يستطرد المفكر الإيراني عبدالكريم سروش في عرضه لميزات العلم التجريبي، بالقول إن القوانين والفرضيات العلمية تقول بعدم إمكانية وقوع بعض الظواهر، وكلما كان عدم الإمكان هذا قانونيا كان أكثر علميا. بمعنى أن القوانين العلمية لا يمكن أن “تتوافق” مع وقوع بعض الظواهر. لذا، حينما يعلن القانون، أي قانون، عدم قدرته على توقع وقوع بعض الظواهر، فذلك يعني أنه في حال وقوعها فإن القانون يصبح باطلا وصحته تسقط. هذا حال جميع القوانين العلمية، إذ حينما تقع بعض الظواهر دون قدرة القوانين على توقع ذلك، فإن القوانين تصبح باطلة، على أساس أنها – أي القوانين – لا تستطيع أن تكون متوافقة مع كل شيء وفي ظل جميع الظروف.
إن الإبطال، وفق سروش، لا يعني أن القوانين تصبح باطلة في يوم ما، بل يعني أنه لو كانت هناك ضمانة تحمي صحة علمية القوانين فإنها معرضة للإبطال أيضا. فمن خلال التجربة نستطيع أن نثبت الإبطال. فالقانون يصبح علميا إذا كان خاضعا للتجربة، وحينما يكون خاضعا للتجربة فسيكون أيضا خاضعا للإبطال.
لنتمعن في هذه العبارة: “من يقترب زمن موته فسيموت”. هل نستطيع، ولو في عالم الخيال، أن نخوض في تجربة نثبت من خلالها إبطال هذه العبارة؟ حسب سروش فإننا هنا سوف لن نخرج من حالتين: إما أن الشخص ميت، وإما أنه حي. فإذا كان ميتا، فإن العبارة تقول بأن زمن موته قد دنا، وإذا لم يكن ميتا فإن العبارة تقول بأن زمن موته لم يدنُ بعد. لذا، تعتبر العبارة “لا أبالية” تجاه الأحداث، فالموت أو عدم الموت بالنسبة لها سيّان ولا يختلف. يتبيّن من المثال السابق أنه في حال وقوع حادثين، ستصبح العبارة باطلة، بمعنى: الإنسان يموت قبل أن يصل أجله، و: الإنسان بعد وصول أجله لا يزال حيا. لكن، كيف يمكننا أن نستخدم التجربة لكي نعرف أن الإنسان قد دنا أجله ولم يمت، أو أن أجله لم يدن لكنه مات؟ حينما نفتقد مقياسا مستقلا لمعرفة وقت الموت، فإننا يجب أن نعرف وقت الموت من خلال الموت نفسه، أي يجب أن ننتظر موت الإنسان لكي نعرف تاريخ موته. على هذا الأساس تعتبر العبارة السابقة غير علمية. فالعبارة لا تستطيع أن تتوقع حياة أو موت أي شخص.
كيف نستطيع أن نقول بأن جسما ما يتصف بألوان خاصة معينة، أو أنه لا لون له؟ هل يمكن إثبات ذلك من دون النظر؟ لتحقيق ذلك دون الاعتماد على النظر، لابد من وجود أسلوب آخر. ولأنه لا توجد وسيلة غير النظر لتحديد لون الأجسام، فإنه لا توجد طريقة لإثبات صحة أو خطأ ما نقوله.
إن إبطال عبارة ما هو بمثابة نقد لهذه العبارة. لذلك، فإن العبارات غير القابلة للإبطال، لا يمكن نقدها من خلال التجربة. ومن الأدلة التي تجعل القانون غير قابل للإبطال (وغير علمي) هي عدم امتلاكنا اسلوبا مستقلا وقرينة مستقلة نستطيع من خلالهما أن نختبر ونقيّم هذا القانون. فوقت الموت لا نستطيع أن نعرفه إلا من خلال الموت، ولون الجسم لا يمكن أن نحدده إلا من خلال النظر.
من الميزات الأخرى التي يشير إليها سروش بالنسبة للعلم التجريبي، التأكيد على أن يكون أسلوب العلم اختياريا. فلا مكان للشمولية في البحث العلمي، ولا يمكن إخضاع جميع جوانب ظاهرة ما لفحص علمي. بمعنى أنه لا يوجد علم يستطيع أن يخضع جميع جوانب الظاهرة للتجربة والتحقيق. فمن خلال “سكّين” العلم – كما يوضح سروش – لا يمكن أن “نقطع” كل شيء، ولا يستطيع “دلو” العلم أن “يسحب” جميع أنواع الحقائق من “بئر” الطبيعة.
العلم لا يمكن أن يكون شموليا ويستخرج جميع الخصائص المتعلقة بظاهرة ما. لكن، مع تطور العلوم، ظهر منها ما يمكن أن يفسر الكثير من الظواهر الطبيعية التي لم تكن مفسرة في الماضي. وبعبارة أدق، فإن أسلوب العلم الاختياري يعني التالي: حينما يكون هناك “بحث علمي” حول الماء – على سبيل مثال – فهذا يعني أنه تمت الإشارة إلى “الجوانب المنطقية” المتعلقة بالماء، والتي استطاع العلم اكتشافها والإشارة إليها، لا جميع جوانب الماء. فكل الماء هو بمعنى الأجزاء المستكشفة علميا والأجزاء التي لم تُستكشف. والعلم يسعى لاكتشاف ما هو جديد فيما يتعلق بأجزاء الماء. ولا يوجد قانون علمي يستطيع أن يوضح العلاقة بين جميع أجزاء ظاهرة ما، بل يستطيع القانون العلمي أن يوضح العلاقة بين الأجزاء المنطقية، كالعلاقة بين الضغط والحجم. ولا يوجد أسلوب علمي قادر، مرة واحدة، أن يحيط علما بكل ما يتعلق بالظاهرة ويعرف جميع مكوناتها. فيمكن من خلال مقياس الحرارة (أسلوب علمي) أن نقيس درجة حرارة الماء، لكن لا يمكن أن نكتشف الأجزاء الأخرى المكونة للماء من خلال المقياس ذاته. إذاً، لا يوجد أسلوب علمي يستطيع أن يكتشف في وقت واحد جميع الأجزاء المكونة لظاهرة ما.
وعليه، هناك الكثيرون ممن يعتقدون بأن تفسيرا علميا معينا حول جزء أو أجزاء من ظاهرة معينة هي انعكاس لكل الظاهرة. وهذا خطأ شنيع. فلا يمكن للاقتصاد – مثلا – أن يكون انعاكسا تفسيريا وحيدا لجميع التغيرات التي تحدث في المجتمع. إنه الخطأ الذي وقع ويقع فيه الكثير من العلماء، وهو أن يكتشفوا جزءا من الشيء ويعتبروه تفسيرا لكل الشيء. فمن الصحيح القول بأن الإنسان، على سبيل الافتراض، قد جاء أصله من القرد، لكن من الخطأ القول بأن الإنسان لا يمكن إلا أن يكون قردا.
يؤكد سروش وجود العديد من المؤرخين في هذا العصر ممن – باسم التحليل العلمي للتاريخ – يعتمدون على جزء من التاريخ (كالاقتصاد) ويفسرون جميع الأحداث استنادا إلى ذلك، ثم يعتقدون بأنهم قد أعطوا التاريخ كامل حقه في التحليل والتفسير العلمي واستطاعوا أن يعرّوه ويجعلوه شفافا وواضحا. إن ذلك في نظر سروش هو مجرد خيال. فاعتبار أن فهم كل التاريخ يستند فقط إلى التحولات الاقتصادية وإلى النزاع الطبقي، هو خطأ كبير. فهنا لم يتم اكتشاف كل التاريخ، ولا عن طريق العلم فقط يمكن اكتشافه. فالقول بأن العلم قادر على أن يكتشف كل شيء، هو قول أكبر من العلم نفسه. من خلال العلم – أي علم – نستطيع أن نفسر ونحلل جزءا من الظاهرة لا كل أجزاء الظاهرة.
ملاحظة: الحلقات الثلاث التي نشرت، استندت إلى بحث بعنوان “ماهو العلم؟” لكتاب (باللغة الفارسية) بعنوان “ما هو العلم، ما هي الفلسفه؟” للمفكر الإيراني عبدالكريم سروش..
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي