منذ نعومة أظافرنا ونحن نسمع الجملة التالية : فلان يعزف على الوتر الطائفي وفلان يعزف على الوتر المناطقي، لذا لم يكن مستغرباً أن يشكل اندفاعنا نحن العلمانية جزءاً من تمردنا على منظومة القيم السائدة آنذاك. وبما أننا ممن شهد هزيمة 1967 فقد شمل تحررنا اندفاعاً نحو الثورة الفلسطينية ورفضاً “لرومانسية” الحركات العسكرية حتى ولو كانت بقيادة جذاب كعبد الناصر، خصوصاً حين ازداد بطشها وجبروتها الداخلي بموازاة انكشاف عجزها عن تنفيذ شعارين دأبت هذه الحركات على استيلاد وسائل القمع والاحتواء من أجلهما، وهما بالطبع التحرير والتنمية.
ولمحاسن الصدف فقد شكلا شعار |كتلة التحرير والتنمية” في لبنان. وقد يكون مفهوماً أن ترفع هذه الكتلة شعار التنمية وخصوصاً أنّ بعض أفرادها يتهيأون للغطس لاستخراج النفط من قعر المتوسط، ربما تعويضاع ن مساهمتهم في منع استفادة لبنان من الفورة النفطية السابقة عبر احتلال وسط بيروت التجاري وإقفال البرلمان والمساهمة بقسطهم من التحرير بكومندوس 7 أيار، بعد أن استفرد توأمهم الروحي بمهمة التحرير الإلهي مدعوماً بنفط نظيف من كل شيء، إلا من الرصاص والصواريخ والمدافع الكلامية من كل العيارات.
الرفيق وليد بدا محبطاً في 7 أيار وهو مطوق في حي كليمنصو الراقي، والذي لا يبعد كثيرا عن المطعم الذي قضى فيه جزءاً من شبابه الطلابي قبل أن يورطه اغتيال أبيه في قيادة الطائفة الدرزية وتوأمها الاشتراكي.
وبينما كان شيخ المستقبل صامدا في قريطم، رغم تهاوي مكاتبه وإعلامه، ربما بصمت من القوى العسكرية الرسمية، وقد أخذت هذه القوى درسا قاسياً في “مار مخايل” ردا على تجاوزها ببسالة الخط الأحمر الحزب اللاهي، كان الحكيم “اليميني” يشد أزر فؤاد السنيورة ورفاقه المحاصرين من قبل المعتصمين المساكين القابضين على الديمقراطية اللبنانية المترنّحة بالجمر والنار.
ورغم صمود أهل الجبل بوجه قوى التحرير والمقاومة، إلا أن “البيك” استشعر سريعا الخطر والتغييرات فتصرف على طريقة “الطائفة أولاً”، الطائفة أساساً والزعامة استطراداً؟ إلا ان النوتة التي سيعزفها البيك ستنتظر حتى تصبح موسيقى وستسلك مسالك متعرجة حسب تعرج المناسبات. فيستحضر روح الحركة الوطنية في 14 شباط ويمرر تسريبات ضد الجنس العاطل، ثم ينبش لغة قومجية يساروية، لطالما وصفها بالخشبية، ضاربا عرض الحائط بالمسافة الفعلية التي قطعها مسيحييو 14 آذار والتي كان له مساهمة كبيرة فيها، خصوصاً القوة الرئيسية فيها. لذا جاءت قنبلة القانون المعجل المكرر حول الحقوق الفلسطينية لتعيد تظهير نوعاً من الإنقسام المسيحي الاسلامي، بعد محاولات من قوى أخرى في هذا السياق، كانت قد ظهرت في السنة الماضية في إطار موضوع إلغاء الطائفية السياسية.
ورغم حدة الاصطفافات السياسية والطائفية والمذهبية والتي تلامس حدود الإنشطار الذري، خصوصاً أنها تترافق مع شلل شبه تام في إدارة مرافق الدولة، رغم الاستعانة بميزان الجوهرجي في تنظيم الحصص في إطار ما اصطلح على تسميتها حكومة الوحدة الوطنية، فان القوى السياسية المعنية استطاعت نقل القنبلة الجنبلاطية الى مكان أقل توتراً. ويسجل للقوات اللبنانية وحكيمها دور رئيسي في هذا الموضوع الذي لم ينته فصولاً بعد بالإضافة بداهة لدور الأمانة العامة وتيار المستقبل.
فالمطلوب أن تخسر القوات (وآخرون) إما مسيحياً فيكسب مسيحييو 8آذار، وإما إسلامياً فيحرج الحريري وتيار المستقبل خصوصاً أن التيار الوطني ما زال يتغرغر يوميا بفكرة الحقوق المسيحية بمواجهة الإستئثار السني! اما الكتائب فيعتقد أنه يسهل استدراجها الى هكذا كمين رغم المصالحة والمصارحة التي تمت مع الفلسطينيين. وبعض التصريحات التي تذكر بالعداء للفلسطينيين كانت قد صدرت في سياق المزايدات الانتخابية في فرعية المتن عى خلفية أحداث البارد، وها هي تعود ببعض وجوهها من جديد، ولكنها قطعاً لا تصنيفات طبقية لها، بل هي تغرف من واقع البنية اللبنانية وبعض الصفات العنصرية التي اكتسبها اللبنانيون من كل المذاهب.
ورغم مشروعية بعض الهواجس في بلد تسكنه قلة من الأبالسة وكثير من الكوابيس، إلا أنه لا يمكن الرضوخ لتحويل البلد كله إلى مستشفى للأمراض العقلية، تنتشر فيه منتجعات ومخيمات ومعسكرات ومحميات من كل الأشكال والأجناس حتى لتظن أن الجنة والجحيم يتعايشان في لبنان.
ربما لا يشكك كثيرون بالرغبة الجنبلاطية في تحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين،
خصوصاً أنها تساهم حتماً في تطبيع وأنسنة وبالتالي إنعاش الحياة في المخيمات الفائقة البؤس مما يخفف من إمكانية استغلال بؤر التوتر، ويحق لنا التساؤل لماذا لم تحسن حياة الفلسطينيين في زمن الوصاية، حتى أن حق التملك سحب عمليا في سنة 2002.
إلا أن العزف الجنبلاطي بدا كانه يأتي ضمن أوركسترا ملحمية ترهيبية وتهويلية في آن. وترافق ذلك مع أحداث الجنوب واليونيفيل والإتفاقية الأمنية مع فرنسا والحملة على الأجهزة الأمنية، مروراً بمرافعات اللواء السيد أمام المحكمة الخاصة حيث بدا أن شتائم محاميه عفوية، بينما رأى فيها البعض إمعاناً في التسخيف والسخرية والتهويل. فإذا كان اللواء المفوه وأصدقاؤه جديين في محاكمة بعض الشهود (وليس التضخيم والإستغلال لطمس جريمة العصر)، فلماذا لا يذهب إلى سوريا ويحاكم هسام هسام ولا حاجة للشتم وجوقة الشتامين، حيث أنه بدا مؤمناً بالقضاء السوري أكثر من إيمانه بالقضاء الدولي. دون أن ننسى طبعاً الموازنة وقطع الحساب وكل ما يمكن أن يقطع الأرزاق وربما لاحقاً الأعناق. خصوصاً بعد كلمة السيد حسن نصر الله في يوم الجريح وبداية مسلسل المؤتمرات الصحافية للأمين العام و سيناريوهات الجنرال التي باتت تتكامل مع تهديدات وهاب ولكن دون “النهكة الوهابية” الطريفة، وقد زادتها “قضية” فايز كرم وربما غسان الجد تشويقا. ففي كلام نصر الله عود على بدء، وإن بلغة أكثر تخويناً وأكثر تهديداً، حتى أنه أطاح بمعظم المسافة التي قطعها الزعيم الجنبلاطي منذ استدارة 11 أيار 2008 ، مما يوحي بان قلق حزب الله وحلفائه من المحكمة الدولية وصل إلى منسوب عالٍ، فضلا عن الرغبة الإيرانية بتحمية الرسائل بمواجهة العقوبات المفروضة عليه من الغرب.
والغريب والمقلق أن السيد نصر الله لا يطرح أي بدائل جدية عن المحكمة الدولية التي يستشهد بكلام أحد قادة العدو لتأكيد إسرائيليتها!، ويتساءل كثيرون، هل يقبل حزب الله صاحب العقيدة الإسلامية والمعمم بجزء كبير من قيادته أن تموت الحقيقة مع الحريري و رفاقه وكل شهداء المرحلة اللاحقة؟ ومما يزيد من منسوب القلق أن مقربين من النظام السوري يطلبون جهارا من “ولي الدم” نسيان الموضوع رغم الموقف الرسمي السوري المختلف!
أما إذا أراد السيد نصرالله لقرائنه ومعطياته الأخيرة أن تخرج من إطار الإعلام فلا طريق لها غير طريق المحكمة الدولية، وستشكل إدانة إسرائيل بالطبع متعة لكل اللبنانيين والعرب.
يحق للأمين العام أن يسأل ما يريد، مع أن أسئلته تفوح منها رائحة الإستكبار والإستعلاء والتخوين والتهديد.
و يحق لنا أن نسأل:
إذا كانت جريمة العمالة للعدو بشعة، هي كذلك طبعا، ويجب كشفها والإقتصاص من المجرمين، أليست جرائم الإغتيالات والتفجيرات بحق قادة ومسؤولين وإعلاميين ومناضلين ومواطنين بشعة أيضا ويجب كشفها والإقتصاص من المجرمين الى أي جهة انتموا، خصوصاً أن هذه الجرائم استهدفت وحدة واستقرار وأمن وتكوين وتنوع ونمط ونبض الوطن؟
الم يقل كثيرون ومن بينهم قادة في حزب الله ان التلاعب بالواقع الاهلي أخطر من الحرب الإسرائلية على لبنان؟ هل عدنا إلى معزوفة الأمن أو العدالة؟ ومن الضامن للأمن، الدولة أم الحزب؟ وما تداعيات ذلك على البلد الذي يعتقد البعض أن يحول جزء منه إلى اسبارطة والآخر مستتبع لها.
