مصطفى حيران
قضت إحدى محاكم المملكة المغربية بالتشطيب نهائيا، على أسماء ثلاثة محامين من قائمة هيئة محامي تطوان (المدينة الواقعة شمال المغرب حيث يُزاولون مهنتهم ويعيشون). وكل “جريمتهم” أنهم دبجوا ونشروا وثيقة أطلقوا عليها اسم “رسالة إلى التاريخ”، قالوا فيها ما يتداوله الخاص والعام في الشمال المغربي، تحديدا، وفي كل باقي أنحاء البلاد، تعميما، فماذا قال المحامون الثلاثة مما “استحقوا” عليه قطع أرزاقهم على ذلك النحو القاسي؟
تعود وقائع هذا الملف القضائي، الغريب العجيب، إلى آخر أسبوع من شهر يوليو الماضي، حينما نشرت جريدة “الصحيفة” على عهد صدورها الأسبوعي، ملفا يخص القضاء بالشمال المغربي، جعلت عموده الفقري رسالة لثلاثة محامين من مدينة تطوان هم “عبد اللطيف قنجاع” و”الحبيب حجي” و”خالد بورحايل” اختاروا لها هذا العنوان الضاج دلالة: “رسالة إلى التاريخ”؛ قالوا فيها أن العدالة بالمنطقة التي يُزاولون بها مهنة المحاماة وخبروا شؤون التقاضي بها، تعرف فسادا كبيرا من علاماته ارتشاء عدد كبير من القضاة.. لم يُطوحوا بهذه الاتهامات الخطيرة جزافا – فهم رجال قانون يعرفون ما يفعلون – بل منحوا الأدلة المُفحمة بأسماء القضاة المُرتشين والملفات التي نالوا عنها رشاوي.. ملفات غارقة في الالتباس والتحايل، الأخطر من كل هذه الأدلة، هو أن المحامين الثلاثة أدلوا بالمبالغ التي سُلمت للقضاة المرتشين، ومن سلمها لهم.
والرسالة الواضحة من هذه المعطيات المُدينة كانت هي: على جهاز العدالة أن يتحرك، كأن تأمر النيابة العامة – الأداة التنفيذية لوزارة العدل المغربية – أو أن يستيقظ البرلمان من نومه الغطيطي، ويحث الحكومة على رفع دعوى الارتشاء على القضاة المتهمين، وإقامة محاكمة عادلة لهم ينالون في ختامها الأحكام التي يستحقون.
لا شيء من ذلك حدث. لقد تحركت النيابة العامة فعلا، لكن ليس في الاتجاه المُومأ له، بل في وجهة غير متوقعة بتاتا، ألا وهي رفع النيابة العامة، التي يرأسها تراتبيا وزير العدل (ومن فوقه الملك، الذي يرأس المجلس الأعلى للقضاء، وتصدر الأحكام القضائية بدءا من عملية نشل رغيف خبز وصولا إلى القضايا السياسية والإرهابية، باسمه، حيث يلوك القضاة في آلية مُنفرة هذه العبارة: “باسم صاحب الجلالة حكمت المحكمة بكذا وكذا…”) دعوى سب وقذف ضد القضاة الثلاثة. هكذا تمت العملية بلا أدنى حرج معنوي ناهيك عن المُعوقات القانونية الصرف، التي تقف في وجه مثل هذا التقاضي، ومنها كما يُفيد ذلك رجال قانون ثقاة، مُنتظمون في جمعية “عدالة” التي أصدرت بيانا استنكاريا للحكم الجائر في حق المحامين الثلاثة.. منها – أي المُعوقات القانونية – :
• أن النيابة العامة لم تحدد العبارات المعتبرة قذفا، ومخالفة صريحة للنصوص القانونية، وقواعد المهنة وأعرافها، وإخلالا بالمروءة والشرف. هذا بالإضافة إلى أن مراسلتها، أو شكايتها الموجهة إلى هيئة المحامين بتطوان، لم تحدد النصوص القانونية وقواعد المهنة والشرف التي وقع الإخلال بهما.
• لا يجوز الأمر بإجراء البحث وتقرير المتابعات، أو المطالبة بها في مخالفات القذف والسب وكافة أنواع الإهانات، إلا بناء على طلب من يعتبرون أنفسهم ضحايا هذه المخالفات. ومن الثابت أن مؤسسة القضاء، سواء كانت على مستوى محكمة الاستئناف بتطوان أو غيرها من المحاكم لم تتقدم بأي شكاية ضد موقعي “رسالة إلى التاريخ”.
