خير للذين يتداولون اليوم نظرية نجاح النظام السوري في “كسر طوق الحصار”، كما يحلو لهم القول، أن يتذكروا حقيقة بسيطة تبدو اليوم وكأنها كانت مخفية عن سابق عمد، لأنها في الواقع لم تكن خافية البتة: أنّ ذلك الحصار بدأ أكذوبة في المستوى العملي، وهكذا تواصل ويستمرّ الآن أيضاً، بصرف النظر عن اشتداد أو تراخي إيقاعاته اللفظية الصرفة. ولسنا هنا نقصد المروّجين للنظرية من أهل التشدّق والجعجعة والضجيج البلاغي الرديء الذي لا تليق به حتى صفة الدعاوة الديماغوجة الرخيصة، بل أولئك الذين يضعون أنفسهم في صفّ ثقاة العارفين بأوضاع النظام السوري خاصة، وأوضاع المنطقة وتفاصيل مشهدها الجيو ـ سياسي الإقليمي عامة.
وفي ربيع العام 2005، في ذروة ما يُصنّف تحت توصيف “الضغط” الأمريكي على النظام السوري، علّق آدم آيرلي، نائب الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية، على لقاء موظفين كبار في الإدارة (إليزابيث شيني وجون هانا) مع «نشطاء مجتمع مدني وأكاديميين» أمريكيين من أصل سوري، فنفى أنّ يكون هدف اللقاء هو دراسة خطط بديلة عن نظام بشار الأسد، مؤكداً على نحو بليغ واضح أنّ: «النقاش دار حول كيفية مساندة رغبة الشعب السوري في الإصلاح، وفي حرّيات أكبر، وفرصة أفضل… من داخل النظام القائم هناك حالياً».
من داخله، إذاً، وليس على أنقاضه أو بعد قلبه أو تغييره أو الإطاحة برجالاته. في الطور ذاته، كانت تقارير صحفية جادة تتحدث عن مناشدات حارّة توجّه بها بعض القادة الأوروبيين (فرنسا وبريطانيا وألمانيا، خاصة) إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش لتخفيف الضغط عن نظام بشار الأسد، كي لا ينهار فجأة أو يتشقق أو يتداعى. وبعض التصريحات الأمريكية أكدت لهؤلاء الحلفاء أنّ واشنطن على وعي تامّ بهذه الحال، حتى أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية انخرطت في ما يشبه نوبة التفكير بصوت عالٍ، في أعمدة صحيفة «واشنطن بوست»، فقالت: «ما نحاول القيام به هو تقييم الموقف حتى لا يُباغت أحد، لأنّ الأحداث تتسارع بشدّة وفي اتجاهات غير متوقعة، بحيث يقتضي الحذر معرفة ما يجري في هذه الآونة».
هذا، بالطبع، إذا ضرب المرء صفحاً عن حقائق الدعم المكين الذي كانت المملكة العربية السعودية، والملك عبد الله بن عبد العزيز شخصياً، تخصّ به النظام السوري على صعيد إقليمي ودولي، وبصدد مسائل بالغة الحساسية والخطورة (مثل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، واستشراس المحقق الدولي الأسبق ديتليف ميليس، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بتقليص النفوذ السوري في لبنان…). وكذلك الموقف الإسرائيلي، كما تجلى في أوضح صياغاته عند أرييل شارون، الذي ناشد إدارة بوش أن لا تذهب بعيداً في التضييق على بشار الأسد، بل وطُولبت مؤسسات اللوبي اليهودية الامريكية أن تلعب دوراً مباشراً في تحقيق هذا الغرض.
والمتابع لتاريخ ثلاثة عقود ونيف من عمر العلاقة بين البيت الأبيض والنظام الحاكم في دمشق، منذ «الحركة التصحيحية» التي قادها حافظ الأسد أواخر العام 1970، لن يجد صعوبة في إدراك أنّ التعاون والتفاهم والشراكة، وليس العداء والتناقض والقطيعة، هي الطبائع الأدقّ في وصف تلك العلاقة (في لبنان أوّلاً، ومنذ دخول القوات العسكرية السورية بإذن أمريكي؛ ثمّ في «عاصفة الصحراء»، حين انخرطت وحدات من الجيش السوري في تحالف “حفر الباطن”؛ في لبنان ثانياً، عند تصفية سلطة الجنرال ميشيل عون وسقوط بيروت الشرقية؛ وفي العراق بعدئذ، رغم مدّ هنا وجزر هناك). والعلامات التي تركتها مشاركة وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت في التعزية بوفاة الأسد الأب، كانت تشير إلى عزم واشنطن مواصلة التعاقد ذاته مع الوريث، الأمر الذي تبدّلت بعض عناصره مع مجيء بوش على البيت الأبيض، دون المسّ بشروطه الجوهرية التي ما تزال قائمة حتى اليوم.
فهل من عاقل يحكي لمعتوه أنّ استئناف المباحثات السورية ـ الإسرائيلية في تركيا، حتى في طورها الراهن غير المباشر، هو نقيض ما ترغب إدارة بوش في تحقيقه؟ أو هو تطوّر لا يخدم مفهوم الخارجية الامريكية، كما عبّرت عنه تصريحات رايس وآيرلي وبرنز والآخرين، حول تحسين سلوك النظام… من داخل النظام ذاته؟ أو، في استئناف المنطق ذاته، كيف يمكن لحليف أمريكي مطلق مثل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أن ينفتح على النظام السوري بما يناقض مصالح واشنطن؟ أو أن لا يكون إخراج الأسد من القوقعة بمثابة أداء بالإنابة للعمل ذاته الذي تقرّه واشنطن، لأنه ببساطة يخدم النظرية دون سواها، حول التغيير من الداخل؟ والشخصية الجديدة التي ذهب بها الأسد إلى طهران مؤخراً، أي حامل رسائل الغرب الشفهية إلى إيران وليس الحليف شريك خندق الممانعة الواحد، ألا ترضي بوش وساركوزي أكثر من إرضائها أحمدي نجاد وحسن نصر الله؟
بعض جوهر المشكلة، أو لعلّه روحها وأمّ عقابيلها، ليس في أنّ الغرب راغب في الإنفتاح على النظام تماماً كرغبة النظام في الإنفتاح على العرب، بل في إمكانية أن يُترجَم أيّ مقدار من الإنفتاح إلى مقدار مماثل من قدرة النظام على التبدّل. ويستوي في هذا التماس المقادير على صعيد الداخل السوري، سياسياً وأمنياً واقتصادياً؛ أو في السياسات الخارجية التي كانت، وتظلّ، تصنع وضع للنظام عالقاً في، أو معلقاً عند، حلقة شبه مفرغة من الممانعة في قلب المسالمة، حيث يقتات النظام على مزيج من نقائض السياسات والمحاور دون حراك عملياً، ومن موقع المستقبِل الطفيلي الذي لا يرسل إلا قليلاً، بل لا يملك غالباً سلطة التدخّل في الإرسال أو الإستقبال!
وللمرء أن يبدأ من المثال الخارجي، حيث يواصل الأسد الاعتماد على تركيا في إدارة مفاوضات نظامه غير المباشرة مع إسرائيل، لكنه لا يكفّ عن إبداء الرغبة في رعاية أمريكية لهذه المفاوضات، ويوقّع مع أحمدي نجاد بياناً سياسياً يستمطر اللعنات على الولايات المتحدة، كما يكلّف سفيره في واشنطن أن يخترق المزيد من المحرّمات… التي قد تلوح لفظية تجريدية من حيث المبدأ، ولكنها تخرج عن الثوابت العقائدية البعثية في نهاية المطاف! ولا بدّ أنّ إيران لم تجد أيّ عناء في الردّ على المقترحات الغربية، بصدد آخر جولات الشدّ والجذب حول ملفّها النووي، دون أن تأخذ بعين الإعتبار أي عنصر جديد قد يكون حمله إليها الأسد، الوسيط الجديد ـ الحليف، حتى لقد لاح أنه زار طهران لأسباب تخصّ اكتساب المزيد من بلاغة الممانعة، وليس روح الإنفتاح!
وأما في المثال الداخلي، فقد عاد الأسد من منصة الإحتفال بعيد الثورة الفرنسية وكأنه كان على منصة تخريج دفعة جديدة من طلاب الكلية الحربية في مدينة حمص، وإلا كيف يفسّر المرء إنّ آخر تقنيات الإستبداد السوري (إرغام الناشط الحقوقي الشاب حسن يونس قاسم على توقيع بيان انسحاب من “إعلان دمشق”، تحت العدسات، ثمّ نشر الصور في مواقع إلكترونية تابعة لأجهزة السلطة ومافيات النهب والفاسد) جرى اعتمادها بعد عودة الأسد من باريس؟ ولكن… مضيفه نيكولا ساركوزي، وقبله مضيفه الأوّل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، فضلاً عن محاوريه الآخرين من القادة الأوروبيين، ليسوا كبار الأساتذة في تلقين أنظمة الإستبداد تعاليم حقوق الإنسان، خاصة التابعة منها أو الموشكة على الإنضمام إلى النادي، فلماذا يتوجب على الأسد أن يعود من باريس على غير ما كان عليه عندما وصلها؟
وإذا كانت بنية هذا النظام عصيّة على الإصلاح، كما يدرك اليوم الكثيرون ممّن كانوا قبلئذ في رهط المتفائلين بتوريث بشار الأسد، فإنّ النظام ذاته يبدو عصيّاً على الإنفتاح، أو عاجزاً موضوعياً عن ذلك الطراز من الإنفتاح الذي يستوجب تقويض الركائز السابقة التي كانت تصنع الإنغلاق، أياً كان مدلول هذه المفردة الأخيرة. وأعود إلى التشديد على يقين سبق لي أن اعربت عنه مراراً، مفاده أنّ بشار الأسد بدأ ويظلّ اليوم أيضاً ابن النظام الذي شيّده أبوه منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1970، وربما منذ تولّى حافظ الأسد منصب وزير الدفاع سنة 1966. الابن، استطراداً، ليس وريث أجهزة الإستبداد والقمع والفساد والنهب المنظّم فحسب، بل هو بالقدر ذاته وارث سلسلة من السياسات التي ليس في مقدوره تعديلها دون إدخال تعديلات مماثلة، أو نظيرة، في السياسات الداخلية؛ وهذه، وهنا قسط كبير من المعضلة، لن تمرّ بسلاسة في جسم النظام الأمني ـ العسكري، المتصلّب المتقرّن المتحجّر.
وعلى سبيل المثال، صبيحة اغتيال رفيق الحريري (لكي يبدأ المرء من تطوّر نوعي فاصل في سنوان حكم الأسد الابن) كانت “القيادة السورية” والمزدوجات هنا تشير إلى غموض التعبير وطابعه الإصطلاحي غير المتجسد في الواقع العملي، تتألف من «حلقة الستة»، أي الدائرة الأعلى والأضيق التي كانت تسيّر شؤون السلطة، وتضمّ إلى جانب الرئيس السوري كلاً من شقيقه والقائد الفعلي للحرس الجمهوري ماهر الأسد، واللواء غازي كنعان وزير الداخلية آنذاك، واللواء آصف شوكت رئيس الإستخبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان الرجل الأقوى في جهاز أمن الدولة، وعبد الحليم خدّام النائب الأوّل للرئيس والمدنيّ الوحيد في الرهط. مَن الذي تبقى منهم اليوم، بعد حذف كنعان وسليمان وخدام، واعتكاف شوكت؟ وهل يمكن لنظام أن يكون عائلياً إلى هذه الدرجة الضيّقة، فيقتصر على رئيس وشقيقه، وأن يضيق حتى على صهر العائلة نفسه؟ وبهذا المعنى، كم من أمثال العميد محمد سليمان، الذي اغتيل قبل أيام ببندقية قنّاص على شواطىء طرطوس، يستطيع الشقيقان بشار وماهر أن يتدبرا لكي تدور آلة السلطة في أقصيَيْن: الحفاظ على الإستبداد، وتأمين النهب الكفيل بالإنفاق على شبكات الولاء وأجهزة القمع، من جهة؛ والإنفتاح على الخارج، بما فيه المفاوضات مع الدولة العبرية، بما يؤمّن رئة الحدّ الأدنى كي لا يختنق النظام، من جهة ثانية؟
وإذا صحّ التأويل الذي يرى أنّ اغتيال العميد سليمان هو صفحة أولى من صراع مرير شرس اندلع داخل بيت السلطة ذاتها (إذْ كيف له أن يكون خارجها أصلاً!)، وبعض مواصفاته الجديدة أنه لا يعتمد التصفية السياسية والوظيفية وحدها، بل تلك الجسدية أيضاً؛ فإلى أيّ مآل دامٍ سوف ينتهي هذا الصراع، في ظروف النظام السياسية والإقتصادية والإقليمية الراهنة تحديداً؟ وأيّ انفتاح يمكن لأمثال ساركوزي، أو المنسّق الأوروبي خافيير سولانا، أو حتى رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان، أن ينتظروه من نظام بشار الأسد؟
وإذا صحّ القول إنّ في وسع النظام أن يعثر دائماً على بديل للعميد سليمان، وأن يستبدل الغائبين عن “حلقة الستة” بأعضاء جدد أعلى كعباً في الولاء والبطش والإستبداد والنهب، فإنّ السؤال يظلّ مع ذلك قائماً وعالقاً: لماذا يتوجب على البدلاء أن يفلحوا في ما عجز عن إنجازه الأصلاء؟ وحتام تملك أيّة حلقة، عتيقة أو جديدة، مهارات الرقص على حبال تفصل، ولكنها كذلك تصل، بين واشنطن وطهران وتل أبيب وبغداد وبيروت والرياض؟ وهل، في القاعدة العامة، يظلّ أوّل الرقص… مثل آخره؟
s.hadidi@libertysurf.fr
• كاتب سوري- باريس