عرفت تونس رئيسين منذ استقلالها. وحكم مصر 3 رؤساء “مدى الحياة” منذ ثورة 1952 وخضعت سوريا لرئيسين (الأب مدى الحياة، والإبن أيضا..) منذ العام 1970. وخضع العراق لحاكم واحد بين 1970 و2003. المغرب، أيضاً، عرف ملكين منذ الإستقلال، ولكنه نظام ملكي والسلطة فيه انتقلت بصورة طبيعية. والقائمة طويلة..
****
“جميعنا صدّقنا أن بن علي هو المنقذ. في 7 نوفمبر 1987، قلت لنفسي: “أيا كان النظام القادم، فسوف نتنفّس”! كان صبرنا قد نفد من 30 سنة من البورقيبية. وكان وصول بن علي إلى السلطة بمثابة أمل كبير”. ثم أضاف: “لكن آمالنا سرعان ما خابت. وجاءت الوقائع مخالفة للتعهّدات. في البداية، أقنعنا أنفسنا بأن هنالك نزاعات داخل السلطة. ثم جاءت إعتقالات الإسلاميين، ثم قمع اليسار، وبعده قمع جميع الديمقراطيين. ولم يتوقّف القمع في يوم من الأيام…:.
هكذا بدأت مراسلة “لوموند”، فلورنس بوغيه، مقالها عن تونس لمناسبة ذكرى وصول زين العابدين بن علي إلى السلطة قبل عشرين عاماً.
تضيف المراسلة: أن كلام “لطفي” الوارد أعلاه، وهو صيدلي يعمل في قرية قريبة من “منتسير”، هو نفس ما يقوله الناس في كل أنحاء تونس في هذه الذكرى العشرين.. ففي يوم 1987، قام رئيس الحكومة آنذاك، زين العابدين بن علي، بإزاحة الرئيس بورقيبة، الذي كان قد أصيب بالخَرَف، بهدوء وبدون أن تُراق نقطة دم. وشعر شعب تونس، يومها، بالإمتنان للرئيس الجديد خصوصاً بعد أن وعد الناس بالديمقراطية وبعد أن أعلن أنه “لا يجوز أن يكون هنالك رئيس مدى الحياة”.
وبعد 20 سنة، يات الناس يتحدّثون بمرارة. وإذا كان التونسيون يعترفون، بدون حماسة، بأن البلاد تطوّرت وأن مستوى المعيشة ارتفع، فإنهم يعبّرون، بغالبيتهم، عن تذمّرهم وعن شعورهم بالإحباط. إن تونس اليوم هي بلد الأوهام الخائبة. ويصعب على السوّاح الذين يتمتعون بشمس البلاد، والمنعزلين عن أهل تونس، أن يتخيّلوا مدى خيبة الآمال.
حقوق الإنسان؟ هنا، في الساحل، على بعد 250 كلم إلى الجنوب من العاصمة، لا أحد يكترث بالموضوع. ويقول أحد أهل المنطقة: “هذا ترف بالنسبة لنا”. فهمّ الناس الرئيس ليس سلطة الرئيس بن علي الإستبدادية، بل وضعهم الإقتصادي والإجتماعي. ويقول “صلاح”، وهو مدرّس وأب لثلاثة أطفال يغرق تحت وطأة الديون مثل معظم التونسيين: “المعجزة التونسية؟ ينبغي، بالأحرى، أن نتحدث عن البطالة. المعطيات الإقتصادية الشاملة قد تكون حسنة، ولكن حياتنا اليومية تتدهور أكثر فأكثر”.
ويقول البروفسور حسين ديماسي، أستاذ الإقتصاد في جامعة “سوسه”، أن “المشكلة الأساسية في تونس ليست خلق الثروات، بل توزيعها”. ويضيف أنه إذا كان التونسيين ناقمين فذلك لأنهم يشعرون بأن “حقوقهم مهدورة بصورة عامة”، وذلك مع أن وضعهم الموضوعي قد لا يكون كارثياً.
في تونس، أكثر من سواها من بلدان المغرب العربي، فإن المجتمع يعاني من وباء “حملة الدبلوم العاطلين عن العمل”. وهذا الوضع هو سبب أعمال الشغب التي وقعت في أنحاء مختلفة، مثل “بيزرت” قبل أشهر حينما قام شبّان ناقمون بإحراق سيارات ونهب كل ما وقع تحت أيديهم بعد انتهاء مباراة كرة قدم. وفي كل عائلة، يوجد خرّيج واحد على الأقل من العاطلين عن العمل. وبالنسبة للأهل، الذين قدّموا تضحيات كبيرة لدفع أقساط دراسة أبنائهم، فإن هذا الوضع لا يُطاق، ونقمتهم على السلطة بلا حدود. ويقول البروفسور ديماسي أنه في كل سنة يتخرّج 60 ألف من الطلاب، أي ضعف قدرة الإقتصاد التونسي على الإستيعاب. وهو يتّهم السلطات باستخدام النظام التعليمي كـ”أداة للحكم الديماغوجي” منذ 20 سنة، وبتوزيع شهادات جامعية على “طلاب شبه أمّيين”.
هاجس معظم الشبّان، بتشجيع من أهلهم، هو مغادرة البلاد بحثاً عن عمل، حتى لو كانت النتيجة وظيفة غير ثابتة ومتدنية الأجر. وإذا كانت حالة “نجيب” تخرج عن المألوف، فإنها تكشف مدى يأس البعض. فمنذ سنة 2000، حاول هذا الشاب العاطل عن العمل مغادرة تونس إلى إيطاليا 4 مرات، بواسطة قوارب صغيرة. وفي المرّات الثلاث الأولى، دفع لمهرّب، ثم بات هو نفسه المهرّب في المرة الرابعة. وأخفق في المرات الأربع بسبب يقظة حرس السواحل الإيطاليين.
ويقول نجيب، الذي يتحدث بحنق: “أريد أن أعيش في أوروبا، وسأنجح في ذلك. في تونس، ليس للإنسان قيمة. نحن عبيد حديثون”. هل يعي أنه يعرّض نفسه للموت في كل محاولة؟ “هنا، نحن أموات في كل حال!”. مضيفاً أنه، ورفاقه، يؤمنون بأن “كل واحد يعمل لمصلحته”.
ويشعر كثير من التونسيين بالقلق أزاء هذا الإبتعاد عن النضال الجماعي. وتروي “حميدة دريدي”، وهي طبيبة تعمل في “منتسير” وتنشط في حركات الدفاع عن الحريات أن أحد أبنائها يقول لها: “لديك عمل وراتب. ممّ تتذمرين، إذاً؟ أنا لا أتعاطى السياسة لأن ثمن التعاطي بالسياسة مرتفع. ولا يهمني ما يحصل”!
ويطال هذا الإبتعاد عن السياسة معظم الناس. مع ذلك، تتكاثر حالات المقاومة السلمية، حتى في أبعد أنحاء تونس. مثل أستاذ الفلسفة أو أستاذ اللغة العربية الذي يبدأ دروسه بمناقشة طلابه وبدعوتهم إلى التفكير. ويوقل أحد طلاب الصف النهائي في الثانوية: “في مدرستي، هنالك ثلاثة أساتذة مثله. وهم لا يتردّدون في اعتبار أن الإنتخابات في تونس هي مهزلة”.
في “قصيبات” المعروفة بنفسية أهلها المتمردة، يناضل “رفيق” و”عبد الرحمن”، وهما مدرّسان، مع المزارع “محمد”، في إطار جمعية “أصدقاء الكتاب والحرية”، ويطالبون برفع الحظر المفروض منذ أكثر من سنتين على نشاط “الرابطة التونسية لحقوق الإنسان”.