ثم لماذا اختيار هذا التوقيت لتمرير الرسائل؟هل لتذكير المجتمعين في سوريا أخيرا في إطار تنقية وتطبيع العلاقات اللبنانية السورية من ضمن تنقية وتطبيع العلاقات العربية بان بعضهم “منتج إسرائيلي”.
لقد حاول جنبلاط تفادي هذه العاصفة بالدعوة للحفاظ على التنوع السياسي والتركيزعلى الإنماء والتعقل مهما كان القرار الظني فلم يسمعه اصدقاؤه
الجدد الذين سلفهم الكثير بما فيها استحضار الغداء السري مع “كونداليزا ريس”. ومع
ذلك تابع بالغمز من قناة سمير جعجع(مع ما يمثل) مما يحمل البيك مسؤولية كبيرة
ويبعده كثيرا عن “الحياد الإيجابي” وهذا ليس بالشيء القليل على كل الصعد، علما أنه
حافظ على طرافته باكتشاف كلمة ببغائية بدل خشبية في مؤتمره الصحفي الذي عزف
فيه على وتر شهود الزور ولمح بالتسييس في المحكمة الدولية لأول مرة.
والمؤسف انه كلما لاح للبلد بارقة أمل إنمائية، عمل أفرقاء على خنقها. فمع تتابع
خطابات السيد نصرالله وتصريحات عون المستهدفة القوات وآخرين من جهة والنافخة
في حجم الأصولية السنية “لتوازي” أصولية حزب الله الشيعية، لم يعد يبقى لوزير
السياحة، العوني الهوى، سوى شراء أطواق النجاة لرميها لما تبقى من زوار و سواح
عند الضرورة، وتحية المعاندين المصرين على التمتع بهذا البلد الجميل رغم كل
الصعوبات.
نحن اليساريين والديمقراطيين والعاديين لم نتعود تقديس المقاومين ووضعهم فوق كل
اعتبار، خصوصا إذا كانت حركتهم تتواصل مع خارج لا يقيم أي اعتبار لأمن وسلامة
البلد أرضاً وقادةً ومواطنين.
نحن تربينا على رسائل غيفارا المفعمة بالعاطفة والأمل وأنشدنا مع الشيخ إمام “غيفارا مات آخر خبر في الراديوهات” ودمعنا لأليندي حين أمطرت فوق سنتياغو ووقفنا مع فتيان “الآربي جي” في الدفاع عن بيروت عام 82، وناولنا الحجارة للمنتفضين في فلسطين لمنع الجرافات الصهيونية من نهش أبو عمار وهو يصرخ بوجه التنين، شهيداً شهيداً شهيدا.
كما أرسلنا مقاومين ومقاومات تلبية لنداء الشهيد حاوي ورفيقه محسن ابراهيم وتلبية لنداء الآخرين ايضاً لأي جهة انتموا، وقد دفنا مقاومينا بهدوء وودعناهم بدمعة حارقة رغم إنجازاتهم الكبيرة في تحرير بيروت والجبل وبعض الجنوب. ورغم كل “آلام” الاستئثار من حزب الله مدعوماً من ايران وسوريا على حساب الآخرين فقد صفقنا لصلابة مقاوميه حتى تحرير الارض، فنحن نقاوم لنعيش ولا نعيش لنقاوم. علما أننا نؤمن بالإستفادة من كل الطاقات في سبيل حماية الوطن ولكن على قاعدة بديهية مرجعية الدولة وسيادة البلد شعبا، أرضا ومؤسسات. وبالتالي وضع حدود وأمن الوطن في عهدة الجيش الصلب والقوى الأمنية الأخرى، وضمن قرار وسلطة والتزامات الحكومة الشرعية، تجاه شعبها من جهة وتجاه الشرعية الدولية والعربية وقوات اليونيفل من جهة أخرى.
ورغم إيماننا بأنه لا آفاق للبنان، إلا ضمن رحابة نظام علماني ديمقراطي قائم على المواطنة، الا أننا نعمل للحفاظ على التنوع بوجه الأحادية. ورغم أننا متمسكون بالعروبة الطوعية الديمقراطية وقلبها الفلسطيني ومتفقون بأن لبنان المتنوع نقيض الكيان الصهيوني العنصري، فاننا نرفض أن يستمر البلد ساحة لمصالح إقليمية ودولية ستؤدي استطراداً الى القبض على البلد، ضمن شعارات أصبحت هي المشكلة لا الحل باعتبارها تمهد لمزيد من الحروب الأهلية والخارجية.
ومع ذلك، فان بعض اليساريين والعلمانيين والمتنورين ما زال منكفئاً انطلاقاً من عدم الرغبة في الدخول فيما يعرف باصطفافات سياسية، وهو انكفاء غير مبرر لأن مصير الجميع على المحك. فضلا عن أن انخراط هذه الفئات في الصراع السياسي والمدني يخفف من الحدة المذهبية للإنقسامات ويعزز الجانب الديمقراطي العلماني والحداثي للحركة الإستقلالية ويساهم بالطبع بمنع المغامرات الأهلية الإنقلابية.