وتُلاحظ الجمعية المُتخصصة المذكورة أن “محتوى الرسالة الصادرة عن المحامين الموقعين عليها، لا تتضمن قذفا أو سبا أو إهانة، بل نقد لظاهرة الرشوة، يسمح به القانون لأنه يفضح الفساد ويدخل في مجال حرية الرأي والتعبير التي تعد أساسية لكل إصلاح سلمي”.
المُلاحظات المسطرية إياها ليست صادرة عن حزب سياسي كل همه هو التعبئة الاديولوجية، إن لم تقل الغوغائية، أو جمعية حقوقية همها الدفاع عن حقوق الإنسان ظالما كان أو مظلوما، ما دام يُواجه الدولة بكامل عدتها وعتادها، بل هي – أي المُلاحظات – من إنتاج جمعية “عدالة” المتخصصة، التي يرأسها المُحامي عبد العزيز النويضي، الخبير القضائي المعروف، محليا وعربيا ودوليا، والمستشار السابق للوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي في مجال حقوق الإنسان.
فكيف تسنى للنيابة العامة أن ترتكب مثل هذه الخروقات القانونية، وتقفز على كل الاعتبارات المُحرجة ، فتقرر، ليس فقط مُتابعة المُحامين الثلاثة الشجعان، بل وتدفع المحكمة إلى إدانتهم وإصدار ذلك الحكم الجائر في حقهم، والقاضي بالإعدام المهني؟
الواقع أنه لتلمس الإجابة على هكذا سُؤال، تجدر الإطلالة على بعض الأركان المُعتمة للقضاء المغربي، وما أكثرها.
سبق لمجلة “تيل كيل” الناطقة بلغة موليير، أن نشرت ملفا مهما عن القضاء المغربي، في عددها رقم 198* ..ملفاً تضمن مُعطيات عن جهاز “العدالة” تجعلك، إذا كنت من مُواطني هذا البلد، أو بالأحرى من رعايا الملكية المغربية، تشعر ببرودة الرعب في ظهرك..مما جاء فيه هذا التوصيف البليغ المقتضب: “النظام القضائي المغربي هو مصنع لعدم العدالة، مُقفل عليه من طرف أوليغارشيا مدربة على تبليغ الأوامر، يُمكن أن يقع القضاة أنفسهم، كضحايا له، وحدهم بعض المحظوظين وأصحاب القرار من السياسيين القلائل، يستفيدون من النظام إياه”.
ونقرأ في مكان آخر هذه الوقائع المرجعية عن القضاء المغربي: “حينما تم استدعاء السيد محمد منير الماجيدي – الكاتب الخاص للملك والمُكلف بإدارة ثروات الأسرة الملكية – إلى المحكمة باعتباره شاهدا، في قضية مُحافظ القصر الملكي السابق بمدينة أكَادير مصطفى الهيلالي، المُتهم باختلاس أموال من القصر المذكور، أصاخ الكثيرون السمع :السكرتير الخاص للملك سيقف أمام هيئة محكمة كأي الناس؟ الأكثر من ذلك أن الاستدعاء إياه وقعه قاض محلي عاد؟ هل الأمر جد هذه المرة؟ هل سيتغير القضاء المغربي حقا؟ الجواب أتى سريعا:لا.. لم يتغير شيء، لم يتوقف الأمر عند عدم حضور السيد الماجيدي إلى المحكمة، بل إن كل أولئك الذين اقترفوا “جناية” استدعائه تم الاستغناء عن خدماتهم، وجرت المُحاكمة في ظروف بائسة، بدون نقاش حقيقي، وتم إخفاء الشكاية الأصلية التي كان قد وضعها السيد الماجيدي ضد محافظ قصر أكَادير…”.
يُتابع ملف مجلة “تيل كيل” رسم المعالم الخفية – العيانية للقضاء المغربي بالقول: “فيما يتعلق بالعدل، فإن القصر لا يكون أبدا بعيدا – كما يُلاحظ أحد القضاة المُتقاعدين – مُضيفا: ليس ثمة أي (ملف كبير) أخذ طريقه دون أن يتدخل مرسلو الملك (ليضمنوا تطبيق العدالة كما تُتَصور لدى الدوائر العليا)…”
الواقع أن القصر كان دائما يزرع رجاله في الدواليب العليا لجهاز العدالة، ليكون الوزير “الوصي” على القطاع مجرد كاتب تسجيل. ليس في الأمر أية مُبالغة، ولنتأمل هذه الوقائع الدالة التي جاءت في نفس الملف لذات المجلة: أسر لنا وزير سابق على عهد حُكم الحسن الثاني: “حين تم تعييني فُرض علي مدير ديوان لم أكن أرغب فيه، كما أنني كنت أشك في أمر إثنين من المرؤوسين، باعتبارهم يتعاونون مُباشرة مع جهاز المُخابرات، هذا دون أن أنسى مستشاري الملك الذين كانوا يُنادونني باستمرار في الهاتف، من أجل خدمات صغيرة لفائدة صديق أو لأحد المعارف البعيدين، أو لطلب تدخل باسم احد الأمراء لفائدة صديق شخصي للملك”.