مع أن الخوف يتراجع بقدر ما تتزايد النقمة، فإن الحذر يظل القاعدة. فالناس يخشون جيرانهم، ويخافون العدد الكبير من مخبري السلطة. ويتحدث الناس بسخرية متزايدة عن العشيرة الحاكمة- وخصوصاً عن عائلة “طرابلسي، التي تنتمي إليها زوجة الرئيس، والتي يتّهمونها بنهب البلاد. ولكن معظم التونسيين يشعرون بالعجز: “لقد سأمنا! ولكن، ماذا بوسعنا أن نفعل؟”
“بن علي إلى الأبد”. هذا الشعار ليس من نسج الخيال. فقد رفعت مؤسسة عامة يافطة تحمل هذا الشعار بمبادرة من حزب “التجمع من أجل الدستور والديمقراطية” الحاكم. وفي كل يوم، تكتب الصحف الحكومية عن “الصورة البرّاقة لتونس، وهي ثمرة فكر بن علي المتنوّر”. لكن أحداً لا يصدّق هذه الدعايات، بما فيهم الذين “يتوسّلون” لبن علي لكي يقبل بتولّي الرئاسة مجدّداً بعد 2009.
اليوم، كما بالأمس، فهنالك من يعجبهم الوضع القائم في تونس. ولكن عدد هؤلاء بات نادراً. ويشعر البعض الآخر باليأس. ويعتقد سواهم أن من العبث الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة، وأن من الأفضل محاولة تغيير الأمور من الداخل. ويقول هؤلاء أن الرئيس بن علي لا يستطيع أن يتمسّك بالأمر الواقع إلى الأبد. وأنه سيكون مضطرّاً لإرخاء الحبل، آجلاً أم عاجلاً، لكي تتقدم البلاد. لكن، ألا تكمن قوة النظام، في نهاية المطاف، في قدرته المدهشة على إثارة الأوهام؟ ففي كل 7 نوفمبر، يشعر التونسيون بالأمل مجدداً، ويحلمون مجدداً: بأنه سيتم الإعلان عن إنفتاح ديمقراطي، وعن عفو عام، وعن معجزة… وما زالون ينتظرون منذ 20 عاماً.
ظل بورقيبة
في مقال منفصل، تتحدث مراسلة “لوموند” عن الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي توفّي في 6 أبريل عن عام ناهز 96 سنة. وتقول المراسلة أنه “طوال سنوات، كانت السلطة تشعر بالإستياء ممن يذكرون إسم بورقيبة وإنجازاته. أما اليوم، فالناس باتوا يتحدّثون بحرّية عن الرجل الذي دفع تونس نحو الحداثة وأعطاها هالة دولية.
“ولم ينس التونسيون أنه، منذ العام 1957، أعطى بورقيبة للمرأة حق الإقتراع والترشيح، وأبطل الخلف وتعدد الزوجات. وما تزال التونسيات اليوم تتمتّعن بوضع لا يضاهيه أي وضع في العالم العربي، حيث أن الرئيس بن علي تابع سياسة سلفه في هذا المجال. وإذا كان الشبّان لا يكترثون لذكرى بورقيبة، فالأكبر سنّاً يتحدثون عنه بإعجاب مبالغ. ويقول البروفسور حسين ديماسي: “سنوات حكم بورقيبة الأخيرة كانت مؤلمة ومثيرة للقلق. فالرجل كان فقد الكثير من رصيده. أما اليوم، فقد تحوّل إلى شخصية أسطورية، لأن الناس يشعرون بخيبة أمل من السلطة الحالية”.
ويتردّد إسم بورقيبة في كثير من الأحاديث. وينسى الناس إستبداديته وتخبّط سياساته في سنواته الأخيرة ليركّزوا على “صفته الأهم”، وهي أنه “غادر السلطة بدون أن يملأ جيوبه”. ويعني ذلك أنه “لا يسعنا أن نقول الشيء ذاتع عن عائلة بن علي”، التي يتّهمها البعض بأنها “تتسلّل وتقتنص وتفرض نفسها” حيثما يكون هنالك مجال للكسب في تونس.
إن قلة من التونسيين تصل إلى حد القول بأن “عهد بورقيبة كان أفضل”. فالتونسيون يقولون، بالأحرى: “لو كان هو اليوم في السلطة، فسيكون الوضع أفضل”.
مقال “لوموند” بالفرنسية: