لم يكن الحدث هو شريط «براءة المسلمين« الذي ينضح خفّة وغلظة. ففي الغرب الآن شيء إسمه «إسلاموفوبيا»، معطوف على عنصرية قديمة مزمنة، غذّتها ممارسات المهاجرين المسلمين أنفسهم، خصوصاً مع صعود التطرف الإسلامي في بلدانهم الأصلية. وينعش هذه العنصرية الآن يمين متطرف آخذ بالصعود، ومشحونة برامجه وشعاراته بعنصرية سافرة ضد هؤلاء المهاجرين تحديداً. ويمكن الإسترسال طويلا في «لائحة» كل هذه التعبيرات، منها الأكثر إنحطاطاً، فنياً وأدبياً، من هذا الشريط، ومنها الأقل.
إنما الحدث كان ردة الفعل الاسلامية العربية على الشريط، وقد غرقت في بحر من الصراخ والدماء والخراب والفوضى؛ زمرة من هذه الشعوب وقعت، أو أوقعت نفسها، في فخ توقيت ذيوعه على الشبكة… 11 سبتمبر، أي بعد ستة أشهر من صدوره، ومباشرة بعد بيان الظواهري الداعي الى الإنتقام من مقتل القائد «القاعدي» أبو يحي الليبي على يد الأميركيين. وفي ردة الفعل الليبية بالذات، التي أدت الى مقتل السفير الاميركي، الصديق لليبيا والداعم لثورتها (الممانعون يهزأون بهذه «الصداقة»، كيف يقبلون بـ»صداقة» من أُشبعوا حباً في كراهيته؟!)… بدا «الردّ» على أعلى درجة من التنظيم، والإعداد. لم تكن ردة فعل عفوية ولا هوجاء. فجأة، وكأن هناك من أعطى اشارة الانطلاق، خرجت الجموع «الغاضبة» حاملة أعلام وشعارات «القاعدة«، قيل انها «سلفية» الهوى والتنظيم، فيما هي بقيادة عدد صغير جلب في طريقه أفرادا منظمين أو شبه منظمين، عاثوا فسادا أياما وليالي، وأدوا دورهم للعلا، بأنهم هم الذين أساؤوا الى المسلمين أكثر من الشريط- الذريعة.
فالحدث بحد ذاته، هو اننا منحنا العنصرية والاسلاموفوبيا واحزاب اليمين المتطرف، حقنة إضافية من الحجج، ليزيدوا من جرعة إضطهاد من هرب اليهم من جحيمنا، ومن إحتقار ثقافتنا وهويتنا، المسؤولتَين، برأي هذا الشق من الغرب، عن تخلفنا وتبعيتنا وكل مصائبنا. والحدث بحد ذاته هو ان الغوغائية المتذرعة بحبها للرسول الكريم لم تنفلت من عقالها الا في الدول التي شهدت سقوط حكامها إثر ثورة، والتي تمرّ الآن، كلها، بمرحلة انتقالية، دقيقة، صعبة ومعقدة. مصر، ليبيا، تونس، اليمن…. اما الدول الباقية، فلم تتحرك فيها الغوغائية الدينية، أو تحركت قليلا، أو بـ»نظام»، كما في السودان، الذي قمع الاحتجاجات المناهضة لحكم البشير، ولكنه رعى تلك «الغاضبة» على الشريط السخيف.
أما في إيران، صاحبة الدور «الريادي» في هكذا نوعية من ردود الفعل، بالفتوى الخمينية عام 1989 القاضية بهدر دم الأديب الهندي الأصل، سلمان رشدي، على روايته «الآيات الشيطانية»، مقابل جائزة مالية… إيران «الاسلامية» هذه، نظم «حرسها الثوري» تظاهرة «غاضبة» مؤطرة ومبرمجة… وأضافت، للمناسبة، الى جائزة قتل رشدي نصف مليون دولار، بحيث بلغت 3,3 مليون دولار، وحجتها، حرفياً، على لسان آية الله حسن صانعي: «طالما لم ينفّذ الأمر التاريخي للإمام الخميني، فان الهجمات على الاسلام، مثل هذا الفيلم المسيء للرسول… سوف تستمر». فيما ذراع إيران اليمنى، «حزب الله»، لم تكن فعالياته أقل تأطيرا وبرمجة؛ هتفت الجموع الغاضبة بانضباط لحسن نصر الله، «حفيد الرسول»، وضد أميركا، ترفرف فوق رؤوسها صور بشار الأسد الضخمة… وذلك بعدما عاث سلفيو طرابلس، تحت البند نفسه، حرقاً وسرقة وسواداً. والمقارنة هنا تفرض نفسها: بين الاصولية الشيعية المنضطبة، والأصولية السنية التائهة بين «أمرائها» الفائضين عن الحاجة. وأيضاً، بين المناخ المنعش للروح، الذي خلقته زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر الى لبنان، وبين التجهم والصراخ اللذين رافقا «إحتجاجات» على الإساءة، قبيل الزيارة وبعيدها….
قبل المستفيد… من المتضرر من هذا الحدث؟
أولا، صورة المسلمين التي أُضيف اليها ما أضيف من تشوه وبشاعة وفوضى ماكرة؛ في الغرب كما في الشرق. ثانياً، صورة المسلمين أيضاً: فكل هذا الغضب لم يظهر ضد المذبحة اليومية التي يمارسها بشار الأسد ضد شعبه، ولا بدت حتى في الأفق البعيد أنواع من ردود الفعل التي تهيئ لهكذا غضب. بدا العالم العربي-الاسلامي وكأنه افتقد بصره بعد بصيرته، ينتظر نجمة عالمية، أنجلينا جولي، ليلتفت الى معاناة شعب يفترض انه «شقيق»، تطارده طائرات بشار ومروحياته ودباباته. بدا المسلمون وكأنهم قليلو الاحساس والانسانية والضمير… يموت من السوريين فوق المئة يومياً، ولا يحرّكون ساكناً. وفجأة أمام شريط لا ينال من حياتهم وحياة بلادهم شيئا، يهبّون مثل مارد من قمقم، يعيثون ناراً وتدميراً وسرقة… كرمى ماذا؟ هل يحبون الرسول فعلاً؟ هل يحبون أصلاً؟ ماذا يعرفون عن الرسالة والرسول بالضبط…؟ أو حتى عن الفيلم الذي يتظاهرون ضده؟
ضرر إعلامي ومعنوي أُصيبت به سوريا من جراء هذا الحدث. في حين كانت دمشق وحلب والرستن ودرعا تدكّ، كما كل يوم، ببراميل الطائرات، في حين تستحق همجية النار والحديد الخبر الأول، كانت «بطولات» الغوغاء المنظم تدكّ الشاشات بـ»فعالياتها». تضامن اسلامي يرفع جبين الأمة على وعيها ودرايتها لمعاركها السياسية….
ولكن الأقوى من كل هذا الحدث، ان العداء الأعمى، البدائي، شبه الغريزي ضد اميركا والغرب، أُلبس ثوبا مقدسا يصعب الفكاك منه. كل حجة النظام السوري بقمعه الجنوني لشعبه، تدور حول «صموده» بوجه «إرهابيين» تدعمهم اميركا والغرب، وان هؤلاء هم عملاء هذا الغرب الذي لا يريد الا التدخل في شؤوننا… الخ. مثل «الشحمة على فطيرة» أتى الحدث- ردة الفعل: قتل السفير الأميركي والهجوم على السفارات الاميركية وحرق العلم الاميركي وشعارات «الموت لأميركا«، «الموت لأوباما» (أوباما، الذي يتهمه الحزب الجمهوري المنافس بأنه «مسلم متنكر«!).
في طهران،
صرخ الغاضبون الذين رعاهم «الحرس الثوري»: «على المنظمات الدولية ان تحاسب واشنطن على تهديدها للأمن العالمي». الإمام كاظم الطابطبائي أعطاهم إشارة الإنطلاق عندما خطب بهم: «على المسلمين ان يدمروا المستبد الاميركي عن طريق الجهاد العام».
ماذا نفهم من كل ذلك؟ انه، بعد إستنفاد الابتزاز بقضية فلسطين، ووقوف الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني ضد بشار، خصوصا بعد انقضاض كتائبه على مخيميّ اليرموك وفلسطين… لم يتبقَ غير نظرية أولوية الصراع مع أميركا، وهي النظرية التي يعتمد عليها بشار وملالي إيران، لإعطاء معنى لعملية إبادة السوريين وتدمير سوريا. هذه الأولوية استعادت الآن ثوبها المقدس، الأبدي، إلى يوم الدين… تُخلع أميركا عن عرشها بفضلها، وتحتل مكانها الصين، القوة العظمى التي لا دين لها…
وإذا أضفنا الى ذلك، مصر التي وقف حاكمها الاخواني، مبدئيا على الأقل، مع الشعب السوري ضد نظامه، ولا يتبنى العداء المطلق لأميركا، ويزايد عليه السلفيون في اسلاميته… فضلا عن النظام الليبي، الذي صوت شعبه لليبرالية، وأقام علاقة طبيعية مع اميركا…. جاز الإعتقاد أن المتضرر الأساسي من الحدث هو المرحلة الإنتقالية للثورات العربية، والمرحلة الحرجة للثورة السورية.
عصافير كثيرة أصيبت بهذه الرمية. واذا كانت مقصودة فهذا يعني أن شعوبنا لا تملك أية حصانة معنوية، وأن أي طامح بالسيطرة على قدرها يمكنه ان يتلاعب بمشاعرها الدينية، بشيطانية خارقة الذكاء، يعميها عن مصالحها الدنيوية والدينية وأخلاقها وجهلها… أما اذا كانت الرمية غير مقصودة، فهذا يعني بأن في عقلنا «الجمعي» خطب ما، يحتاج الى نظر هادئ، لا يشوبه نار ولا فوضى ولا، خصوصاً، حسابات سياسية. وفي كلتا الحالتين… تأمّن الآن تحالف موضوعي بين إيران و»القاعدة»، ما فتح ثغرة خطيرة في العقل والمستقبل العربيّين.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل
بعد الأميركية.. الإساءة العربية الإسلامية للرسول “فيلم الإساءة للرسول بمثابة هدية!” هذه المقالة نشرتها لي صحيفة “السياسة الكويتية” مشكورة بتاريخ 19.09.2012 19.09.2012 فيلم الإساءة للرسول بمثابة هدية! بين كل فترة وأخرى تستفز مشاعر المسلمين في أنحاء العالم عن قصد, وخصوصا ً في العالم العربي عن طريق الإساءة لسيرة ومكانة النبي المصطفى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم), ففي عام 2004 صدر كتاب باسم “نبي الخراب” للمؤلف كريك ونن, يسيء الى النبي محمد, وفي عام 2005 نشرت صحيفة “يولاندس بوستن” الدنماركية رسومات كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) , ثم في عام 2006 نشرت صحيفة “مكازينت” الناروجية وصحف… قراءة المزيد ..