ولم يُعدم وجود وزراء حاولو فعل شيء إيجابي، حسب ملف مجلة “تيل كيل”. لنقرأ هذه التفاصيل في هذا الصدد: “وزراء العدل القلائل الجادون الذين حاولوا تهميش الأطر الإدارية المُكلفة بالسهر على تنفيذ أوامر وطلبات القصر، خسروا معاركهم. هذا ما حدث للوزير السابق أحمد علمي مشيشي، خلال منتصف سنوات تسعينيات القرن الماضي، حينما اعتقد أن بإمكانه التخلص من مرؤوسه الكبير “عمر دومو” الذي كان يشغل منصبا محوريا، يتمثل في مدير القضايا الجنائية والعفو، حيث اكتشف أن الرجل مُرتش كبير، فكان أن تلقى مُكالمة من المُستشار الملكي أحمد رضا كَديرة بنفسه ليُبلغه هذه الرسالة الشفوية الوعيدية: دع عمر وشأنه إنه منا وإلينا..وأخيرا، بعد مرور زهاء عشر سنوات تمكن وزير العدل السابق في حكومة عبد الرحمان اليُوسفي، من التخلص من رجل القصر المرتشي، وذلك حينما أتبث عليه تُهمة الاتجار في طلبات العفو الملكي. غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث تم تعويضه بخادم مُطيع للمخزن في قطاع القضاء هو الطيب الشرقاوي، الذي كان مُتوفرا أيضا على “امتياز” المُصاهرة مع العائلة الملكية.. الشرقاوي هذا ما زال لحد الآن في منصبه، وجل (التعليمات) في مجال العدل تمر عبره، فضلا عن أنه هو المسئول المُباشر عن كل وكلاء الملك القضائيين عبر التراب المغربي، وحينما حاول وزير العدل الحالي محمد بوزبع التخلص منه غداة تعيينه في منصبه، تم ثنيه عن ذلك بطريقة جافة من طرف أحد المُقربين من الملك”.
ويُفيدنا ذات الملف الصحفي الجيد لمجلة ” تيل كيل” أنه “حينما يسير حُكم للمحكمة عكس ما يُراد في أعلى هرم السلطة، فإنه ليس من المُستغرب أن يتم تعويض قاض بآخر في غمرة جلسات المُحاكمة. وهذا ما حدث بالضبط للقاضي مصطفى فارس، رئيس محكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء، المعروف بنزاهته. فقد تجرأ على تبرئة ساحة بعض المُتهمين، كما طالب بإحضار بعض الشهود في عز الحملة المحمومة ضد الإرهاب، عقب تفجيرات الدار البيضاء يوم 16 مايو 2003 ، حيث تمت الاستعاضة عنه في خضم جلسات المُحاكمة بقاض آخر هو السيد لطفي الذي وزع، كيفما اتفق، أحكاما بمئات السنوات سجنا، دون استدعاء ولو شاهد واحد.
نقتطف أيضا من ملف مجلة “تيل كيل” هذه الشهادة التي أدلى بها أحد وُكلاء الملك تحت غطاء المجهولية، قال: “إنني خائف من الإدلاء بشهادتي باسمي الحقيقي، ذلك لأنه ليس لدي الحق في فعل أي شيء دون استشارة رؤسائي، حتى لو تعلق الأمر بمجرد المشاركة في نشاط ثقافي، حيث يجب علي أن أحصل على ترخيص مُسبق من الوزير. إنني رجل الواجب، وإذا ما تعرضت للعقاب لأنني قمت بواجبي فلن أجد أي ملاذ لإنصافي. إن الذين يُمثلوننا في المجلس الأعلى للقضاء، والمُفترض فيهم أن يحموننا، يُمكن أن يتعرضوا هم أنفسهم للعقاب. هكذا فإنه لدي الحق في الأمر بالقيام بتنصت على الهواتف، لكن أنا بدوري أخضع لنفس التنصت، هذا دون الحديث عن أعوان المخابرات العامة الذين يذرعون أبهاء وقاعات المحكمة، والذين يُمكنهم غدا أن يُفبركوا ملفا ضدي. فهل ستكونون هناك للدفاع عني إذا ما تمت مُعاقبتي لأنني صرحت لكم بهذا الحديث؟”.
هكذا ترتسم المعالم السوداء لقضاء تابع للدولة في شخص أعلى سلطة فيها، أي الملك، حيث لا أحد سيصدقك إذا قلت له أن ثمة قضاء مستقل في البلاد. غير أن الخطر الأكبر، يتمثل في عمليات الارتشاء التي يغوص فيها العاملون في مختلف أسلاك وتراتبيات هذا الجهاز، يُمكنك إذا كنت غريبا عن البلد أن تسأل أي مواطن عادي، مُجرب، عن الأحوال التي يجري فيها التقاضي بمحاكم البلاد، ليسرد عليك عشرات القضايا التي انتزع أصحابها “الانتصار” على خصومهم، ليس بفضل الحجج التي أدلى بها مُحاموهم خلال جلسات التقاضي، بل بفضل آلاف الدراهم، التي ترتفع أو تنخفض حسب أنواع القضايا المعروضة ومدى خطورتها، التي دفعوها لقضاة وسخين.
لنعد إلى رسالة المُحامين التطوانيين – نسبة إلى مدينة تطوان – الثلاثة التي رفعوها إلى حضرة السيد التاريخ و ليس إلى الملك، كما جرت العادة لدى المواطنين المغلوبين على أمرهم. فهو – أي الملك – باعتباره أعلى سلطة في البلاد، ليس من مصلحته توفر البلاد على قضاء مستقل يُحجم كل الأدوار، بما في ذلك دوره هو، ولا لوزير العدل، فهذا الأخير لا سلطة حقيقية له على القطاع، بل هو مجرد ديكور سياسي، لا أقل ولا أكثر، ولا لأي حزب من الأحزاب الكثيرة المتناسلة كالفطر، حتى أصبح عددها يتجاوز الأربعين. فهي مجرد إطارات لحمل أثاث الديكور السياسي إياه، وأقصى ما يمكن أن تفعله، هو “رفع آيات الولاء والإخلاص” إلى الملك، ومتمنياتها له، بمناسبة أو بدونها، أن “يُُطيل الله في عمره، ليكون ذخرا للبلاد والعباد”…كما أنهم لم يرفعوها باسم أية هيئة نقابية مهنية، فهم خير العارفين بأن أجهزة المخابرات مُندسة في كل صغيرة وكبيرة من هيئات المحامين محليا ووطنيا، لذا شددوا العزم فيما بينهم ورفعوها إلى الشاهد الأبدي السيد التاريخ.
حكى لي أحد الأصدقاء المحامين، بعض أطوار محاكمة زملائه الثلاثة، حيث كان قد تطوع لمؤازرتهم…حكى فقال أن قاعة المحكمة حيث جرت المحاكمة، كانت شبه قاع صفصف خاوية، ولما عنٌُُ له أن يستحث بعض أصحاب البذلة السوداء لحضور الجلسة التي يُحاكم فيها زُملاؤهم، ازورٌُوا عنه قانطين..
هكذا يتحالف الكل تقريبا ضد المُحامين الثلاثة، لأنهم ارتكبوا الخطيئة الكبرى المُتمثلة في الخروج عن صف القطيع الذي تسوقه الملكية وأذرعها المخزنية المُستفيدة.
أصحاب رسالة إلى التاريخ لم يكونوا يجهلون أنهم يخوضون في مستنقع نتن اسمه” القضاء المغربي”..ومن نتانته التي طالما استنشقوها غصبا، محامون فاسدون، بالضرورة، ما دام هناك قضاة فاسدون.
إن في المنطقة التي تتحدث الرسالة عن فساد بعض قضاتها، ونعني بها الشمال المغربي، ثمة حركة دائبة لمليارات الدولارات المحصلة من أموال المخدرات، وهي التجارة المحرمة قانونا، لكنها رائجة بين الأوساط العليا في الدولة، لنذكر من أجزائها الظاهرة، أن أحد أبناء ضابط جيش كبير لا يقل “أهمية” عن الجنرال بناني المسئول عن كل الحامية العسكرية الموجودة في الصحراء الغربية (أي عمليا ثلثا أفراد الجيش المغربي عدة وعددا وعتادا) ضُبط وهو يُهرب بضع مئات من كيلوغرامات الحشيش إلى أوروبا منذ نحو بضعة أشهر، وقد سعى أبوه إلى إطلاق سراحه بعدما كانت الفضيحة قد تجاوزت الحدود المغربية إلى أوروبا..إن هذه واحدة من مُعطيات غزيرة مُتوفرة لدى مُؤسسات غربية غير حُكومية مُتخصصة، شأن المرصد الدولي للمخدرات، تُؤكد أن تجارة المُخدرات في المغرب هي ليست شأنا يخص كبار المهربين التقليديين المنتسبين لمافيات مُتخصصة، بل هي من عمل جهات مسئولة في الدولة في أعلى المُستويات و..شرح الواضحات من المُفضحات.
وكان “طبيعيا” أن تسقط كل مؤسسات الدولة محليا، في مُستنقع الفساد على خلفية تجارة المخدرات، ومنها جهاز القضاء. ولم يكن خافيا على أحد من المطلعين، أن السيل بلغ مُستويات مُرتفعة جدا. وفي لحظة وعي مُتقدة قرر المحامون الثلاثة قول الحقيقة والارتماء في فوهة البركان.. وكذلك كان، غير أن ثمة بضع تفاصيل خطيرة حقا جاورت، بل لازمت الحدث إياه، فقد ذكرنا في صدر هذه الورقة أن “رسالة إلى التاريخ” نُشرت في الأسبوع الأخير من شهر يوليو الماضي، في أسبوعية “الصحيفة” (التي تحولت إلى الإصدار اليومي فيما بعد) وقيل ونُشر عقب ذلك ببضعة أيام قليلة أن وزارة العدل سوف تُتابع المحامين الثلاثة و الجريدة الناشرة، بتهمة السب والقذف. وجرت الكثير من المياه تحت النهر، منذئذ، كما يقول المثل الفرنسي، حيث تم تكييف المتابعة، فعلا، ضد المُحامين الثلاثة، أما الجريدة الناشرة فقد تم التغاضي عنها لأن أصحاب الشأن لم يكونوا يُحبون خلط أكثر من خصم في معركة واحدة..
الجريدة المذكورة توجد حاليا في حالة توقف “اختياري” عن الصدور، في حين جُرَُت أيام محاكمة المحامين الثلاثة، في أرض عراء، حيث لا ظل إلا ظل المخزن. غير أنه بين هذا وذاك، انتفض الملك ضد أحد أكبر خُدامه الأمنيين، ونعني به أمين أُمناء قصوره (نعم إن لدينا بحمد الله ألقابا إمبراطورية أسطورية خارجة من النص الخرافي لرواية ألف ليلة وليلة) ولماذا من فضلكم؟ هاكم الجواب بعد الرجاء منكم شد أحزمة السلامة: لأن الرجل متورط في فضيحة التعامل مع كبار تجار المخدرات في الشمال المغربي، أي في نفس المنطقة التي كتب فيها وعنها المحامون الثلاثة رسالتهم إلى حضرة السيد التاريخ… فماذا يعني هذا؟ يعني ببساطة أن صنع الفضائح، كما التحدث عنها، شأن ملكي خاص، لا حق لـ “الرعايا” بالخوض فيه تحت طائلة القانون.. وهاكم التطبيق السريع الذي لا راد له: التشطيب النهائي على المحامين الثلاثة من سلك المحاماة، أي قطع الأرزاق الذي هو أفدح من قطع الأعناق في مثل هذه الحالة.
هكذا يتأكد لمن ما زال في حاجة إلى مزيد تأكيدات، أن النظام الملكي المطلق، الجاثم على الأنفاس لن يحيد قيد أنملة عن الحقوق الأساسية للسواد الأعظم من المغاربة. ولن يفعل ذلك سوى في حالة تعرضه لخلخلة مُدمرة، وللأسف الأسيف الأسوف، أن القوة الوحيدة المُُُؤهلة تنظيميا لفعل ذلك، هي الأصولية “المعتدلة” والمتطرفة، وفي هذا التنافس غير المنتج فليتنافس المتنافسون.
*عنوان هذا المقال مُستوحى من عنوان مقال للكاتبة اليمنية الرائعة “أروى عثمان” المنشور في موقع الشفاف منذ بضعة أسابيع تحت عنوان “تجريم لحظة حب”.
mustapha-rohane@hotmail.fr
*يُمكن الاطلاع على الملف المذكور في موقع مجلة تيل كيل:” http://www.telquel-online.com
تجريم “رسالة إلى التاريخ”*
الرشوة تقتل حبنا لوطننا انقدنا يا جلالة الملك