قدمت لنا حلقات ا لأستاذ محمد حسنين هيكل بفضائية الجزيرة قطعة حية تنبض بإحدى أهم فترات التاريخ المصرى – والعربى – المعاصر ، فترة قيام الضباط الأحرار بـ “ الحركة المباركة “ كما سميت والتى عرفت فيما بعد بثورة يوليو أو الثورة المصرية ، ولا شك أن فضائية “ الجزيرة “ قد أحرزت بهذا التسجيل المثير غير المسبوق لأدق أسرار الثورة المصرية من واقع وثائق وجرائد تنطق بما حدث ومعاينات لشخصيات رحل بعضها وما زال بعضها حياً يرزق قد احرزت سبقاً إعلامياً وتاريخياً هائلاً بعد أكثر من نصف قرن من أحداث يوليو المثيرة.
إننى كمثقف مصرى عربى الثقافة والتاريخ كنت أجد نفسى أجلس مسمراً مشدوداً كل أسبوع لأتابع أستاذنا هيكل يزيل أمام أعيننا الستائر ويحلل الأحداث ويقدم وثائق الوقائع فإذا بالتاريخ ينفض عن جسده غبار السنوات وينتفض قائماً ليسير ويتحرك ويتكلم ويتألم ويبكى ويندهش وينفعل أمامنا كأنه يحدث فى التو واللحظة . وذلك بفضل الأسلوب التلقائى الحميم الذى اتبعه هيكل فى تقديم الحدث والذى وظف فيه ثلاثة مصادر أساسية ، هى الجرائد اليومية الرئيسية التى كانت تصدر فى مصر وقتها وهى الأهرام والأخبار والمصرى ، ثم الوثائق الرسمية البريطانية والأمريكية والمصرية سواء كانت برقيات أو مراسلات أو وقائع جلسات أو أوراق رسمية أو مذكرات .
ثم يمنح هذا كله حيوية إنسانية حميمة حين يضخ فيها وحولها مشاهداته وذكرياته وتجربته الشخصية فى معايشته لهذه الأحداث فى وقتها ساعة بساعة بل دقيقة بدقيقة .
رغم رحيل أغلبية الضباط الأحرار والقادة الذين اشتركوا مع عبد الناصر بشكل أو بآخر فى تلك التجربة الهائلة التى أحدثت فى المنطقة العربية وفى العالمين الأفريقى والأسيوى وما بعدهما من مناطق فى أوروبا وأمريكا اللاتينية تغييرات حاسمة وسريعة لصالح التحرر من الاستعمار القديم، فان أحد أهم رموز فكر هذه الثورة مازال بيننا يملأ الدنيا ويشغل الناس ويمنح عطاء فكريا مميزا لا يضاهيه عطاء على الساحة العربية فى الوقت الحاضر، وذلك هو الاستاذ محمد حسنين هيكل.
ومن اللافت انه كان بإمكانى على الأغلب أن أتوقف عند كلمة الاستاذ دون ان أكمل قائلا محمد حسنين هيكل- اذ أصبح لقب الأستاذ حاليا فى مصر، ورغم وجود الالاف من أساتذة الجامعات وخلافه، أصبح لا يعنى به سوى محمد حسنين هيكل وحده، وهذا الاسلوب فى اطلاق صفة تلخص شخصية الفرد فى كلمة واحدة ربما ابتكره المصريون بحسهم التاريخى المرهف وقدرتهم الفائقة على التعبير – بالعامية – عن مكنونات وظواهر سياسية واجتماعية وفلسفية كبرى، ومثل هذا ما فعلوه بإطلاقهم كلمة الست على أم كلثوم وحدها، واستخدامهم كلمة الريس وحدها لتعنى قائد الثورة عبد الناصر، ثم من تلاه من رؤساء ولكن ليس رئيس الوزراء مثلا. وهكذا فباستخدام الوسط الثقافى والصحافى فى مصر حاليا للقب الاستاذ باعتباره يخص محمد حسنين هيكل وحده هو بلا شك اعتراف جميل ومرهف بمكانة هذا الرجل الرمز، وقامته الباسقة على أرض مصر.
