيل المثال، كان من بين أولى قراراته تعيين متحدث رسمي شاب، أحمد علي، كممثل للقوات المسلحة. وفي ذلك الوقت، اهتز الجيش بشدة عقب فترة الثمانية عشر شهراً الصعبة التي قضاها في الحكم عقب الإطاحة بمبارك. وكان تعيين ضابط شاب لكي يمثل الوجه العام للسلطة العسكرية أمراً من الصعب تصوره أثناء عهد طنطاوي، لكن السيسي رأى حاجة إلى تحسين العلاقات مع الشارع. ووفقاً لعدد من كبار الضباط، أصبح السيسي أكثر انخراطاً من سابقيه في الانطلاق في جولات ميدانية وإحاطة نفسه بضباط شباب من أجل رفع الروح المعنوية للمؤسسة العسكرية.
وبالإضافة إلى ذلك، ابتعد عن أسلوب القيادة الهيكلي الصارم الذي عزل طنطاوي بشكل تدريجي عن نظرائه وعزز الاستياء داخل الجيش. ومنذ البداية أظهر السيسي نهجاً أقرب إلى اللعب الجماعي، لا سيما بالنظر إلى صغر سنه وحاجته إلى كسب احترام نظرائه الأكبر سناً. على سبيل المثال، إن نائبه صبحي أصغر سناً منه لكنه يفوقه من الناحية الفنية. كما أجرى السيسي تغييرات جذرية على “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، وقام بتجميع فريق محل ثقة من الضباط الذين تم انتقاؤهم بعناية.
إن نهج السيسي سرعان ما عزز من شعبيته وساعده على الاحتفاظ على التماسك. وقد جرى اختبار ذلك في الفترة التي سبقت الانتفاضة الشعبية في حزيران/يونيو الماضي، عندما حاولت حكومة «الإخوان المسلمين» استبداله بزميله المقرب الجنرال وصفي. وقد فشلت تلك المناورة، حيث أعلن وصفي خلال مقابلة هاتفية له من على قناة “إم بي سي مصر” في 4 تموز/يوليو، أن تماسك الجيش لا يمكن كسره.
كما يبدو السيسي فعالاً في بناء التحالفات بين المؤسسات التي كانت متنافسة سابقاً. فأثناء عهد مبارك، كان يجري استخدام كل من وزارة الداخلية والشرطة لحفظ التوازن مع المؤسسة العسكرية. ونتيجة لذلك، تضخمت الشرطة أضعافاً مضاعفة، وساءت علاقاتها مع الجيش لتصل إلى أدنى مستوياتها في عام 2011.
ومع ذلك، فمنذ تولي السيسي منصب وزير الدفاع تحسنت تلك العلاقة بشكل تدريجي. ففي الأسابيع القليلة الماضية، تبادل ضباط الشرطة والجيش زيارات رفيعة المستوى وقدموا ملاحظات إيجابية عن بعضهم البعض. وفي 21 كانون الثاني/يناير، التقى السيسي ووفد عسكري رفيع المستوى مع كبار ضباط وزارة الداخلية للاحتفال بعيد الشرطة القادم. وأكد السيسي في ذلك الاجتماع على أهمية علاقتهما. “إن الشرطة والجيش هما الضامنان الحقيقيان للأمن والاستقرار في مصر… والتحديات القائمة هي بلا شك هائلة… نحن [الجيش] نقف بجواركم [الشرطة] من أجل حماية دولتنا…ونحن معاً قادرين على الوفاء بواجباتنا على الرغم من وجود العديد من التهديدات”.
كما أظهر السيسي وعياً بالحاجة إلى إظهار دعم سياسي واسع للقرارات الكبرى. على سبيل المثال، أثناء الإعلان من على شاشات التلفزيون في 3 تموز/يوليو عن عزل مرسي، كانت مجموعة كبيرة من الشخصيات العامة والسياسيين واضحة في الخلفية. بل إن السيسي طلب تفويضاً شعبياً في 24 تموز/يوليو لمكافحة الإرهاب بلا هوادة، والتأكد من أن الشعب سوف يقبل حملة القمع الشديدة ضد قيادة «الإخوان».
والأمر الأقل وضوحاً هو مدى حيوية السيسي في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية العميقة في مصر أثناء فترة رئاسته. فهو لم يعمل [على حل] تلك القضايا في الماضي، كما أنه لم يعرب عن رؤية لمعالجتها في المستقبل. وبدلاً من ذلك، فإنه ابتعد عن الحديث عن مواضيع الإصلاح الهيكلي مثل الإعانات، التي تمثل أهمية حيوية للتقدم الاقتصادي لكنها تنطوي كذلك على حساسية كبيرة من الناحية السياسية. وإذا أقدم على معالجة تلك المشاكل بشكل مباشر – أو إذا فعل القليل واستمر الاقتصاد في التعثر – فقد تتراجع شعبيته أيضاً.
الخاتمة
إن السيسي هو جزء من جيل جديد من قادة الجيش المصري الذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة والراغبين في إبداء مزيد من التكيف مع التهديدات الأمنية سريعة التغير عبر أنحاء المنطقة. كما أن علاقته الوثيقة مع العديد من مراكز القوة – لا سيما مع زملائه العسكريين ممن ينتمون إلى نفس جيله – تعزز احتمالات استمراره إذا أصبح رئيساً. وفي ضوء الفرص الجيدة للغاية لفوزه في الانتخابات، سيكون من قصر النظر أن تخاطر واشنطن بما استثمرته على مدى ثلاثة عقود وبَنَت خلاله علاقات وثيقة مع القوات المسلحة المصرية، من خلال إطالة أمد تعليق مساعداتها العسكرية. وعلاوة على ذلك، إن تركيز السيسي الأكبر على مكافحة الإرهاب مقارنة بسابقيه العسكريين يمثل فرصة أفضل لتعزيز المصالح الأمنية الاستراتيجية المشتركة.
عادل العدوي هو زميل الجيل القادم في معهد واشنطن.