الحملة الانتخابية الرئاسية لمرشح الحزب الديمقراطي بيرني ساندرز ظاهرة غير مسبوقة في الحياة السياسية الاميركية. فالسناتور المستقل عن ولاية فيرمونت، من اب يهودي مهاجر من بولونيا، غير المنضم لاي حزب منذ بدء حياته السياسية كعمدة منتخب لمدينة بورلنغتون اوائل الثمانينيات، معروف عنه انه رجل نزيه لا يتنازل عن قناعاته التي حملها طوال رحلته السياسية من عمدة الى عضو في مجلس النواب منذ العام 1991، ثم عندما انتخب للكونغرس كسناتورولاية فيرمونت منذ 2007 حتى الآن. وصف نفسه بانه اشتراكي ديمقراطي على نمط الاشتراكية الديمقراطية في اوروبا وخاصة في الدول الاسكندنافية. وهو لم ينضم للحزب الديمقراطي الا عشية ترشيح نفسه للرئاسة الاميركية.
قاد على امتداد 15 شهرا حملة تاريخية في الانتخابات الاولية للحزب الديمقراطي، نال فيها اصوات ما يزيد عن 13 مليونا غالبيتهم من الشباب والطبقات المتوسطة والفقيرة، وفاز في 23 ولاية على منافسته القوية هيلاري كلنتون، وجند مئات آلاف المتطوعين للعمل في حملته، التي اعتمدت فقط على تبرعات ضئيلة لملايين من ذوي الدخل المحدود، فيما العادة ان المرشحين يعتمدون على تمويل ضخم لاعداد قليلة من الاغنياء والشركات والمؤسسات المالية الكبيرة.
حقق هذه الارقام خلال حملة ركزت على التفاوت في الدخل والثروة، وواجهت في شعاراتها الاحتكارات المالية التي اتهمتها بوضع اقتصاد البلاد على حافة الانهيار، ووعدت بتحقيق مطالب تهم اوسع شرائح الناخبين الاميركيين، كتأمين الرعاية الصحية المجانية للجميع وتخفيض اسعار الادوية ومواجهة احتكارات شركات الادوية، والتعليم المجاني في المعاهد والجامعات الرسمية، وتوسيع عدد مستحقي التأمينات الاجتماعية التي توفرها الدولة وزيادة ما يتلقونه من مكاسب، والعمل لرفع الحد الادنى لأجر ساعة العمل من 8 $ الى 15$. بالاضافة لدفع الاجازات الصحية واجازات الولادة وايام العطل، وحماية حقوق المرأة وخاصة حقها في الاجهاض، وتوسيع حقوق الاميركيين الاصليين.
بالاضافة لالغاء عمليات الترحيل القسري، واجراء اصلاح شامل لقوانين الهجرة لتشمل فتح طريق التجنيس لما لا يقل عن 11 مليون من المهاجرين غير الشرعيين الموجودين حاليا في اميركا. واصلاح قوانين الاحكام الجنائية والغاء عقوبة الاعدام والغاء السجون ومراكز الاحتجاز التي تديرها شركات خاصة ربحية، واغلاق معتقل غوانتانامو، وسن قوانين تحد من حصول الافراد على السلاح، واغلاق منافذ في القوانين تسمح لتهرب الاحتكارات الكبرى من دفع الضرائب، وخاصة تهريب اموالهم لملاذات خارجية . واصلاح قوانين الحملات الانتخابية بالتضييق على تمويلها من قبل الاغنياء الذي مكن من تواطئ رجال السياسة مع عالم المال، فقد ردد ساندرز في خطاباته ان 1% من الاميركيين الاكثر ثراء افسدوا الديمقراطية الاميركية بضخ اموالهم في الحملات الانتخابية.
ومواجهة ازمة التغيير المناخي العالمي بمزيد من الاجراءات بالاعتماد على ما يوفره استيفاء الضرائب الواجبة على الاستثمارات الكبرى، بالاضافة لضريبة على الكربون. وسياسة خارجية تعلي اهمية للدبلوماسية على الحرب، وانهاء الصراع التاريخي في الشرق الاوسط بمساندة حل تفاوضي لدولتين، فلسطين واسرائيل.
ما اظهرته الحملة من التفاف حول هذا البرنامج ان قطاعات واسعة من الشعب الاميركي تدعم اجندة تقدمية جريئة تناضل من اجل عدالة اجتماعية واقتصادية وعرقية وجنائية وبيئية، للوصول لحكومة تعمل من اجل جميع مواطنيها وليس فقط لصالح ممولي حملات مرشحين معتمدين عليهم للنجاح. فساندرز لم يعتبر ان الحملة الانتخابية هي من اجل فوزه بالرئاسة، ولكنه اعتبرها حملة لدفع الملايين لاستعادة بلدهم من طبقة الميلياردرية. لذلك فان انتهاء الحملة بفشل ساندرز بالفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لا يعني بالنسبة له ان “الحركة” انتهت. الحركة التي اطلق عليها اسم “ثورة” او “تغيير تاريخي” لاستعادة البلد من الاغنياء المهيمنين على مقدراتها، برأيه لم تنته بعد بل بدأت فقط.
سيتوجه ساندرز لمؤتمر الحزب الديمقراطي الذي سيعقد في فيلاديلفيا اواخر تموز حاملا برنامجه مدعوما من حوالي 1900 مندوب للمؤتمر، وصدى حملة من ملايين الناخبين صوتت لبرنامجه، ضاغطا باتجاه تبني المؤتمر للكثير من بنوده كبرنامج للمرشحة هيلاري كلنتون في حملتها الرئاسية القادمة، التي اعلن ساندرز انه يدعمها ضد مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، باعتبار ان نجاح الاخير سيؤخر ويعيق الحركة التي يأمل ساندرز استمرارها لتحقق اهدافها. نجاح كلنتون بالنسبة له سيمكن من تحقيق افضل لهذه الاهداف.
لن يقبل ساندرز في مؤتمر الحزب باقل من تحول تاريخي كبير في الحزب، يسمع فيه بشكل واضح صوت الشباب وذوي الدخل المحدود للتأثير في سياسات الحزب، وكسر احتكار النخب السياسية والاقتصادية التقليدية. المرشحة كلنتون وافقت على تبني خطة التعليم الجامعي المجاني للعائلات العاملة، كما قبلت توسيع الرعاية الصحية التي تغطيها الدولة. لكن ساندرز لن يقبل باقل من التبني الكامل لبرنامجه وهو ان حصل فسيكون اكبر تغيير في تاريخ الحزب الديمقراطي والبلاد كتوجه نحو اليسار، بحيث يكون المؤتمر الاكثر تقدما في تاريخ الحزب، لكن التوقعات لا ترجح ذلك لما عرف عن نفوذ اليمين داخل قيادات الحزب.
فشل ساندرز في التأثير على المؤتمر لا يعني نهاية حركته، سيأخذها مرة اخرى للقاعدة الشعبية التي دعمته في حملته الانتخابية، وهو يعد منذ الآن باطلاق منظمات سياسية وثقافية تتبنى العمل من اجل البرنامج الكامل، كما انه سيدعم مرشحين لشغل مواقع مسؤولة في المستويات الفيدرالية والولائية والمنطقية، من اعضاء كونغرس الى مدراء مدارس ممن يتبنون البرنامج، من ديمقراطيين وتقدميين وليبراليين مستقلين او منتمين لاحزاب، بحيث يستعاض عن الحزب الديمقراطي الذي قصر في تبني البرنامج، بحركة مستمرة لا يستبعد ان تتحول لحزب جديد فيما لو تمكنت من تثبيت وجودها في مفاصل المؤسسات السياسية الاميركية، واستمرت في تأطير القاعدة الشعبية التي خاضت الحملة.
اذا نجح ساندرز في اطلاق حركته فستكون حركة تقدمية ديمقراطية اجتماعية ليبرالية الاوسع في تاريخ اميركا. ساندرز يؤلف حاليا كتابا بعنوان “ثورتنا، المستقبل الذي يمكن الايمان به”، لمزيد من ايضاح برنامج حملته الانتخابية التي هي على ابواب التحول لحركة سياسية تدخل تغييرا جوهريا في السياسة الاميركية.
فهل ينجح في حركته المتممة لحملته؟
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا