مقابل “الفتن” و”الحروب الأهلية” التي تهدّد باجتياح “منطقتنا العربية”، ينتهي هذا البيان الصادر عن مثقفين سعوديين إلى ضرورة “الإصلاح الشامل” و”إقامة المؤسسات الدستورية الحديثة المبنية على قواعد المشاركة والحرية والتعددية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين حتى يمكن اعلاء قيمة المواطنة على كل القيم الفئوية الضيقة وتغليب لغة العقل والوسطية والتسامح..”. وهذا كله ممتاز.
لكن المشكلة هي أن هذه النتيجة الممتازة تستند إلى مقدّمات كلها خاطئة ومضلِّلة (بكسر اللام الأولى). “حتى إشعار آخر” على الأقل..
فالبيان لا يعطي أي دليل مقنع على أن “قوى الهيمنة” و”الكيان الصهيوني” و”مشروع الشرق الأوسط الجديد” هي المسؤولة عن “حالة الإستقطاب والإصطفاف الطائفي والشحن المذهبي..” إلخ. بكلام آخر، ما هي مصلحة أميركا (مصلحتها الإقتصادية والسياسية والثقافية..) وإسرائيل في تفّتت الشرق الأوسط إلى منطقة حروب طائفية وأهلية؟ هذه نقطة بحاجة لإثبات، وإلا فإنها تدخل في باب أن أميركا وإسرائيل هي “الشرّ المطلق”، وبناءً عليه يمكن أن “ننسب إليها” كل ما لا يعجبنا في أنفسنا. أي أنها نوع من “إبليس”، أو “شيطان” بالتعبير الإيراني. إستطراداً، الله هو مبدأ “الخير”، إذا لا بد من “إبليس” ليكون مسؤولاً عن وجود “الشر” في هذا العالم!
من جهة أخرى، هل ينسى موقّعو البيان أن “المقاومة الباسلة” هي مشروع شيعي، أي مشروع “طائفي”، وأن هذه “المقاومة الباسلة” ضد “الحرية والتعددية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين” لأنها تتبنّى “إيديولوجيّة ولاية الفقيه” الشيعي (الإيراني) تحديداً.
بالمقابل، ينسى الموقّعون أن الإيديولوجية المقابلة هي إيديولوجية دينية “سنّية” ترفض إعتبار “الشيعة” و”المسيحيين” و”اليهود”، ناهيك بـ”الملحدين” أعضاء مساوين للآخرين، أي “مواطنين” (بعض مشايخ السعودية “يستحلّون” إستئصالهم..). وينسى الموقّعون أن أسلوب المواجهة الذي اعتمدته السعودية وغيرها هو أسلوب التعبئة “السنّية” والتحريض ضد “التشيّع”. (أليس التنديد بـ”التشيّع”، بحد ذاته، إعتراضاً على مبدأ “الحرية” الذي ينتهي إليه الـ150 في بيانهم؟ لماذا لا يحق لـ”الشيعة” دعوة الناس إلى مذهبهم؟ وكذلك “السنّة”، والآخرون…؟)
ألم يكن أكثر “منطقية” أن ينطلق المثقفون السعوديون من فكرة أن ما أثبتته أحداث العراق وأزمة لبنان، وأزمة اليمن (في اليمن أيضا، تحوّل قضية الحوثيين إلى قضية طائفية بامتياز) هو أن الإيديولوجية الدينية (أي “الإسلام هو الحل” على طريقة “الإخوان”، و”الدولة الإسلامية” على الطريقة الإيرانية) هي أفضل “وصفة” للصراع الطائفي المدمّر في مجتمعات “تتميّز” بتنوّعها الديني؟ أي أن “العلمانية” بمفهومها الأدنى (“لا فضل لسنّي على شيعي، على مسيحي، على بوذي، ولا فضل لرجل على إمرأة، لأن الجميع متساوون في الحقوق والواجبات..) هي المخرج الوحيد من هذه الصراعات المدمّرة؟ لماذا لا يقول المثقفون السعوديون بوضوح أن “المؤسسات الدستورية الحديثة المبنية على قواعد المشاركة والحرية والتعددية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين” وكذلك “قيمة المواطنة” هي قيم “علمانية” بامتياز، بل إنها “فكر مستورد”…!!