من المجدى الاقتراب أكثر من هذا الرجل الذى كان بلا شك أحد أهم روافد فكر الثورة، وأحد أهم المؤثرين، والمشاركين فى بلورة ذلك الفكر، ليس فقط عن طريق كتاباته التى واكبت أهم أحداث التجربة الثورية الناصرية، ولكن ايضا عن طريق علاقته المميزة بجمال عبد الناصر، على المستويين الفكرى والشخصى معا، بما يمكن أن نقول معه ان أكثر الناس اقترابا من فكر عبد الناصر على الاطلاق هو محمد حسنين هيكل، وان علاقة “الريس” ب “الاستاذ” هى علاقة لا مثيل لها ليس فقط فى البلاد العربية، بل لا أعرف مثيلا لها فى أى مكان آخر، وهى بالتحديد العلاقة الفكرية والشخصية الخاصة جدا بين قائد ثورة أحدثت تداعيات عالمية هائلة، وبين مثقف ومفكر وصحفى ارتفع ليكون هو المحاور الخاص، أو المرآة الفكرية الخاصة، التى يمكن لهذا القائد ان يفتح لها عقله وقلبه ليرى نفسه فيها بشكل أعمق أو ليتعرف من خلال التواصل هذا على جوانب خافية من مكنون فكره وذاته.
والذين يحسدون حسنين هيكل من أجل “الظروف” أو “المصادفة” التى وضعته فى طريق عبد الناصر لكى يصبح محاوره الفكرى يظلمون الرجل ويبخسون الموهبة حقها، فطريق عبد الناصر كان مليئاً بآخرين لم يتمكن أى منهم احتلال مكانة تقترب ولو من بعيد من مكانة هيكل.. والذين يمنحون عبد الناصر فضل “صنع” هيكل كمنظر للثورة المصرية وفيلسوف للناصرية ليس عليهم سوى النظر فى مكانة هيكل الآن – ان مكانة الرجل لم تنقص بل ازدادت بعد رحيل عبد الناصر. بل ازدادت اكثر بعد خروج هيكل نفسه من موقعه السياسى بالقرب من السادات والذى مكنه عندها من ان يكون هو كاتب القرار الجمهورى باعلان بدء العمليات فى حرب العبور الباهرة. وكذلك استمرت فى الزيادة بعد اقصاء هيكل عن موقعه وبيته الصحافى فى دار الاهرام التى انتقل بها من الموت الى الحياة بعد تولي رئاسة تحريرها حين استقطب كبار كتاب ومفكرى مصر وقتها اليها ومنحهم ما يليق بهم من مساحة على صفحاتها ومكاتب فى اروقة مبناها الحديث ومن هؤلاء توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وصلاح جاهين وغيرهم.
اذن هو هيكل الرجل والعقل والموهبة الذى صنع من هيكل من هو، ولذلك وجد فيه عبد الناصر بذكائه الفطرى مفكرا ومحللا يستفاد من فكره ويمكن الاعتماد على شعلة موهبته.
