تؤكّد الأيّام الأولى لعهد الملك سلمان بن عبد العزيز تحوّلات سريعة على كلّ صعيد في المملكة العربية السعودية. قبل دفن الملك عبدالله بن عبد العزيز، كان هناك تغيير لرئيس الديوان الملكي خالد التويجري وتثبيت لوليّ ولي العهد الأمير مقرن بن العزيز في ولاية العهد. كذلك كان تعيين وليّ لوليّ العهد ّ، هو الأمير محمّد بن نايف الذي بات يتقدّم على كلّ ابناء الجيل الثالث من احفاد الملك عبد العزيز.
كذلك، خلف الأمير محمد بن سلمان والده في وزارة الدفاع وبات رئيس الديوان الملكي أيضا.
الملك في السعودية، هو الملك. مثلما اختار عبدالله بن عبد العزيز رجاله، يختار سلمان بن عبد العزيز رجاله. دشّن سلمان بداية عهده المفصلي، بعد أقلّ من اسبوع على غياب الملك عبدالله، بتغييرات شاملة اعادت تشكيل مجلس الوزراء وكلّ المواقع المهمّة، بما في ذلك عدد لا بأس به من امراء المناطق. بين هؤلاء اميرا الرياض ومكّة وامراء المناطق في المملكة هم بالطبع أهمّ بكثير من الوزراء.
إنّه بالفعل تغيير في العمق شمل بين ما شمل اعادة هيكلة مؤسسات الدولة في اتجاه مزيد من المركزية في الشأنين السياسي والأمني ، كذلك في شأن كلّ ما له علاقة بالتربية والتعليم والإقتصاد…والديوان الملكي.
لكنّ هذا التغيير جاء في ظل الإستمرارية. فالملك سلمان أقرّ بخيار سلفه عندما ثبّت الأمير مقرن وليّا للعهد. لم تمسّ الأوامر الملكية إختيار الملك عبدالله، رحمه الله.
مع الإنتقال إلى الجيل الثالث ممثّلا بمحمّد بن نايف الذي يشغل موقع وزير الداخلية، بقي الأمير متعب بن عبدالله بن عبد العزيز وزيرا للحرس الوطني. هنا أيضا، لم يمسّ الملك سلمان بما تقرّر في عهد سلفه حيث صار الحرس الوطني وزارة بحدّ ذاتها، أي في مستوى وزارة الدفاع التي بقيت طوال سنوات في عهدة الأمير الراحل سلطان بن عبد العزيز. احتفظ متعب بن عبدالله بموقعه ولكن من دون ان يعني ذلك أنّه ستكون لديه طموحات تفضي إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك.
في الواقع، لم تكن لدى الأمير متعب طموحات ذات طابع شخصي فحسب، بل كان تركيزه ايضا على جعل الحرس الوطني في أهمّية وزارة الدفاع وذلك عن طريق تزويده بمدرعات متطورة وطائرات حربية. كان هناك مشروع لبناء هيكل لسلطة جديدة في المملكة. تقوم هذه السلطة على ما تقرّر في عهد الملك عبدالله الذي كان يميل إلى أن يكون نجله الأكبر متعب في وضع يسمح له ببلوغ أعلى المناصب يوما. لكنّ هذه الحسابات تبدّلت جذريا بوفاة عبدالله بن عبد العزيز. مع تبدّل الحسابات، ظهرت مؤشرات التغيير العميق الذي كانت بوادره الأولى في وزارة الدفاع وذلك قبل وفاة الملك عبدالله.
كان مفترضا بوزارة الدفاع أن تكون في يد احد أبناء سلطان، لكنّها انتقلت إلى أحد ابناء سلمان، إلى الأمير محمّد تحديدا وهو في الثلاثينات من عمره.
ما نراه الآن، يدلّ إلى حدّ كبير على أهمّية التغيير الذي أدّى إلى حصر تمثيل ما يسمّى بـ”السديريين” بابناء نايف وسلمان، أقلّه في المواقع المهمّة، علما أن الأمراء السديريين سبعة وهم حسب الترتيب الذي يعتمد على العمر: فهد، سلطان، عبد الرحمن، تركي الثاني، نايف، سلمان، احمد.
