كلما حدث طاريء في تايلاند وضع الكثيرون، ولا سيما في الخليج والجزيرة العربية، أيديهم على قلوبهم، فهي كل ما تبقى لهم كوجهة سياحية مثالية تجمع ما بين جمال الطبيعة والأمن والاستقرار والأسعار المعتدلة والمعاملة الطيبة والخدمات الراقية، بعدما عصفت الحروب والهزات السياسية والتلوث البيئي بمدن قريبة من بلدانهم كانت ذات يوم مقصدا مفضلا لهم مثل بيروت ونيقوسيا إلى الشمال وشيراز إلى الشرق وأسمرة إلى الغرب.
التايلاندي مسالم بطبعه
لكنى كنت ولا زلت لا أخشى ما يخشاه هؤلاء، ربما لأن سنوات الإقامة والعمل في بانكوك قربتني إلى التايلانديين بدرجة أدركت معها كم هم مسالمون، وكم هم يفضلون نيل مطالبهم بالوسائل السلمية المشروعة مهما كانت تلك المطالب وبالتالي كم هم مهمومون بالحفاظ على المكتسبات التي حققها وطنهم بدلا من حرقها وتدميرها في لحظة غضب أو انفعال. وهذه لعمري درس للكثيرين من أبناء أوطاننا المأزومة الذين تسحرهم كلمة خطيب مفوه من هنا أو شعار حزب راديكالي فوضوي من هناك فيصطفون وراءها دون تمحيص للأجندات والغايات الإجرامية التي يحملها هؤلاء.
خسائر اقتصادية فادحة
نعم لقد شل المتظاهرون التايلانديون في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي باعتصاماتهم أمام مباني الحكومة واحتلالهم لمطار ” سوفارنابهومي ” الدولي و مطار “دون موانغ” الداخلي قطاعات اقتصادية حيوية، فخسرت البلاد من وراء ذلك بلايين الدولارات، لا سيما وان الحدث وقع في موسم أعياد الميلاد الذي يحول تايلاند إلى احد أفضل الوجهات السياحية للسائحين القادمين من أوروبا. لكن الأمر لم يتعد ذلك إلا لماما. إذ لم يتقاتل أنصار الحكومة وأنصار المعارضة بالسكاكين والفؤوس، ولم يحطم أي من الطرفين معاقل الآخر، ولم يقدم أي منهما على زرع المتفجرات أو إرسال القناصة أو وضع المتاريس أو تفخيخ المركبات. كما لم ير التايلانديون ساستهم على الشاشات الفضائية وهم في وصلات ردح وشتائم من العيار القبيح.
مجرد مواطن تايلاندي
واليوم عادت الأمور إلى طبيعتها، وكأن شيئا لم يكن، بعدما قررت المحكمة الدستورية في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول أن انتخابات العام 2007 التي أتت برئيس الوزراء ساماك سوندارافيج شهدت تزويرا، وان حزب الأخير المعروف باسم حزب القوة الشعبي بات محظورا. وهذا الحكم كان كافيا لدفع سوندارافيج إلى الاستقالة معطوفا على تصريحات ذات دلالات هامة – ليت ساستنا العرب يتعلمون الدروس منها! حيث لم يجادل الرجل في شرعية الحكم الصادر ضده من عدمه ولم يزايد أو يتقمص دور عنترة، وإنما قال عبارة بليغة : ” من هذه اللحظة، لم اعد احمل ألقابا سوى لقب مواطن تايلاندي”.
الزعيم الاصغر سنا في تاريخ البلاد
ولإشغال منصب رئيس الحكومة الشاغر جرى تصويت خاص داخل البرلمان في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2008 أختير بموجبه ” أبهيسيت فيجاجيفا ” لهذا المنصب ليصبح الأخير أصغر رئيس وزراء في تاريخ تايلاند منذ أكثر من ست عقود، بل وأكثرهم تميزا لجهة سيرته الذاتية المزركشة. فالرجل الذي يعتبر أول شخصية تقود المعارضة في مجلس نواب تايلاندي منتخب هو من مواليد الثالث من أغسطس/آب عام 1964 في مدينة ” نيوكاسل أب أون تاين ” البريطانية حيث كان والده الدكتور أثاسيت فيجاجيفا ووالدته الدكتورة سوداساي فيجاجيفا يدرسان الطب. وبسبب من ذلك ألحقه والده – الذي صار فيما بعد بروفسورا في الطب ورمزا من رموز التكنوقراطية التايلاندية ووكيلا لوزارة الصحة في أوائل التسعينات – بمدارس بريطانية راقية في ايتون وأكسفورد، قبل أن يتخرج من كلية سانت جون في أكسفورد حاملا درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف في الفلسفة والسياسة والاقتصاد. غير أن طموح الرجل كان أكبر من ذلك، بدليل أنه عاد إلى بريطانيا من بعد فترة عمل قصيرة كمحاضر في ” أكاديمية تشولاتشموكلاو الملكية التايلاندية ” ليحصل من جامعة أكسفورد على درجة ماجستير في العلوم الاقتصادية، ثم ليعود فيعمل محاضرا في كلية تامسات ببانكوك وفي نفس الوقت ليلتحق كطالب ماجستير في كلية القانون بجامعة رامخامهانغ التايلاندية.
اصول عائلية مزركشة
على أن المسيرة التعليمية للزعيم التايلاندي الجديد ليست هي وحدها المزركشة. فأصوله العائلية أيضا كذلك. إذ تعتبر أسرة ” فيجاجيفا ” من الأسر التايلاندية ذات الأصول الصينية العريقة، بل وأيضا من الأسر التي حافظت على علاقات ود وتواصل مع النخب الملكية الحاكمة منذ أواخر القرن الثامن عشر فصار صوتها وكلمتها مسموعا في دوائر صنع القرار الملكية. هذه العلاقات التي يقال أنها بدأت في حقبة الملك راما الخامس (أحد أهم ملوك تايلاند تأثيرا لجهة تحديث البلاد وعصرنتها) و تواصلت عبر ثلاثة أجيال من أسرة ” يوان ” والكلمة الأخيرة هي اسم أسرة رئيس الوزراء الجديد بالصينية.
دخول المعترك السياسي
والشيء نفسه يمكن أن يقال حول قصة دخوله إلى المعترك السياسي وما تعلمه من عالم السياسة الشائك – وهو كثير ومتنوع رغم قصر الفترة . وضع فيجاجيفا قدمه أول مرة في ساحة السياسة في عام 1992 أي بعيد انقلاب عام 1991 العسكري، حينما ترشح لعضوية البرلمان عن دائرة بانكوك ضمن مرشحي الحزب الديمقراطي. وهو لئن فاز واستطاع أن يشق طريقه بسرعة في صفوف هذا الحزب، فانه لم ينجح في ما راهن عليه وهو الفوز بقيادته العليا. غير أن المنصب بنفسه سعى إلى الرجل بعد الهزيمة الساحقة التي مني بها الحزب الديمقراطي في انتخابات العام 2005 البرلمانية.
اسقاط الحكومة بقرار ملكي أمر غير دستوري
و أثناء الأزمة السياسية ما بين 2005 و 2006 دعا فيجاجيفا عاهل البلاد الملك بوميبول ادولياديج إلى استبدال رئيس الحكومة تاكسين شيناواترا بشخصية أخرى تقود حكومة مؤقتة وذلك بدعوى ما كان الشارع يردده وقتذاك عن تآمر شيناواترا وأتباعه للإطاحة بالملكية وتزايد نفوذه وقوته وفساده إلى حدود غير معقولة، لكن الملك رفض الطلب قائلا: أن تعيين رئيس للحكومة بقرار ملكي هو عمل غير دستوري وغير ديمقراطي لا يمكنه اتخاذه. وحينما دعا شيناواترا التايلانديين إلى انتخابات عامة للخروج من الأزمة، قاطعها فيجاجيفا بدعوى أنها لا تكتسب أية مشروعية وأنها مجرد مسرحية القصد منها توجيه الأنظار بعيدا عن فساد الحكومة وزعيمها، فيما اتهمه شيناواترا بدفع أموال إلى أحزاب سياسية صغيرة للوقوف معه ومقاطعة الانتخابات، وهو ما ثبت بطلانه من خلال لجنة شكلت للتحقيق في الأمر. وهي نفس اللجنة التي أدانت شيناواترا بالفساد وجمدت حزبه ” حزب التايلانديون يحبون التايلانديين ” أو تاي راك تاي، قبل أن يغادر شيناواترا تايلاند إلى منفاه الاختياري أولا في بريطانيا، ولاحقا في الصين.
مثالان
ويمكننا الإطلاع على ما اكتسبه الزعيم التايلاندي الجديد من دروس سياسية وأساليب هادئة للتعاطي مع التطورات من خلال المثالين التاليين:
1 – في عام 2007 وعلى اثر قيام الجيش بانقلاب عسكري ضد حكومة تاكسين شيناواترا بقيادة قائد القوات المسلحة الجنرال المسلم عبدالله، فضل الرجل التريث وعدم الاصطدام بالمؤسسة العسكرية أو الدخول مع قادتها في مهاترات كلامية، رغم مواقفه المعروفة حول رفض تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة. وكان رأي فيجاجيفا أن وقوع السلطة في يد العسكر بات واقعا ، وانه من اجل إعادة السلطة إلى المدنيين في أسرع وقت والمحافظة على مصلحة الوطن، يستدعي الأمر التفاهم بدلا من اللجؤ إلى الحلول المتصلبة، ولا سيما لجهة وضع دستور جديد بدلا من دستور عام 1997 . وكان الرجل يبتغي من وراء أسلوبه الهادي هذا إقناع العسكر انه لا داعي لكتابة دستور جديد وانه يكفي إجراء بعض التعديلات الهادفة للحفاظ على دور وهيبة الملكية، فضلا عن إقناعهم بضرورة إتمام العملية خلال ستة أشهر بدلا من فترة السنة المقترحة.
2- حينما أفرج العسكر عن مشروع الدستور الجديد الذي تضمن استحداث مواصفات وشروط محددة لمجلس الأمن القومي ، سارع فيجاجيفا إلى تأييده تحت يافطة ” قبول أهون الشرين” والمقصود بالشرين هنا هما : شر رفض الدستور وبالتالي منح مجلس الأمن القومي حرية اختيار طريقة عمله ومواصفاته كيفما يريد، وشر رفض الدستور وبالتالي التنازل عن جزء من سلطة الشعب لمجلس الامن القومي. إلى ذلك أعلن الرجل تأييده لمواد الدستور الجديد قائلا أنه يتضمن تحسينات لدستور عام 1997 ، وموضحا أنه إذا وصل إلى السلطة ورأى في مواد الدستور خللا يعيق تقدم البلاد وازدهارها، فانه لن يتردد في طلب إجراء تعديلات من خلال الأطر والهياكل التشريعية.
قصة تايلاند مع الساسة
غير أن قصة تايلاند مع السياسة وألاعيبها لم تنته بعد. فالبلاد مقبلة قريبا على انتخابات تكميلية قد تغير موازين القوى داخل البرلمان وبالتالي قد تسقط الحكومة الائتلافية التي يتزعمها الشاب الموهوب فيجاجيفا والطامح –كما قال في أكثر من لقاء صحفي – إلى أجندة على رأسها خدمة المواطن بالدرجة الأولى من خلال التركيز على تعليمه وتدريبه وتوفير أرقى الخدمات الصحية والسكنية والبلدية له، حتى وان استدعى الأمر إعادة تأميم بعض المنشآت التي حررها شيناواترا ضمن خطط تحرير الاقتصاد.
رسالة الملك الصامتة
و إذا جاز لنا القول فان أكثر من يدرك المصاعب التي تواجهها هذه البلاد في القادم من الأيام هو عاهلها المخضرم الذي احتفل مؤخرا بعيد ميلاده الحادي والثمانين، لكنه الذي ظهر كسيرا ومهموما ومتعبا أكثر من أي وقت مضى، بل الذي آثر هذه المرة على غير عادته ألا يوجه خطابا إلى الأمة، وهو ما وصفه المراقبون بالرسالة الملكية غير المباشرة للدلالة على غضبه واستهجانه واستيائه مما قام به الشعب والساسة والأحزاب خلال شهر نوفمبر المنصرم بحق بلدهم.
• باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
elmadani@batelco.com.bh