كانت بيروت ولاتزال في مخيلتي مدينة “أسطورة”، موقعها المركز علي خط طول القلب، والمركز على خط عرض العقل، إذ يمشي في طرقاتها وبين أهلها كثرٌ من أرباب الأوليمب جمعا ً أو فرادي.. فتارة يمرح في شوارعها وأزقتها “ديونيزوس” بخمره ومجونه وتحرره من ربقة الأوامر والنواهي، وتارة يصعد إلى شماريخ أرزها “أبوللو” إله الشمس والسماء والرزانة. وقد يتولي أمرها حيناً “هوبنوس” رب النوم فتنعس الجميلة علي كتفه هانئة قريرة، تراودها أحلام الياسمين وأشواق الجلنار. لكنه في حين آخر، فجأة ً قد يدفع بها- غادرا ً- إلى توأمه ثاناتوس رب الموت ليحصد أرواح بنيها حصدا ً.. عندئذ يتوقف قلبي عن الخفقان أو يكاد، وُتغم علي عقلي رؤية ُ الغد العربي المنتظر، بله رؤية الغد العالميّ المؤمل منه أن ُينهي تاريخ ما قبل البشرية هذا الذي نعيش فيه اليوم.
لكنْ – وحمدا ً للنبلاء الشعراء خالقي الأساطير الخلابة التي تنتصر للحياة علي الموت – سرعان ما يهبط إليها “أورفيوس” بقيثارته الساحرة ليعيدها من جحيم هاديس إلى عالم الضياء والأحياء بهيئة المعشوقة “أوريدي” ذات الجمال والجلال والكبر البهيج.
والعجيب حقاً أن بيروت هذه المتقلبة بين سواعد الأرباب، كانت تصر، في كل أحوالها، ألا تفلت من يدها كف “أثينا” ربة الحكمة.. ولهذا ظلت علي الدوام مصدرا ً مبدعاً للمنتج الثقافي باستمرارية تشبه استمرارية “كرونوس” إله الزمن في استحالته علي مفهومي ْ العدم والغياب.
أقول لعلها تزوجت “نبتون” إله البحر،فاكتسبت من صفاته أن تتجلى جسداً لازوردياً اللون، زبدىّ الإهاب، عميق السر في القرار، يجمع بين الرقة والعنف، وبين الحنكة والبراءة، وبين الثواء والترحال، خفاقة ً في كل الأحوال قلبا ً خضمّا ً طهورا ً لا يتلوث أبدا ً حتى وإن ُقذف بنفايات البشر، أو ُألقيت في صدره الوسيع أدرانـُهم وسخائـُهم ودناياهم.
من بيروت زوجةِ ِ البحر الأبيض المتوسط تلقي المثقفون العرب هداياهم من أعمال ابن خلدون، وابن رشد، والقاضي عبد الجبار، والجاحظ، وعبد القاهر،وأبي بكر الرازى، وابن سينا، وابن النفيس وغيرهم من “حداثي التراث” جنبا إلى جنب رواد الحداثة المعاصرة: محمد أركون، وادوار سعيد، و محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وأدونيس، وجابر عصفور، وصلاح فضل، وصلاح عيسى..وغيرهم، فضلا عن شعراء المقاومة درويش، وسميح، وفدوي… والروائيين ذوي الخصوصية المبهرة: عبد الرحمن منيف، وغادة السمان، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وإبراهيم الكوني، وحيدر حيدر، وإبراهيم أصلان، وخيري شلبي.. إلى آخر قائمة المبدعين العرب الذين أذاعت بيروت صيتهم في العالم بأسره.. وقد بقي على هؤلاء جميعا ً أن يردوا الجميل بمثله بأن يقفوا بجانبها بينا هي تصارع كسف الظلمة الفاشية المتربصة، لا بطلب الحوار مع عناصرها ( فالفاشستي يفضل علي مبادلات الألسن والآذان طعنَ الأعين بمغرز الإسكافي) وإنما بفضح هذه العناصر، وكشف أغراضها الشريرة أمام الجماهير، وتفكيك أيديولوجياتها القائمة علي الأنانية المطلقة ورفض الآخر رفضا ً ابتدائيا ً غير قابل للشك أو المراجعة.
ومع ذلك، وبفرض أن دعا داع للحوار بين مثقفين يتبنون الديمقراطية نهجا ً وفلسفة، وبين نظائر لهم يؤمنون بالفاشية سبيلا ً لتقدم الأمة، فإن مشكلة تقنية سوف تنشب، مؤداها أن ” فاشييـ.. نا” العرب ليسوا على المستوى المعرفي الرفيع الذي تمتع به الفلاسفة الذين مهدوا بكتاباتهم لأدبيات هذا المذهب: فيشتة، وشلنج، ثم أوجست كونت وماكس فيبر علي التوالي، إلي مارتن هيدجر أستاذ سارتر نفسه ! فكيف يمكن للمرء أن يحاور من لا يعرف أصول مذهبه – باستثناء مطاع صفدي الذى احترف النقيضين: الترويج للفاشية العملية (تنظيرا وتبريرا لنظام صدام!) والنقد العنيف للمذاهب الشمولية (ما لم تكن بعثية عربية قومية إسلامية…الخ) فهل يمكن لخاطر هذا المثقف التقليدي، بتعريف جرامشى، فتح دكان للحوار ليدخل إلينا منه جنرالات الفكر المسلح، وصبيانهم صحفيو الغوغاء، ومرتزقة الثقافة؟!
تلوا باطلا ً وجلوا صارما ً
وقالوا صدقنا.. فقلنا نـعم
تسألني جدة أحفادي، وهي تراقب من وراء كتفي هذه الكلمات المنهمرة على صفحة الجهاز انهمار حبات المطر علي أرض عطشى: أفهم أنك تدعو معاصريك، ممن ذكرتَ بعضا ً من أسمائهم توا ً، لإصدار البيانات قوية واضحة، تأييدا ً ودعما ً ومناصرة ً، ولكن ماذا تطلب من الراحلين وقد رحلوا؟!
هتف القلب مني والعقل معاً: رحلوا كيف؟! إنهم هنا أحياء بيننا قائمون، وإنهم لمتجددون في قرائهم وشرّاحهم وتلامذتهم، ممن يعيدون إنتاج معانيهم في أشكال تتلاءم ومعطيات عصرنا. وهكذا ترين أن هؤلاء وأولئك – بالأصالة أو بالتحديث – لمطالبون بشحذ كل ملكاتهم، وتطوير أفضل أدواتهم المعرفية والجمالية لتكون رصيدا ً احتياطياً، تنمّي به بيروتُ رأسمالَـَها الرمزيّ(= اللغة، اللهجة، العرق، التوافق المعرفي، المشترك الثقافي..الخ ) في معركتها القادمة بالضد على تمركزات الماضوية الراغبة في بعث أنماط اقتصاديات الفيء والخراج، وبعث أيديولوجيات القهر والتسليم المذعن، جنبا ً إلى جنب محو كل محاولة هدفها استقلال الأفراد، واستقلال الأوطان( بالمعني المعاصر لكلمة الوطن، وليس بمعنى الأمة التي هي معنى متعال ٍ بغير حدود جغرافية ).
قلت: يا زوجتنا الخصوصية الذكية، ها أنت ترين كيف لا تني قوى الظلام المعاصرة عن حفر الأنفاق في جبل التاريخ لتتصل من خلالها بمنابع الجمود والتحجر، مستمدة من تلك المنابع قدرتها على مغنطة أولي الألباب البسيطة الساذجة، الذين يقعون أسرى المخايلات التاريخية الزائفة الصنع. وبتوهمات هؤلاء البؤساء تضاعف قوى الظلام المعاصرة هذي أرصدتها ولو إلى حين.. فهل يتقاعس الحداثيون المعاصرون، وحداثيو التراث عن بناء الجسور التي تربط بينهم وبين المستقبل الذي يهندس الاحتمالات غير المحدودة – رياضيا ً وفيزيائيا ً – لبلوغ فضاء الحرية المشتهاة؟!
ولعمري إن همو أقدموا ولم يتقاعسوا ؛ فإنهم يكونون بذلك في الحقيقة مدافعين عن أقلامهم وبيض ِصحائفهم، بالضد علي خناجر وسود ِ صفائح الظلاميين. فالحرية التي تناضل بيروت لكسبها اليوم إنما هي في واقع الأمر سر الجمال عند عاشقيها في كل مكان، بينما يحدق الزمان مشدوها ً في بيروت: أسطورة العصور طائر الفينيق الذي يحترق ثم ما يلبث حتى ينهض من رماده مرفرفا ً مغردا ً من جديد.
Tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
بيروت: طائر الفينيق أسطورة العصرصباح النور اولا اشكر الاديب الشاعر حكمت البيادري الذي اشار في ملتقى الفينيق الى هذا المقال .فأنا جئته على أجنحة هذا الطائر الاسطورة الذي تشبه قصته واقعنا .اما المقال فهو متدرج من كتابة ساخرة تنهل من الشعر والأسطورة إلى ربط ذلك بواقع لبنان بل بالواقع العربي والاسلامي عموما لان النزعات الطائفية والتوجهات السياسية المذكورة هنا موجودة في جل هذه البلاد وإن خص الكاتب مهدي بندق بها بيروت على سبيل الذكر لا الحصر. نحن فعلا نعيش في كل البلاد العربية بتفاوت طبعا واقعا أسطوريا غرائبيا عجائبيا كله آلهة وصراعات .فكأنّ الشرك في معناه العقائدي يعود الينا باوثان… قراءة المزيد ..
بيروت: طائر الفينيق أسطورة العصر
الشيعة مظلومون يا أخ بندق . وأنت بالذات تعلم هذا جيدا بحكم ثقافتك التاريخية الموسوعية . فلماذا تنصر عليهم الفاسدين من حزب أمريكا ؟ الديقراطية تعني اعطاء
كل طوائف الشعب حقوق المواطنة . وفي لبنان يعلم الشيعة أنهم معرضون للابادة
بفضل التحريض السعودى الوهابي ، فهل تطلب منهم أن يسلموا سلاحهم لقاتليهم
المحتملين ؟!
بيروت: طائر الفينيق أسطورة العصركلما قرأت مقالة جديدة للشاعر والكاتب المصرى الكبير مهدى بندق كلما أيقنت أن الكتابة بمصر لازالت بخير ، هكذا نقول نحن المصريين المقيمين بألمانيا لبعضنا البعض ، فهو بجانب حسه الإنساني المرهف والمتجاوز للنزعة الشوفينية الضيقة البغيضة نراه يولي القضايا القومية اهتماما عظيما ، خاصة حين تكون جزء من حركة التاريخ في الإتجاه الصحيح . وهذه المقالة / القصيدة مثال على ذلك ، فبيروت بالفعل هى القلب الثقافي النابض في الجسد العربي العليل ، والأمل في أن يقوم القلب بدوره في ضخ دم الحياة إلي الأشلاء الباردة معيدا اليها الدفء والحيوية . شكرا للشاعر وشكرا لموقع… قراءة المزيد ..
بيروت: طائر الفينيق أسطورة العصر
هذه قصيدة شعرية تصور بيروت الجميلة في تألقها وفي محنتها أجمل تصوير
تحية خاصة للشاعر الكبير مهدى بندق الذى يمزج الشعر بالفلسفة بالتاريخ ، ليخرج
من التصوير الي التشخيص ثم التلميح الي العلاج : الديمقراطية والحداثة.