قدّم محامون في مصر بلاغا إلى النائب العام ضد “ألف ليلة وليلة” بذريعة أن الكتاب يخدش الحياء العام، وطالبوا بمصادرته. وفي معرض الدفاع عن الكتاب نظم اتحاد كتّاب مصر ندوة حذّر مشاركون فيها من آثار ما أسموه “ثقافة النفط”، التي “تعادي الخيال”.
وفي هذا السياق يستوقفني، بشكل خاص، تعبير “الحياء العام”. فهو تعبير إشكالي يثير الكثير من التساؤلات: من هي الجهة المعنية بتقديم تعريف لـ”الحياء العام”، وما المؤهلات التي تبرر لها تقديم مثل هذا التعريف، ومن الذي أوكل إليها مهمة كهذه، وفي حال وجود أكثر من تعريف لـ”الحياء العام” من هي الجهة المخوّلة لترجيح هذا التعريف أو ذاك، وما الذي يمنحها مرجعية الفصل بين هذا التعريف أو ذاك؟
فلنتقدّم في التفكير وطرح الأسئلة خطوة إضافية: إذا افترضنا، جدلاً، أن ثمة شيئا إسمه “الحياء العام” فهل هذا الشيء ثابت أم متحرّك ومتغيّر. بمعنى أن ما كان جزءا من الحياء العام في زمن مضى لا يشكل، بالضرورة، جزءا من “الحياء العام” في زمن مقيم. وهل “الحياء العام” مكتسَب أم مطلق، أعلى من الجغرافيا والثقافة والمهنة والطبقة الاجتماعية، بمعنى هل المقصود بـ”الحياء العام” في منطقة ريفية هو نفسه “الحياء العام” في المدينة، وهل تقتسم الثقافة السائدة في هذه أو تلك التعريفَ نفسه، وهل ينجح التعريف في عبور المهن، والطبقات الاجتماعية دون تدوير أو تحويل؟
لا بأس. خطوة إضافية، أيضا: هل “الحياء العام” عابر للجنس، بمعنى أن “حياء” النساء هو نفسه “حياء” الرجال، وحياء الأطفال هو حياء البالغين، وهل هو فوق السياسة، هل ما يقبل به الناس في وقت ما يتم بالتراضي أم بالإكراه، وهل الإكراه مُنـزّه عن المصلحة، ألا توجد علاقة عضوية بين طبيعة النظام السياسي ونوعية التعريف المقبول من جانبه لـ”الحياء العام”.
لهذه الأسئلة جوانب قانونية وأخلاقية وسياسية وثقافية تبدأ، في نظري، وتنتهي عند مسألة الدولة. الصراع الحقيقي، هنا، بين كل ما قد تثيره الأسئلة من إجابات محتملة، وما تنجح في بلورته من تيارات سياسية ومواقف أيديولوجية، يدور حول معنى وطبيعة ومفهوم الدولة.
وسواء حضرت مسألة الدولة في أذهان من حذّروا من آثار “ثقافة النفط” في اتحاد الكتاب المصريين، أو لم تحضر، فمن الواضح أنهم أمسكوا بالثور من قرنيه، أي عثروا على المدخل الصحيح عندما أقاموا الصلة بين مطاردة “ألف ليلة وليلة” و”ثقافة النفط”.
لماذا؟
ببساطة لأننا، في مطلع الألفية الثالثة، لا نستطيع الكلام عن “الحياء العام” دون الاستعانة بمنجزات العلوم الاجتماعية، ومناهج التحليل الحديثة، بينما “ثقافة النفط” لا تستطيع الكلام عن “الحياء العام” دون الاستعانة بشروط ومحددات العقل الفقهي، الذي لا يرفض تلك العلوم والمناهج وحسب، بل ويرفض أيضا مبدأ الاجتهاد في حقله المعرفي الخاص، الذي تبلور واكتمل وأُوصدت أبوابه منذ قرون.
ببساطة أكثر لكي نتمكن من الكلام عن “الحياء العام” علينا أن نختار، مثلا، إما “فرويد” أو “ابن باز”. وقد اخترت الأوّل لا لأن نظريته في التحليل النفسي تصيب كبد الحقيقة، بل لأنها تسهم في تفسير حقيقة أن البحث عن واكتشاف الدوافع يمثل جزءا من هوية الأزمنة الحديثة. واخترت الثاني لا للتعريض بموقفه الرافض لكروية الأرض، بل للتدليل على ما بين العقل الفقهي والأزمنة الحديثة من قطيعة معرفية.
القطيعة المعرفية، في حد ذاتها، ليست حكرا على ثقافة النفط، بل تعم أوساطا مختلفة في العالم، وربما في الولايات المتحدة من أشكال القطيعة المعرفية مع الأزمنة الحديثة ما لا يوجد في مكان آخر. ومع ذلك، تختلف “ثقافة النفط” عن غيرها في ثلاثة أمور: أولا، في كونها الأيديولوجيا الرسمية لدول قائمة، وثانيا في حقيقة أنها تملك المليارات، وثالثا في حقيقة أن حصولها على المليارات نجم عن أغرب طفرة مالية في التاريخ، أي دون جهد يُذكر، عضليا كان أم ذهنيا، من جانب الأغنياء الجدد.
للأمر الثالث أهمية خاصة. ففي تاريخ البشر نجمت الثروة عن الصراع مع الطبيعة، والابتكار والمبادرة ومهارات التبادل وعقلنة التراكم والاستثمار، إضافة إلى النهب الكولونيالي. وقد تحدث هذه مجتمعة. الخلاصة أن المجتمعات الإنسانية تغيّرت بقدر ما استثمرت من عضلات وأدمغة، وبقدر ما قاتلت وما قُتلتْ في الحرب على الموارد، وفي التنافس على الأسواق. وبالتالي، فإن العلوم والمناهج الحديثة، ومعها مفاهيم الدولة، والمواطنة، وحقوق الإنسان، مدينة بوجودها لتلك التغيّرات.
أما “ثقافة النفط” فطفيلية، سادت في مجتمعات قبَلية وشبه مدينية لم تعرف معنى الدولة، ولم تعش حتى مرحلة الكفاح ضد الكولونيالية، التي عرفتها معظم شعوب العالم الثالث. ولم يكن من المُقدّر لثقافة كهذه أن تمثل تهديدا للحواضر العربية لو لم تتحوّل إلى أيديولوجيا رسمية لدول جديدة، ولو لم تحصل الدول الجديدة على موارد مالية لم يحلم بها بشر من قبل. في كل واحدة من تلك الدلالات ما يفسّر بعض السمات المحتملة “لثقافة النفط”: الفقر المعرفي، الثقة المُفرطة بالنفس، العنف، والعيش على حساب عضلات الآخرين وأدمغتهم.
ومع ذلك: ما المُخيف في “ألف ليلة وليلة”؟
المخيف فيها شجرة العائلة. فهي تنتمي إلى تعريف عريض لما يُسمى بالتراث، مما يضفي عليها قدرا من الأهمية بحكم ما للتراث من مكانة مركزية في خطاب “ثقافة النفط”. لذلك، يندرج الهجوم عليها في باب تنظيف التراث، هذا أولا. وثانيا، أن فيها صورة للماضي كما تجلى في المخيال الشعبي. ففي وجودها ما يدل على مخيالين سكنا الماضي: أولهما نخبوي، نصّي، ساكن، منضبط، ومُكرّس، والثاني جامح، تتقاطع فيه المصائر، وتنفلت منه الأجساد والألسن. ومشروع “ثقافة النفط” في كلمة واحدة يقوم على التعالي، والسكون، وضبط الأجساد والألسن. وهذا في نهاية الأمر معنى الدولة في قاموسهم.
وإذا عدنا إلى الكلام عن “الحياء العام”، فإن في الحرب على “ألف ليلة وليلة” في القاهرة، بالذات، وفي تجاهل نهب المال العام، وتزايد معدلات الأمية والفقر، وفي الاحتراب الطائفي، وانسداد الأفق السياسي، والتدهور الاجتماعي، وفي غزو ثقافة النفط لعاصمة التنوير في العالم العربي ما يخدش الحياء العام. وهذا بلاغ بديل إلى النائب العام.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
موضوع نُشِر في “الأيام”
بلاغ إلى النائب العام..!!
– اعتقد ان من ادخل مصطلح (ثقافة النفط) الى (الخطاب العربي) المأسوف على حيويته وحركته المعاصرة هو “الفغنسي” جان جينيه … فرنسا تتعفن .