كثيرا ما انتقد أغلب التونسيين سياسة النظام السابق المتعلّقة بمراقبة المظهر الخارجي للأفراد بدعوى رفض اللباس الطائفي في البلاد، وكثيرا ما ندّد هؤلاء بمنشور منع النساء من ارتداء الحجاب، وبممارسات انتهاك حقهنّ في اختيار ملبسهن. وفي المقابل لم يُثر التشدّد تجاه الرجال في اختيار مظهرهم ومنعهم من الالتحاء حفيظة الإسلاميين على وجه الخصوص.
وما إن هلّت تباشير صبح أتت به الثورة حتى استعادت فئة من النساء حريتهن في اختيار حُجُبهن بل ذهبت بعضهن إلى الدفاع عن حقهنّ في ارتداء النقاب لِمَ لا وتونس ما بعد الثورة تعيش مناخ التحرّر من القيود والأغلال وتوفّر لأبنائها وبناتها مكاسب جديدة. ولعلّ الظاهرة اللافتة للانتباه إقبال جماعة من الرجال، يزداد عددهم يوما بعد آخر، على التزيّ باللحى. واللحى كما هو معلوم، أنواع : منها لحية الفتى البالغ التي تضطلع بمهمّة الإخبار عن عُبوره من سنّ إلى أخرى، ومنها لحى الفنّانين وهي علامة على نمط عيش مختلف تصوّرا وسلوكا، ورؤية للكون، ومنها لحى الشيوخ التي تعكس موقعهم الاجتماعي وحكمتهم كما أنّها تزيدهم هيبة ووقارا ،ومنها لحى ذات وظيفة أيديولوجية معبّرة عن انتماء ديني-سياسي وهنا يتمّ الفرز بين الرجال والنساء من جهة، وبين مجموعة الرجال من جهة أخرى. فلحى عدد من المنتمين إلى حركة النهضة تبدو مختلفة عن لحى السلفيين التي تميّزت بطولها و قد ظهرت تدريجيا بعد الثورة.
لقد فوجئت تونس ما بعد الثورة بظاهرة ‘استئجار اللحى’ وبإقبال البعض على اللعب بالرموز في محاولة للتضليل فبات الحديث عن لحى التجمعّيين، نسبة إلى “حزب التجمّع” وانتظر بعضهم بفارغ الصبر، بروز لحيته ليبني لنفسه صورة تليق بمشهدية الحضور في المظاهرات وصرنا نسمع هتافات ”صحّ اللحية يا تجمّع” ونسمع البعض يتهمّ ‘الملتحين’ بممارسة العنف، ونعاين ‘غزوة الملتحين’ في مؤسساتنا الجامعية… ومهما يكن الأمر فإنّ التعلّق الشديد بإطلاق اللحية مثير للانتباه يغري بالبحث عن سرّ هذا الشغف بصناعة الصورة وإرسال رسائل محدّدة إلى الآخر رجلا كان أو امرأة، تونسيّا أو أجنبيّا.
وبالعود إلى التراث العربي الإسلاميّ نتبيّن أنّ أحاديث كثيرة تنسب إلى الرسول (صلعم) تحثّ على إعفاء اللحى وقصّ الشوارب بهدف تمييز المسلمين عن غيرهم(المشركين، المجوس،…) في بيئة اختلطت فيها الملل والنحل، وعجّت بأصحاب الديانات المتعددة. ولئن اختلف الفقهاء حول حكم اللحية فاعتبره البعض واجبا في حين رأى آخرون أنّه سنّة ولا يجب أن تتجاوز اللحية قبضة اليد، فإنّ الثابت أنّ المسلمين لم يكونوا الوحيدين المتمسّكين بإعفاء اللحى. إذ كان من عادة مجموعة من المسيحيين واليهود والسيخ والهندوس الالتحاء.
واحتلّ موضوع الالتحاء مكانة لدى الشعراء، فمدح البعض اللحية:
طول اللحى زين القضاة وفخرهم وتميز عن غاغة السفهاء
وذمّها آخرون:
قوم يرون النبل تطويل اللحى لا علم دين عندهم ولا تُقى
ليس بطول اللحى يستوجبون القضا
إن كان هذا كذا فالتيسُ عدل رضا
وساد الاعتقاد لدى أغلبهم أنّ الملتحي أكثر رجولة وقوّة ونضجا ونشاطا جنسيّا وجمالاً، وأنّ اللحية من تمام الرجولة (وهي لذلك محدّد ‘جندري’ بامتياز)، و”هي نعمة جليلة عظيمة تفضل الله بها على الرجال وميّزهم بها عن النساء”. وفسّر بعضهم رؤية اللحية في المنام للرجل بأنّها غنى وعزّ وأنّ من طالت لحيته وكثر شعرها زِيد في عمره وماله. “وسبحان من زيّن الرجال باللحى”.
ومع ظهور التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتغيّر نمط العيش وبروز عادات جديدة، بدا نفور مجموعات كبرى من الرجال من الالتحاء جليّا. وهو أمر حثّ ‘أهل العلم’ على إنتاج الفتاوى والمؤلفات التي تنتصر للّحية وتعتبر التخلّي عنها بدعة. بل إنّ صاحب كتاب ‘اللّحية في ضوء الكتاب والسنّة’ يعتبر أنّ حلق اللحية حرام، وأنّها دليل على التشبّه بـ’الكفّار’ وبالنساء. وزاد آخر فرأى ”أنّ كراهية اللحية أو الاستهزاء بها وبأهلها يُخشى على فاعله من الردّة والكفر والعياذ بالله”. غير أنّ هذا الموقف المتشدّد لم يكن الغالب. إذ تصرّف الرجال في مظهرهم وفق عادات البلدان و’الضوابط’. فبعض المهن تتطلّب حظر الالتحاء (مؤسسة العسكر، الحماية المدنية، …).
ولئن ساد إرخاء اللحى في أغلب البلدان الخليجية، وبالخصوص لدى الكهول والشيوخ، فإنّ أغلب التونسيين عاشوا رقابة صارمة حالت دون تمتّع بعضهم بحقّ إرخاء اللحى. وها نحن اليوم ، بعد أن خضنا مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، وحسمنا أمرنا مع البطالة والفقر والتهميش والفساد واللاتوازن في منوال التنمية بين الجهات، وأصلحنا منظومات التعليم والقضاء والإعلام… نُعاين رجالا يتنافسون في ‘إصلاح’ مظهرهم الخارجي حتى يبدو منسجما مع قناعاتهم معبّرا عن رؤيتهم لما ينبغي أن يكون عليه الرجل/المسلم عاكسا إيمانهم بأنّ اللحية من ‘ آداب الشريعة’ ومن متممات الدين والطاعة وأحيانا الزهد.
ولكن ‘رفقا بالقوارير’ يا سادة، فما عاد بإمكاننا التعامل معكم بيسر بعد أن تعدّدت اللحى وصار أمر التمييز بين أصحاب هذا الانتماء الأيديولوجي أو ذاك صعبا، وحدث التشويش في نظام العلامات وحدث التلاعب باللحى فمنهم من جعلها صغيرة على الذقن، ومنهم من جعلها خفيفة، ومنهم من ربط لحيته بشاربه على شكل دائرة حتى أنّه ما عاد بالإمكان أن نعرف دلالات الالتحاء أهو لغاية جمالية أو مذهبية أو صحيّة، أو طُرُقية (نسبة إلى الطريقة الصوفية)…. وصرنا نتساءل ما الوقت الذي يخصّصه الواحد منكم للعناية باللحية ومدى قدرة هؤلاء الرجال ‘الحديثي العهد باللحى” على إجراء ‘الطقوس’ التي يقتضيها التزيّ باللحية من تمشيط وتشذيب وتخضيب وتعطير وتسريح وتبخير… وصرنا نتساءل كم سيجني الملتحي من حسنات؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يقنعنا من يدّعي أن اللحية مفرغة من الدلالات؟
ونرجّح أنّ وراء شغف هذه الفئة من التونسيين باللحى رغبة في التمتّع بمزايا ومكاسب يحقّقها هذا المظهر الجديد لعلّ أهمّها إحياء مقولة “القِوامة” بجميع دلالاتها. فكم من ملتحٍ كان يسير في الطريق مزّهوّا وهو ‘يجرّ’ وراءه منقبّة أو يرشدها إلى السبيل… وكم من ملتح ‘كشّر عن أنيابه’ في مظاهرة يردع امرأة أو شابّة تجرّأت على التعبير عن مواقفها ويأمرها بالعودة إلى البيت…. وكم من ملتح وقف يخطب في الجموع متماهيا مع ‘الدعاة’ الإسلاميين… وكم من ملتح أراد أن يكفّر عن ذنوبه السابقة، فالتصق ببعض قياديي “النهضة” علّهم يشفعون له… وكم من متصابٍ اعتبر لحيته مظهرا من مظاهر الوقار وشعارا من شعارات ‘حسن السيرة والسلوك’…
والمؤكّد أنّ اللحية حرّكت سواكن الرجال والنساء وفعّلت صورا كامنة في المتخيّل الجمعيّ إلى الحدّ الذي طالب معه بعضهم من مقدّمي أخبار التلفزة الوطنية أن يلتحي، علّه بذلك يتطهّر من’ إعلام العار’ ويعبّر عن مشاغل’ الأغلبيّة ‘ وطموحاتهم وتوقعاتهم، ولم لا هواماتهم (fantasmes)… ولكن، هيهات، ما باللحية تستعاد أمجاد الأمّة، وما باللحية يستأسد رجال أخصاهم النظام السابق فارتأوا ‘التفحّل’! وما باللحية ‘يتطهّر’ الذين عاثوا في البلاد فساداً، وما باللحية تُحتلّ المناصب وترتفع المقامات! وما باللحية تُعاد صياغة بنية العلاقات بين الرجال والنساء وفق حلم عودة النظام الأبوي. وقديماً قال الشاعر البوصيري:
قومي اطلبي حقّك منه بلا تخلّف منك ولا فترة
وإن تأبّى فخذي ذقنه وانتفيها شعرة شعرة
ما بنا يا سادة من رغبة في أن ننتف شعرة من لحية هذا أو ذاك، إذ “لكلّ امرئ من ذقنه ما تعوّدا”. ولكن إذا صار في اللحية – طالت أو قصرت ، استطالت أو استدارت – غمط لحق النساء واعتداء على حقوقهن ّ، فحري بهنّ أن يكن وفيات لقول البصيري… شعرة شعرة!!!
amel_grami@yahoo.com
أستاذة تعليم عال بكليّة الآداب بمنوبة