لكنّ من بين أهم ما شمله التغيير الكبير، إذا وضعنا جانبا، استبعاد ابناء الملك الراحل باستثناء متعب، فهو ذلك التوجّه إلى التخلص من التعدد في مراكز القرار في وقت تواجه المملكة تحديات كبيرة على الصعيد الأمني. مصدر هذه التهديدات الإرهاب بشكل عام والمشروع التوسّعي الإيراني القائم على الإستثمار في إثارة الغرائز المذهبية.
بات الأمن ومعه التوجهات العامة للسياسة السعودية محصورا بمجلس الشؤون السياسية والأمنية الذي سيكون على رأسه وليّ وليّ العهد الذي هو ايضا وزير الداخلية.
لم يعد مكان لمجلس الأمن القومي الذي كان الأمير بندر بن سلطان أمينه العام. حتّى رئيس الإستخبارات، الذي سيكون عضوا في مجلس الشؤون السياسية والأمنية، لم يعد من الأمراء. فقد خرج من الموقع الأمير خالد بن بندر وحلّ مكانه الفريق خالد الحميدان. وهذا يعني أن لا مراكز قوى في المملكة، كما كانت عليه الحال في الماضي، عندما كانت وزارة الدفاع حصنا خاصا بسلطان بن عبد العزيز، فيما وزارة الداخلية تحت هيمنة نايف بن عبد العزيز… والحرس الوطني كناية عن موقع لا مكان فيه سوى للمحسوبين على عبدالله بن عبد العزيز.
هناك الآن ملك يمثّل مرجعية واحدة في كلّ ما له علاقة بالأمن والسياسة. بكلام أوضح، هناك موقع تتّخذ فيه القرارات الكبيرة في هذين المجالين. كذلك الأمر بالنسبة إلى الشؤون الإقتصادية وتلك المتعلّقة بالتنمية، إذ أنشئ مجلس خاص بها برئاسة محمدّ بن سلمان.
ما شهدته السعودية من تغييرات خلال أقلّ من اسبوع، في ستّة أيّام تحديدا، كان يحتاج في الماضي إلى سنوات طويلة. هناك بداية عملية انتقال إلى الجيل الثالث نُفّذت بسهولة ودقّة. وهناك بداية عملية هيكلة لمؤسسات الدولة في اتجاه الإنتهاء من كلّ ما من شأنه خلق مراكز قوى.
باختصار شديد، هناك عملية تحديث للمملكة يقوم بها سلمان بن عبد العزيز.
قليلون كانوا يدركون أنّ الرجل ما زال قادرا على اتخاذ مثل هذه الخطوات الجريئة التي تصبّ في اختزال الوقت والإبتعاد من كلّ ما من شأنه جعل الأمور تراوح مكانها سنوات طويلة كما كانت عليه الحال في الماضي القريب، خصوصا لدى مرض الملك فهد، رحمه الله، ابتداء من ١٩٩٥ ووفاته في ٢٠٠٥.
كان ملفتا أنّ سلمان بن عبد العزيز ترك بصماته على زيارة الرئيس باراك اوباما الذي جاء للتعزية بالملك عبدالله والتهنئة بتوليه مقاليد الحكم في المملكة. تصرّف الملك الجديد بما يؤكّد لرئيس القوة العظمى الوحيدة في العالم أنّ لدى السعودية اجندة خاصة بها مبنية على الدفاع عن مصالحها. هناك نقاط اتفاق كثيرة مع السياسة الأميركية، لكنّ هناك نقاط خلاف ايضا قابلة للبحث بين طرفين كلّ منهما في حاجة إلى الآخر. لا شكّ أنّ اعادة ترتيب البيت الداخلي السعودي وحصر القرار في مكان واحد قد يساهم إلى حد كبير في جعل المملكة تتفاوض مع الحلفاء والأعداء من موقع أفضل، إن لم يكن من مركز قوّة…
ما كرّس هذه القوّة، في وقت تبدو المملكة متمسّكة بسياستها النفطية، تلك القدرة على ألتغيير في العمق من جهة والمحافظة على الإستمرارية من جهة أخرى.
الأكيد أن كثيرين راهنوا على عجز السعودية عن الجمع بين التغيير في العمق والإستمرارية. يبدو أن رهانات اولئك الذين اعتقدوا أنّ لا مكان للتغيير في المملكة لم تكن في محلّها…أقلّه إلى الآن.