اما الذين ينظرون بشك وريبة، بل واتهام، الى كل علاقة بين مثقف بارز وبين القائد السياسى، على أساس أنها لابد أن تتضمن قدرا من “بيع النفس” وتضحية من المثقف بالمبادئ ارضاء للحاكم لضمان الاستمرار فى التمتع بموقع القرب المميز منه، فما على هؤلاء سوى النظر الى ما حدث بعد عبد الناصر، من علاقة بين هيكل والسادات، فلو كان هيكل ممن يريدون الاقتراب من القائد السياسى الأعلى بأى ثمن، لما كان أسهل عليه اجراء بعض التعديلات على مواقفه الفكرية واتجاهاته الأساسية لكى تواكب مواقف السادات، وبالتالى كان يمكنه البقاء فى مواقع النفوذ العليا بمصر.. لكن اختلاف الرجل مع السادات بعد ذلك على أثر حرب 1973 وقرار السادات الانفراد بالحل السلمى مع اسرائيل، وما دفعه هيكل من ثمن مقابل هذا الاختلاف، من سقوطه من أعلى مواقع التأثير والنفوذ لينتهى مع كوكبة كبيرة من رموز مصر الفكرية والسياسية والدينية وقتها فى غياهب سجن طرة، ولا شك ان هذه كلها تكشف لنا عن معدن مختلف فى هذا المفكر البارز الذى اختار أن يعمل بتعاليم أفلاطون “ينبغى لنا ان نحترم الحقيقة أكثر من الرجال” ولذلك اختلف فى أدب وتعقل وليس فى تهور وصراخ، مع الرئيس السادات، مضحيا بذلك بكل أضواء المركز والنفوذ والسلطة.
و يكفى تأكيدا لتفرد هيكل وتميزه عن بقية الكتاب والصحفيين العرب النظر الى مكانة الرجل عالميا ككاتب تتلهف على نشر آرائه دور النشر فى أوروبا، بل وفى اليابان، وهو على حسب علمى ما لم يحدث لكاتب عربى آخر، وايضا كمفكر سياسى يحرص عدد كبير من ساسة العالم ومفكريه فى الغرب على استمرار التواصل معه والالتقاء به، رغم ابتعاد هيكل عن مواقع النفوذ الرسمية فى مصر من أكثر من ثلث قرن، وهو تأكيد على أن الرجل لم يكتسب أهميته ونفوذه من منصب سياسى منح له، ولكن من فكره وموهبته وقدراته وحدها، استمرار نفوذه الفكرى الكبير رغم تجريده من المناصب الرسمية بل ومن القاعدة الصحفية التى يمكن له ان يستند إليها ليكتب وينشر، ولو كان محمد حسنين هيكل صحفيا وكاتبا غربيا وله مثل هذا النفوذ والمكانة لكانت مقالاته قد ظهرت فى عدة مئات من الصحف فى نفس الوقت، حسب نظام الكاتب *السيندكيت* المتعاقد مع مجموعات نشر متعددة تنشر له نفس المقال فى نفس الوقت
فاذا لم يكن عبد الناصر، ولا الثورة، ولا الظروف، ولا الموقع، هى أسباب تميز ونفوذ هذا الرجل الفذ، وانما كان هذا كله نتيجة عقل وموهبة الرجل، فما هى أهم ملامح ومقومات هذا العقل الذى مكنته من اكتساب هذا كله، ليس هنا مجال بحث طويل فى هذا المجال ولكن هدفى هو القاء الضوء على المميزات العقلية فى أسلوب التفكير “الهيكلى” نسبة لهيكل التى جعلت آراءه هذه ذات أهمية ونفوذ لا تضاهيها آراء اقرانه المعاصرين. و من هذا عدد من الخصائص التى ينفرد بها هيكل عن بقية الكتاب والمحللين والصحافيين والسياسيين العرب بحيث يمكن أن نقول أنه نسيج وحده لا يشبه ولا يشبهه صحافى أو مثقف عربى أخر فى نصف الفرن الأخيرة.. هذه الخصائص هى :
-ذاكرة فوتوجرافية
لا شك أن قدرة الأستاذ هيكل على تذكر الأحداث بتفاصيلها الدقيقة بالتاريخ والساعة والموقع هى قدرة مدهشة حقاً
-يقول لنا مثلاً أنه وصل إلى منزل اللواء محمد نجيب فى الساعة كذا مساء يوم كذا ، ثم يستدرك مباشرة قائلاً .. لأ الساعة كانت كذا إلا عشر دقائق !! أو فى إدراكه للإحداث التى لم يعايشها عن طريق الاستفسار عنها من شخصيات يقابلها بعد ذلك وكانت معايشة لها . والمثال المدهش لذلك هو ما رواه ً من أنه عندما قابل زعيم الوفد فؤاد سراج الدين باشا فى السجن حينما سجنهما السادات مع حوالى خمسمائة من الكتاب ورجال السياسة ورجال الدين قبل شهر واحد من اغتياله استفسر عن إحداث بدت غامضة له قبل وبعد قيام ثورة يوليو مباشرة .. أى قبل حوالى ثلاثين عاماً من وقت المقابلة فى السجن. فالرجل إذن هو موسوعة معلومات تاريخية سياسية وثقافية متنقلة ودائمة التجدد تبحث فى كل لحظة عما تستكمل به ما نقص من معلومات وتفسيرات فى صفحاتها الهائلة الضخامة.
وهو يتذكر ماذا كان يرتدى اللواء محمد نجيب عندما زاره هيكل فى بيته ليلة الثورة ، وماذا قال له ، ومن كلمه تليفونياً وكم مرة ، ثم نوع السيارة التى استقلها محمد نجيب متحركاً نحو مكان لقاء الضباط الأحرار . وفى أى شارع كان اللقاء فى محطة بنزين هى الآن الموقع الفلانى ، وهذه كلها أحداث وقعت منذ أكثر من نصف قرن ! هذه القدرة الفائقة على اختزان التفاصيل عن الشخصيات والأماكن ودقائق حدوثها تمنح شهادته مصداقية كبيرة وتمنحنا نحن فرصة نادرة لمشاهدة الحدث عن قرب شديد وبصورة مجسمة أقرب ما تكون من المعايشة الحقيقية له.
– غريزة صحافية
يملك الأستاذ هيكل غريزة صحافية مرهفة فهو شديد الفضول ليس لمعرفة ما يحدث فقط ولكن الأهم معرفة لماذا يحدث فتفسير الأحداث هو همه الدائم وهاجسه الوجودى الأساسى ، وتمكنه غريزته الصحافية المرهفة هذه من اشتمام الأحداث قبل وقوعها والتحرك للتواجد فى الأماكن التى ستقع بها. فتدفعه غريزته الصحافية ألى زيارة محمد نجيب فى بيته ليلة تحرك الضباط الأحرار فى الساعة التى كان فيها نجيب ينتظر أن يبلغه الضباط بأنه قد تم لهم الاستيلاء على مركز قيادة الجيش لكى يذهب إليهم ، وهكذا نجد هذا الصحافى الشاب يتواجد فى اللحظة والمكان الذى يتواجد به من سيصبح بعد يوم أو أكثر بقليل القائد المعلن للحركة المباركة، ثم يصبح أول رئيس لجمهورية مصر فى التاريخ.
– ثقافة موسوعية
قليل هم الكتاب الذين يتحدثون إليك فى السياسة بنفس المقدرة والحماس والحساسية التى يتحدثون بها فى الثقافة ، وفى التاريخ وفى الجغرافيا وفى الشعر والأدب والرواية والمسرح ، وقليلون من يمكنهم التنقل بين هذه كلها بخفة ورشاقة كما يفعل هيكل ، الذى يفاجئنا فى وسط حديثه السياسى بأبيات من الشعر العربى يحفظها عن ظهر قلب ، أو بوصف لمسرحية لبرنارد شو ، أو بكلمة مأثورة قالها تشرشل أو ديجول أو بمقال كتبه كاتب مصرى أو مفكر عربى ، أو بإشارة إلى رواية لنجيب محفوظ ، أو حوار مع توفيق الحكيم . وتقوم هذه الثقافة الموسوعية بتعميق فهم هيكل للحدث السياسى ولدوافعه الإنسانية وهو همه الأول.
رؤية استراتيجية
احدى أهم خصائص أسلوب التفكير لدى حسنين هيكل هو التفكير “السستماتيك” أى المنظومى أو المبنى على أساس نظام متكامل، وهو تفكير ينظر الى “الكل” كمدخل لفهم دور وموقع ومعنى “الجزء” ولا يرى للجزء معنى سوى فى موقعه داخل “الكل” أى داخل النظام المتكامل للأشياء، وهذا الأسلوب فى التفكير له بساطة خادعة، اذ انه أصعب منالا مما يتراءى للوهلة الأولى، ولا يمتلك ناصيته الفرد تلقائيا، اذ إن الفرد يميل الى الانشغال برؤية الشجرة التى أمام وجهه، فتعميه عن رؤية الغابة، كما ان الانشغال بالشجرة عن الغابة ينسجم مع طبيعة الانسان فى الشرق بشكل عام وفى البلاد العربية بشكل خاص، حيث ان العلاقة بالشجرة تظل علاقة فردية يمكن أن تكون حميمة، بينما تظل العلاقة مع الغابة علاقة ذهنية بحتة، تحتاج إلى مخيلة وقدرة تجريدية تتمثل النظام الشامل دون رؤيته بالضرورة، ويمكن القول بشكل عام ان العقل العربى يميل الى حميمية وفردية فكر الصدفة والمعجزة، الذى يقوم فيه الفرد بدور البطل أو المخلص أو المنقذ أو الزعيم أو الصديق الحميم أو رب العائلة أو شيخ القبيلة، الذى بيده التدخل لصنع الخير أو الشر لصالح الفرد أو ضده، ويمكن أن توصف هذه العقلية ايضا بالعقلية السحرية، وهى لا تستطيع أن تتخيل نظاما معقدا شاملا يحكم جزئيات الأشياء، ولا تحبذ هذا النظام لأنها تراه بارداً ميكانيكياً مجرداً من العاطفة وهى التى تريد الاحتماء فى دفء المشاعر المتبادلة مع الفرد الآخر.. ولذلك تفشل جميع أنظمة المرور فى كافة البلاد العربية، وكذا النظام بشكل عام.
أما حسنين هيكل فيتميز عن الشائع من المثقفين فى مصر والبلاد العربية بامتلاكه عقلية شمولية تنشغل بالنظام الكلى وتراه فى كل شيء حولها.. وتريد أن يكون لكل شيء نظامه المتكامل المنطقى، هذا النظام، أو “الهيكل” هو الذى يميز العقلية السحرية عن العقلية “الهيكلية”. ومن الطرافة انه يمكننا استخدام هذا التعبير “الهيكلية” استنادا الى هيكل كنظام وكاسم الكاتب فى هذه الحالة ايضا. ولذلك نجد هيكل يجادل فوزى ويوبخه على تصوره أن للمعلومة أهمية خاصة خارج منظومة السياق المحيط بها، ولذلك أيضا تقرأ كتابات هيكل فتجد أن كل حدث هو جزء من مجموعة متشابكة من الأحداث تشكل استراتيجية متكاملة لدى هذا الطرف أو ذاك، وهذه العقلية الهيكلية تعتمد كثيراً على توثيق الوقائع لكى يمكن الاستناد إليها كحقائق وليس كآراء، وهو فارق لا تعيه جيدا ولا تلتفت له العقلية السحرية.
وتقرأ هيكل فتجده ينظر نظرة شاملة الى العالم ككل متكامل، ليصل منه الى موقع مصر وموقع العرب، ويكاد هيكل أن يكون كل تفكيره تفكيراً استراتيجيا، ولا ينظر الى أى قرار أو حدث تكتيكى إلا فى اطاره الاستراتيجى، وكان هذا هو جوهر خلافه مع الرئيس السادات، فبينما ركز السادات فكره على مصر وحدها ظل هيكل ينظر الى مصر باعتبارها قلب الأمة العربية وظل ينظر الى الأمة العربية باعتبارها تمتلك قومية تمكنها من لعب دور هام فى ديناميكية الصراعات العالمية. وقد كان هذا هو أهم دور له كفيلسوف للثورة المصرية من قبل، اذ ساهم بهذا الفكر بدون شك فى بلورة مفهوم دول عدم الانحياز، وهى فكرة ثورية فى وقتها، كان العالم مستقطباً بشكل كامل بين المعسكرين الشرقى الاشتراكى والغربى الرأسمالى، حتى ظهر عبد الناصر ومعه تيتو يوغسلافيا ونهرو الهند منادين بعدم الانحياز، وهى فكرة استراتيجية بالغة الأهمية فى ذلك الوقت، وهى التى مكنت كافة الدول المستعمرة بفتح الميم الثانية من الحصول على حريتها، وقد كانت هنا بعض الاجتماعات فى تلك الفترة بين عبد الناصر وتيتو مثلا، أو عبد الناصر و الرئيس السوفيتى وقتها، لا يحضرها مع الرئيسين من مصر سوى وزير الخارجية المخضرم د. محمود فوزى ومحمد حسنين هيكل، ويوضح هذا بلا شك المدى الذى وصل إليه هيكل كفيلسوف ومنظر الثورة المصرية.
انه ذلك العقل بالغ الدقة والنظام والترتيب الذى يمنح كتابات هيكل تميزها وقيمتها.. فبينما ما يزال يغلب على ما ينشر بالعربية أسلوب التفكير السحرى الاعجازى الذى يعتمد الفرد أو الحادث باعتباره قائداً بذاته وراجعا لفاعله أو لصدفة أو لقوى غيبية خفية تحيك المؤامرات غير المفهومة لنا، يكتب هيكل بأسلوب أفضل العقليات الرصينة بين كتاب العالم حاليا. حيث الرؤية شاملة واستراتيجية والاسلوب علمى موضوعى يعتمد الوثائق والتحليل المنطقى.. ويفعل هذا فى النهاية بلغة عربية مميزة ومهيبة، لها جمال وبهاء فكرة النسق المتماسك كالمعمار الباهر الباسق.
– شخصية جذابة
تمنحنا أحاديث هيكل فرصة الاقتراب منه بشكل إنسانى حميم لأنه يتحدث بشكل مطول بتلقائية لابد أن تظهر من خلالها ملامح خصاله الشخصية ، وقد لفت نظرى فىهيكل شئ لا تجده بكثرة فىالمشاهير فى العالم العربى وهو أدبه الجمّ ، فالرجل الذى حقق مكانة فريدة بين الكتاب والصحافيين والسياسيين العرب هى بالتأكيد مكانة عالمية وعلى أعلى المستويات أى على مستوى المعرفة الشخصية والصداقة لعدد كبير من زعماء العالم فى المجالات السياسية والعسكرية والصحافية والفكرية ، هذا الرجل تجده لا يتحدث عن أشخاص آخرين إلا بأدب ولياقة واحترام يثير الدهشة حقاً فهو يذكر رئيسه فى العمل فى جريدة الإجيبشيان جازيت فى مطلع شبابه بالكثير من الاحترام وكأن الرجل ماثلاً أمامه ، وكأنه شخصياً لم يتجاوز بتاريخه وإنجازاته الشاهقة إنجازات ومكانة رئيسه هذا الذى لا يعرفه أحد اليوم. وتلاحظ أنه كثيراً ما يذكر اسماء الشخصيات المصرية التى يتحدث عنها بألقابها مثل باشا وبك ، أو الأستاذ ، وتلاحظ أن لديه حرجاً شديداً عندما يضطر إلى الحديث عن بعض الأحداث المشينة لأصحابها فتجده يكاد يعتذر لهم وعنهم ، هذا بينما تعج الفضائيات ببرامج يتحدث فيها من هم أقل موهبة ومكانة وإنجازات من هيكل بعشرات المرات بشكل ملئ بالاستهتار بالأخرين والتجريح لهم والبذاءة فى حقهم.