وإلا، أي إذا كانت “العلمانية” الغربية مرفوضة، كان على أصحاب البيان أن يدعوا بوضوح إلى “فقه سنّي جديد” و”فقه شيعي جديد” يعتمد مبادئ “المشاركة والحرية والتعدّدية والمساواة في الحقوق والواجبات” ويعتمد “قيمة المواطنة”!
عشرات الملايين من المواطنين العرب يبذون هذه الفتنة الطائفية، ولا تسمح لهم “إنسانيّتهم” بالتورّط فيها. المثقفون العرب (والمثقفون السعوديون، كذلك) مطالبون بأبعد من نبذ “الفتنة”. هذا يعني وضع اليد على أسباب الفتنة، وليس “تجهيل الفاعلين”.
إذا زالت أميركا وإسرائيل غداً، هل يضمن موقّعو البيان أننا سنعانق بعضنا بعضاً وسنتحوّل إلى مجتمع ” المشاركة والحرية والتعددية والمساواة في
الحقوق والواجبات”؟؟
في ما يلي نصّ البيان السعودي:
*
“لكي لا تكون فتنة”
تشهد منطقتنا العربية أوضاعاً مقلقة ومخاطر متعاظمة تنذر بها سياسة الفوضى الفتاكة التي تدفع بها قوى الهيمنة معتمدة في ذلك على إيقاظ الفتن وإشعال نيران الحروب الأهلية بهدف تفتيت المجتمعات العربية وتفكيك نسيجها الاجتماعي وتحويلها إلى كيانات هشة يتم إعادة تشكيلها على أسس طائفية ومذهبية وعرقية ترتبط وظيفياً بالمشروع الصهيو أمريكي الذي يعد مشروع الشرق الأوسط الجديد أحدث تجلياته.
ان حالة الاستقطاب والأصطفاف الطائفي والشحن المذهبي التي تشهدها بعض الساحات العربية ما هي إلا تمهيد لتحويل المنطقة إلى ميدان صراع مفتوح تسعى إلى تسعيره قوى الهيمنة وأدواتها بوتيرة تتصاعد كلما تعثرت مشاريعها التدميرية بفعل ما تجابه به من مقاومة باسلة، وذلك بهدف اشغال المجتمعات العربية بالصراعات الداخلية والنزاعات الإقليمية وتحويل أنظارها عن الخطر الأساسي المتمثل بالاحتلال وتداعياته. وما يحدث في الساحات العراقية واللبنانية والفلسطينية وغيرها ليس إلا تجسيداً لتلك الممارسات والنوايا الشريرة. إن التحالف الصهيو أمريكي وأدواته هم المستفيدون الوحيدون من تفجير الصراعات الدموية وإشعال الحروب الأهلية والإقليمية التي لن تجلب سوى المزيد من الكوارث لشعوب المنطقة والمزيد من التعطيل لطموحات أبنائها في التنمية والتقدم والإصلاح.
وعليه فإن التباينات بين القوى السياسية والاجتماعية في كل مجتمع والنزاعات بين الدول الشقيقة والصديقة يجب أن تظل محصورة في إطارها الطبيعي وأن تعالج وفقاً لمقتضيات العيش المشترك والسلم الأهلي وحسن الجوار ومتطلبات المصالح الوطنية بعيداً عن التوظيف والشحن والتحريض الطائفي الذي يهدد أمن واستقرار المنطقة وشعوبها.
ومن هذا المنطلق فإننا نناشد القيادات والنخب السياسية والفعاليات الدينية والثقافية والاجتماعية لتحمل مسئولياتها والوقوف في وجه هذه المخططات والتصدي لها وفضحها والتحذير من الوقوع في شركها وتغليب المصالح الوطنية على ما عداها. ذلك أن الانزلاق إلى هاوية التعامل مع ما يجري من أحداث بمفاهيم فئوية لا يخدم إلا مصلحة أعداء الأمة وعلى رأسهم الكيان الصهيوني. إننا نؤكد أنه لا سبيل إلى تحصين مجتمعاتنا في وجه محاولات الاختراق والتفتيت والتأجيج المفتعل للنعرات الطائفية والإقليمية والعشائرية، إلا في تسريع مسيرة الإصلاح الشامل بكافة أطره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإقامة المؤسسات الدستورية الحديثة المبنية على قواعد المشاركة والحرية والتعددية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين حتى يمكن اعلاء قيمة المواطنة على كل القيم الفئوية الضيقة وتغليب لغة العقل والوسطية والتسامح على لغة الغرائز والعصبيات والتطرف.
حفظ الله مجتمعاتنا وأوطاننا من كل سوء.