بيروت مدينة شاهدة، فوق انها شهيدة حية. جراحها الباقية من حروبها السابقة (1975-2006) لا يزال بعضها يرتفع فوق ارضها-جسدها. تجوال بسيط في شوارعها يؤرّخ بمساحاتها المحروقة لجغرافية تلك الحرب. أمكنة، عمارات بعينها، وبعضها شاهق الارتفاع، مثل «الهوليدي إن» او «برج المر»، ما زالت قائمة مدمّرة. امكنة بنقاط لو ربطتها ببعضها، لإرتسمت بخيوطها خطوط النار بين اخوتها الاعداء. العمارات المدمّرة هذه بقيت طوال 16 سنة من الهدنة (1990-2007) تعاند، فتنْبت الاعشاب البرية على جوانبها ومرتفعاتها. وتبقى بذلك شاهدة على جراح ماض قريب، على التقاتل العبثي بين ابنائها.
الآن: ايضا بيروت تشهد على حاضرها. خطوط تماس جديدة؛ تخترقها في اتجاهات اخرى. كانت شرقية ضد غربية. مسيحية-اسلامية، فأضيفت اليها شمالية – جنوبية. خطوط تماس جديدة، نقاطها هي نقاط تواجد الجيش في الازقة والشوارع الفاصلة بين الشيعة والسنة. زقاق البلاط، البطريركية، مار الياس، الخندق العميق، جامع عبد الناصر… هي اسماء نقاط تمركز قوى من الجيش، إنها نقاط التماس الجديدة.
على جسد المدينة ترتسم العداوات الجديدة، وتستقر في العمارات «المختلطة» وترسو في العقول. العائلات المختلطة، السنية-الشيعية، وهي ليست بالقليلة، تشبه المدينة الشاهدة على ندوبها، تخترق جنوب العواطف وشمال العقل، بالضبط كما تخترق نقاطُ التماس الجديدة المدينة فتقطعها الى مربّعات. بيروت تحمل جروحها في روحها وجسدها.
لكن بيروت مدينة تنتظر أيضاً. تعرف كيف تنتظر. في المتحف، خط التماس الأشهر لحربها الاهلية السابقة، عمارة قديمة من اربعة طوابق مبنية من الحجر، نوافذها الخشبية حمراء وشرفاتها تظلّلها قناطر مسنودة بأعمدة ضخمة… كما في ايام زمان. في الحرب السابقة دُمّر نصف الشرفات تماماً، من اول طابق حتى الرابع، كأن صاروخا من سكين قطعها من غير ان يدمر ما تبقى منها. اهل العمارة لم يعيدوا بناء نصف الشرفات الاربع المدمرة. سدّوا نصف الشرفات الناجية بالباطون واعادوا دهنها بالابيض. زرعوا الزهور على جنباتها، اما الابواب التي يفترض ان تطل على الشرفات المدمرة، أي على الفراغ، فأغلقوها تماماً، وختموها باللون الاحمر، الواثق من الانتظار. والمدهش ان الطابق الثاني من هذه العمارة بقي على حاله منذ ايام الحرب السابقة، تتدلّى منه بقايا الحجر الذي يبعث ربما الغبار وقت هبوب الرياح، فيما بقايا شرفة الطابق هذا، وما يبدو من دواخله ما زال يحمل آثار اسوداد حريق.
عمارات كثيرة اخرى اعيد ترميمها بالكامل وبالعمق وبشيء من الغواية، مثل عدد من عمارات خطوط التماس السابقة: رأس النبع، بدارو، المتحف نفسه. هذه لم تصبر على الحرب وربما على السلم، فارتدت الوان الجاذبية الخالصة وزيّنت شرفاتها بمنمْنمات من الازهار. وفي ايام ربيعية مثل هذه، تبدو كأنها تصرخ للحياة: تعالي وتعالوا لننسى البشاعة والحرب، ولنعش فقط، ونبقى نعيش بإنتظار مجريات الصراع الاقليمي والدولي… انها اكثر الابنية استنهاضا للأمل. وللإبتهاج بالوانه.
بيروت تفقد صبرها ايضا. يأسها من إنتظار «التحوَلات» يدفعها في مجالات اخرى الى القطيعة. العمارات التي يُشرَع في بنائها في اماكن اخرى مبالَغ فيها في اوقات كهذه. آخر الزوايا، آخر البيوت القديمة المطلّة على بقايا بساتين أقدم منها، كلها آيلة الى الاختفاء، الى اعطاء مساحاتها لعمارات شاهقة. عمارات شاهقة فقط.
والامر نفسه مع المقاهي القديمة: إما خبا نجمها، او أُغلقت لمقهى جديد اومتجر للملبوسات الرخيصة. الجلد القديم تنزعه بيروت عنها كأنه جلد غيرها. بعض الماضي القريب منها لا تقوى على الاستمرار فيه. المقاهي، واحات التواصل الوحيدة بين اهلها، هي الاكثر هشاشة في ذاكراتها. بخفة البداوة ينتقل رواد المقاهي من هنا الى هناك… من مقهى ذي نكهة «محلية» الى آخر يرتدي لبوس العوْلمة. الوكالات الكبرى (كاسبر اند غامبيني، ستار بكس، بول، كوستا…) حطّت مضاربها، بذوقها الواحد الموحد وخدماتها الطليعية، خصوصا الانترنت اللاسلكي.
واحة من هذه الواحات، مقهى «جدل»، حيث القراءات الشعرية والنثرية مساء كل يوم جمعة. في اليوم الثاني من جريمة مريبة ابتدأت خطفاً لشابين وانتهت بقتلهما، وفيما المناخ رعب من الخطف المضاد، يُحيي المقهى واحدة من لياليه الثقافية: فعل تجاهل وتناسٍ مؤقَتَين لمناخ الخوف والتوتر والحذر من التنقل بحسب الهوية المذهبية. الامسية هذه ضاحكة… اقل شكلية مما يتوقعه المرء منها، طغى عليها الغناء الحرّ، بدل القراءات. انه بلْسم او سرقة لحظة استخفاف بالاخطار. بإنتظار…
بيروت في هذه الاثناء تمنح فرصاً للجمال ولتجديد الشباب ايضا. آخر طرائفها: احد المصارف الوطنية يقدم قروضا للتجميل بفائدة متدنية جدا لكل شخص يسكن لبنان ويعمل فيه، من اجل تغطية تكاليف عمليات تجميل جراحية وتقويم اسنان. واللافت في الموضوع هو الاغراء الذي يقدمه البنك للأشخاص غير المتزوجين من غير الميسورين، اذ لا يتعدى الحدّ الاقصى للقرض 5000 دولار اميركي، فيما الحد الادنى للعازب 600 دولار، وللمتأهل 900 دولار. نتجمّل بانتظار «التطورات…». نمنح فرصا افضل للزواج في هذه الاثناء ونحسّن ما نراه مناسبا في مظهرنا. لعلّ السلام او الحرب يحلاَّن ، ونحن في كامل اناقتنا!
احدى الاسبوعيات السياسية نشرت صوراً لقطب سياسي، «قبل» جراحات تجميلية تزعم انه اجراها… و«بعدها». ليس في الامر عيب، كما تودّ الايحاء الاسبوعية المعادية لذاك القطب السياسي، على الاقل جماليا؛ اذ يبدو القطب «بعد» العملية افضل حالا وربما اقدر على الاقناع مما «قبلها». لكن فيه تعبيراً عن هم لبناني اصيل… وليس بالضرورة اسوأ الهموم، او اشدّها تفاهة: التجمّل والتأنق وحسن الهندام. هكذا نريد ان نحيا او نموت… مع كل بشاعة ناطحات سحاب مدينتنا الخانقة لهوائها.
هذا وجه من وجوه بيروت الآن. ولبيروت وجوه لا تُحصى. من نفس عيار حيويتها وجرعات توتّرها وجمالها. وجمال بشاعتها
dalal_el_bizri@hotmail.com
*الحياة