هذا الأدب الشخصى الجمّ ، بالإضافة إلى جاذبية إنسانية حميمة تنضح بها كلمات وملامح وأفكار هيكل وتشف عنها مشاعره المتجلية ، هى كلها مجتمعة ما منحت هذا الرجل تلك القدرة الفذة على مصادقة ومقابلة هذا العدد الهائل من زعماء وقادة العالم. فهؤلاء لا يجلسون مع أى إنسان. ولابد أنهم رأؤا فى هيكل شخصية محببة تعطى قدر ما تأخذ وتفيد بقدر ما تستفيد وتحتفظ للصداقة بحقها وللأخلاق بمكانتها وللأدب والدماثة بدورهما وللاحترام بضروراته ففتحوا له أبواب قصورهم ومكاتبهم وقلوبهم ، مما أمكنه فى النهاية أن ينقل لنا أعمق ما فى دخيلة هؤلاء القادة بأسلوب بالغ الجمال والصدق والقدرة على التوصيل والتواصل.
مع الأدب والدماثة لابد أن نلاحظ التواضع الجميل فى شخصية هيكل ، قارن مثلاً أسلوب حديثه المؤنس المبسط المنساب بلا انفعال ولا غطرسة فارغة ولا دوران حول الذات بأسلوب رجل الثورة الراحل حسين الشافعى الذى شاهدناه فى نفس الفترة يتحدث مطولاً فى برنامج “ شاهد على العصر “ فى نفس فضائية الجزيرة ، دون إقلال بمكانة ودور حسين الشافعى بالطبع ، فهنا أقارن فقط بين أسلوب هيكل المتواضع الجذاب الإنسانى المتعاطف وبين أسلوب معظم الذين يظهرون فى البرامج من المشاهير الذين لا تجد فى معظمهم سوى مجموعة من أمراض الغطرسة والتعالى وعدم احترام الأخرين ، ومع هذا كله لا يقولون شيئاً له قيمة لنا نحن المشاهدين.
مثقف عربى عالمى
ان هيكل نموذج لما يجب ان يكون عليه المثقف العربى العالمى. انه المثقف الواثق من نفسه والمهتم اولا بمصالح امته والمنفتح على العالم الراغب فى التعامل معه تعامل الند للند. وهو المثقف الواعى لما يحيط بامته من اخطار دون السقوط فى احابيل توهم المؤامرات او استخدام الغير كشماعات. وهو المثقف الواعى لدور الدين كقوة روحية هائلة يجب ان تظل خارج الصراعات السياسية. وهو المثقف المتذوق لمختلف الوان الاداب والفنون الذى يستشهد بالشعر وبالحكمة وبالاقوال الحسنة. وهو المثقف غير المنغلق او المتعصب فقد اكد فى هذه السلسلة ما سبق وكتبه عن اهمية وجود المسيحيين العرب على الارض العربية وضرورة الالتفاف لهم والاهتمام بهم واكد فوائد ومزايا التعددية.
انه المثقف المنحاز لامته دون معاداة الاخرين وهو بهذا يعرف دوره ويمارسه بامتياز ويعرف قدر نفسه فلا يهينها ولا يلوثها بالصغائر والتافه من الامور.
لهذا كله يقف هيكل اليوم مثالا شاهقا للمثقف العربى العالمى .
استطاع هيكل – بمجرد تواجده الشخصى وحديثه التلقائى البسيط والباهر فى نفس الوقت – أن يسقط الشرعية عن قطاع كامل من أشباه الكتاب وأشباه الصحافيين.
ونحن فى انتظار المزيد من الرجل الفذ الذى لم يكن مجرد “شاهد على العصر“ بل كان وما يزال أحد أهم صانعى أحداثه.
كاتب من مصر يقيم بنيويورك
fbasili@gmail.com
بمناسبة إستراحته من حلقات الجزيرة: هيكل.. فيلسوف الناصرية
ابراهيم فهمي — rouma.fahmy@yahoo.com
الاستاذ هو المعلم لجيل الثورة لقد فتح لنا باسلوبه البسيط الشيق ابواب التفكير السياسي وجعله متاح للعامة بدلا من الخاصة وانا شخصيا تعلمت منه الكثير من فنون الكتابة والعرض فضلا عن معرفة كيف يفكر العالم واين نحن من العالم وكانت بصراحة كل يوم جمعه مصباح النور لنا فله كل الشكر
بمناسبة إستراحته من حلقات الجزيرة: هيكل.. فيلسوف الناصرية أشكر الكاتب فرانسوا باسيلي شكرا جزيلا على ما يقوم به من تقريب فكري بين الليبرالية والقومية ،فهذا الصراع الناشب بينهما المستفيد الوحيد منه هم جماعة الإسلام السياسي، فالنقطة الجوهرية للصراع كانت هو الإيمان بالعمل الديمقراطي ولقد حلت هذه المسألة وآمن التيار القومي بالديمقراطية ويكفي الاطلاع على الدراسات النموذجية التي يقدمها مركز فكري رائد في الوطن العربي وهو مركز دراسات الوحدة العربية ذو التوجهات القومية . وأما بالنسية لما يحسبه البعض من سلبيات على المفكر الصحفي هيكل لكونه احد المنظرين لعبدالناصر في فترة حكمه فاعتقد ان هذا الشئ يحسب لهيكل فليس عيبا ان… قراءة المزيد ..
بمناسبة إستراحته من حلقات الجزيرة: هيكل.. فيلسوف الناصرية لقد أسهب الكاتب فراتسوا باسيلي في مديح وإطراء السيد هيكل، حتى حسبت ان السيد باسيلي يكتب في مجلات الأفراح والمجتمع المصري ، فالسيد هيكل بحسب المقال صاحب ثقافه موسوعيه،ذاكرة فوتوجرافية ،رؤية استراتيجية،شخصية جذابة،مثقف عربى عالمى لاأعرف كيف أن عبد الناصر لديه شخص خارق حارق مثل السيد هيكل ويخسر حرب اليمن وبعدها حرب ال67 ، وكيف لم يستطع لملمة مشاكل الأردن والفلسطينيين بعد نكسة حزيران ، ثم ماهي الناصريه أهي عباره عن كتاب الميثاق المؤلف من 150 صفحه الذي تم الأدعاء بإن عبد الناصر ألفه ، لقد كان عبد الناصر ديكتاتور بكل ماقي… قراءة المزيد ..
بمناسبة إستراحته من حلقات الجزيرة: هيكل.. فيلسوف الناصرية مع احترامي الشديد للسيد الكاتب الا انني اعتقد ان هيكل بكلامة وسردة للوقائع – التي تكون خيالا واكاذيب وتمنيات في كثير من الاحيان – يتبنى مبدأ اللاحيادية في الطرح وتفضيل طرف ديكتاتوري قمعي قاتل مجرم على طرف أقل منه ديكتاتورية وقمع بمليون مرة ، يدافع عن الشيوعية والاشتراكية واليسار واصحاب الشعارات السخيفة الفارغة و عن من سلّم الارض لاسرائيل – كأنه يدافع عن اسرائيل واقعيا – ويهاجم ( الرجعيين ) الذين وضعوا الشعارات جانبا وبدأوا بالعمل وبدأنا نرى النتائج!!!!! كاتب بمكانة هيكل يجب ان يكون صادقا مع نفسه اولا ويعترف بانه كان… قراءة المزيد ..