الاقتناع السائد لدى كُثر من المراقبين أن <حزب الله> ليس جاهزاً حتى الآن للدخول في كنف الدولة، بمعنى أن الحزب بفعل موازين القوى الإقليمية، التي أمّنت له فائض قوة السلاح انسحب على السياسة، لا يجد نفسه حتى الآن في خطر مُحدق يستوجب الجلوس إلى الطاولة مع الآخرين· كما أن الأقلية الجديدة الممثّلة بقوى الرابع عشر ترى أن المشهد العربي عموماً الذي يُجسّده <الربيع العربي> بمعزل عن التفاصيل الصغيرة هي في النهاية لصالحه، انطلاقاً من الرؤية المشتركة بين ما حملته هذه القوى من شعارات في <انتفاضة الاستقلال> وما تحمله الشعوب من شعارات مماثلة، تشكّل الحرية والديموقراطية والكرامة قاسمها المشترك، الأمر الذي يدفعها إلى عدم الاستعجال· من هنا يرى هؤلاء أن الدعوة التي أطلقها رئيس الجمهورية ميشال سليمان للحوار قد تكون جاءت في الوقت الضائع، ولن تؤتي ثماراً مجدية، نظراً إلى أن كلا الفريقين ليسا جاهزين لالتقاط الفرصة·
وما يُعزز هذا الاعتقاد أن الانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد بات واضح المعالم ومكشوفاً إلى درجة أن المسكّنات التي كانت عنوان مرحلة ما بعد 2005 لم تعد ناجعة· فيوم أطلق رئيس مجلس النواب طاولة الحوار في آذار 2006 واستجابت له الأطراف السياسية، كان كل منها يُدرك أن الهدف الرئيسي للحوار هو <تقطيع الوقت>، ذلك أن قرار الحل والربط في البند الأساسي المتمثل بسلاح <حزب الله> ليس قراراً داخلياً لارتباطه بوظائف إقليمية تتعدى البُعد اللبناني· إلا ان رغبة الأطراف في تقطيع الوقت بانتظار جلاء ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية وموازين القوى المرتبطة بها، ساهم في جلوس هذه الأطراف معاً إلى الطاولة، رغم اقتناعهم بأن الحوار لن يُسفر عن نتائج ملموسة· وإذا أنتج اتفاقات ما، فإنها ستبقى حبراً على ورق· وهذا ما حصل في ما خص السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وما خص المحكمة الدولية التي لم يأخذ التوافق حولها سوى دقائق معدودة، لكنه توافق أظهرت المعطيات اللاحقة أنه كان شكلياً بامتياز، وأن فريق الثامن من آذار لم يكن في حقيقة موقفه مؤيداً لها·
هذا الواقع تكرر لاحقاً بعد انقلاب <حزب الله> وحلفائه الإقليميين في أيار 2008 وما أنتج من تسوية في الدوحة أعادت طرح موضوع الحوار على بند سلاح <حزب الله> تحت تسمية الاستراتيجية الدفاعية· ولم تشاركه الأطراف في هذا الحوار إلا من منطلق تقطيع الوقت أيضاً بانتظار جلاء المشهد الإقليمي وموازين القوى التي يمكن أن تنشأ عنه· ولذا كان مصيره المراوحة ومن ثم الفشل·
اليوم تبدو المعطيات أعقد مما كانت عليه· فمعادلة <التوازن السياسي السلبي> التي حكمت البلاد منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وما نتج عنها من خروج للجيش السوري من لبنان وانقسام البلاد عامودياً، والتي شكّلتها الحكومات الائتلافية بين الأكثرية والمعارضة، لم تُنتج حواراً جدياً، الأمر الذي يطرح شكوكاً كبيرة في أن تفضي الدعوة المطروحة اليوم للحوار إلى أي نتائج، في ظل معادلة <عدم التوازن السياسي> التي تحكم البلاد مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وهيمنة <حزب الله> وحلفائه الإقليميين عليها·
فهذه الدعوة كان يمكن أن تُشكّل فارقاً وتلقى صدى إيجابياً لو أن رئيس الجمهورية ميشال سليمان بقي رئيساً توافقياً كما تعهّد في خطاب القسم، ولم يوفّر غطاءً سياسياً للحكومة الميقاتية· وهي كان يمكن أن تشكّل صدى إيجابياً أيضاً لو أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي استجاب لـ?<نصيحة> قوى الرابع عشر من آذار، رغم معارضتها لطريقة وصوله إلى سدة الرئاسة الثالثة، بالإقدام على تشكيل حكومة مستقلين محايدة تُدير شؤون الناس، ما يبقي التوازن السياسي قائماً في البلاد بما يسهّل إمكان الجلوس عندها إلى طاولة الحوار لمناقشة الموضوع الخلافي الذي منه تنطلق الحلول الفعلية· لكن هذه الفرصة ذهبت أدراج الرياح بفعل قرار الرئيسين سليمان وميقاتي اللذين قبلا، على حد تعبير مستشار الرئيس الحريري الوزير السابق محمد شطح، أمام <منبر 14 آذار>، بأن يكونا إطاراً لحكومة <حزب الله> كي تصبح مقبولة· ذلك أن في الحكومة شريك أساسي هو <حزب الله> وهناك شركاء <جونيور> هما من سمّوا أنفسهم <وسطيون>·
إزاء ذلك، تُشكل الشروط التي أعلنتها قوى الرابع عشر من آذار حول أحادية بند السلاح على طاولة الحوار ووضع برنامج زمني لتنفيذ ما سبق أن اتفِق عليه، وما يمكن أن يتم الاتفاق عليه مستقبلاً، ووجوب مشاركة عربية من منطلق أن للعرب مسؤولية سواء في الجانب المرتبط بالسلاح الفلسطيني أو حتى في تنفيذ القرارات الدولية، رسالة واضحة موجّهة للفريق الحاكم بأنها لن تدخل في الحوار من باب لعبة تقطيع الوقت، كما كان يجري في السابق· ولن تجلس تالياً إلى طاولة الحوار إلا إذا كانت القناعة متوفرة لدى الفريق الحاكم بأن الأوان قد حان للعودة مجدداً إلى كنف الدولة والخروج من الدويلة، ما يعني بأنه بات قادراً على قراءة التحوّلات الإقليمية الجارية في المنطقة وتغليب المصلحة اللبنانية·
في ذلك اللقاء مع شطح، سأل أحد الحاضرين من الصحافيين الباحثين الشيعة سؤالاً عما إذا كان يعتقد أن <حزب الله> يمكن أن يقايض سلاحه بالنظام؟ جاءه الجواب : <لا أعتقد>؟ فرد الباحث: أنتم إذاً لا تعرفون كيف تفكر <الشيعية السياسية>؟ إنهم منذ <الربيع العربي> في <حالة صدمة> بعدما كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم في <حالة صحوة>، ومتميّزون في إسلامهم السياسي عن ذلك الذي قدّم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن عنه نموذجاً للغرب في الحادي عشر من أيلول· واليوم يدور في مجالسهم كلام عن مغزى تسليم السلاح فيما هم لديهم كل تلك القوة ولديهم بنيان دويلة، ويراقبون ما يجري في العالم العربي وعلى اقتناع بأن لا مشاريع مقدّمة في تجاههم، وليست حال البحرين سوى مثال على ذلك رغم الالتباسات التي تشوبها· تلك المقاربة أربكت الضيف الذي بدت علامات الدهشة على وجهه، وهو في اللحظات الأخيرة من النقاش الذي كان لا بدّ أن يبدأ عندها، إذ أن أنها مقاربة تطرح تساؤلاً عما إذا كان اللبنانيون يُدركون اليوم فعلياً هواجس بعضهم البعض· والأهم أنها تحمل في طياتها خوف <الشيعية السياسية> وإن كانت لا تزال تُغالي في المكابرة!
rmowaffak@yahoo.com
* كاتبة لبنانية