من الصعب فهم الموقف البريطاني من معركة الحديدة. هناك، في حال افترضنا حسن النيّة، تفسير واحد للموقف الذي اتخذته حكومة تيريزا ماي عبر وزير الخارجية بوريس جونسون من استعادة هذا الميناء الاستراتيجي. يتمثل هذا التفسير في الرغبة في مساعدة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث، وهو بريطاني، في التوصل الى تسوية سلمية في ضوء العرض الذي قدّمه اليه الحوثيون (انصار الله) خلال زيارته الأخيرة لصنعاء. في لبّ هذا العرض الذي يعتبره كثيرون، بمن في ذلك غريفيث نفسه، تنازلات حوثية. تقضي هذه التنازلات بتولي الامم المتحدة الاشراف على الميناء.
كان يمكن لهذا العرض ان يكون مغريا للجهات المهتمة باليمن، مثل بريطانيا، لو هناك ما يضمن امرين. أولهما تعطيل قدرة الحوثيين على الحصول على سلاح إيراني، خصوصا صواريخ باليستية، عبر الحديدة. امّا الامر الآخر فهو يتمثل في وقف العائدات المالية التي يحصل عليها “انصار الله” من البضائع التي تمرّ عبر الحديدة. ليس سرّا ان كبار التجار الذين يستوردون بضائع بواسطة الميناء باتوا مرتبطين بطريقة او باخرى بالمافيات الحوثية يتقاسمون معها أرباحا تعود عليهم من كلّ ما يمرّ في الحديدة.
مرّة أخرى، اذا افترضنا حسن النيّة البريطانية والحرص على اليمن واليمنيين وليس الابتزاز للقوى التي تعمل من اجل هزيمة المشروع الايراني في اليمن، لا يمكن الّا وضع معركة الحديدة في اطارها الصحيح. هذا الاطار هو المشروع التوسعي الايراني في المنطقة، الذي يشمل بين ما يشمله اليمن. ليس استعادة الشرعية اليمنية للحديدة، وهذا ما سيتحقّق عاجلا ام آجلا، سوى خطوة أخرى على طريق معالجة المأساة الانسانية. انّها مأساة يعاني منها بلد انفجر على نفسه تسعى ايران الى استخدامه في تهديد الامن الخليجي ككلّ مع تركيز خاص على المملكة العربية السعودية.
ليس السؤال ما الذي ستجنيه بريطانيا من حماية الحوثيين بمقدار ما انّ السؤال ما الذي تريده من السعودية ومن دولة الامارات اللتين تدعمان القوى الشرعية التي تحاصر حاليا الحديدة وتقترب منها بثبات؟ اذا كان الحوثيون قادرين على تمرير مناوراتهم على مارتن غريفيث، فانهم لا يستطيعون تمريرها لا على القوى اليمنية المناهضة لهم ولا على السعودية او الامارات. ما كان الحوثيون ليقدّموا عرضا لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لولا شعورهم بانّ هناك ضغطا حقيقيا على الحديدة وان هذا الضغط سيستمر الى ان ينسحبوا من الميناء بطريقة او باخرى مع كلّ ما يعنيه ذلك من تحولّ على صعيد الحرب التي تخاض في اليمن والتي تسبب فيها أصلا الاخوان المسلمون عندما خطفوا في العام 2011 التحرك الشبابي من اجل تحقيق مآرب خاصة بهم.
ما الذي تعنيه معركة الحديدة؟ تعني قبل كلّ شيء ان الساحل اليمني صار كلّه تحت سيطرة القوات الشرعية. وكلمة “الشرعية” لا تعني فقط الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي الذي انتقل الى عدن أخيرا، بل تعني كلّ القوى اليمنية التي تعرف من هم الحوثيون. هناك ثلاث قوى حقيقية تقاتل على جبهة الحديدة حاليا. في مقدّمها “حراس الجمهورية” بقيادة العميد طارق محمد عبدالله صالح، ابن شقيق الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي غدر به “انصار الله” في الرابع من كانون الاول- ديسمبر الماضي. وهناك “لواء العمالقة” الذي صار في معظمه من الجنوبيين. وهناك قوّة بقيادة هيثم قاسم طاهر وزير الدفاع السابق، وهو ضابط جنوبي عرف بشجاعته وقدراته العسكرية.
بعد انتهاء معركة الحديدة التي قد تستغرق وقتا بسبب رغبة المهاجمين في تفادي سقوط خسائر في صفوف المدنيين، الذين يستخدمهم الحوثيون دروعا بشرية، سيصبح “انصار الله” اسرى الجبال اليمنية المحيطة بصنعاء. سيبقى لهم وجود في تعز. ولكن في نهاية المطاف، سيكون المشروع الايراني الذي يمثلونه تلقّى ضربة قويّة. معركة الحديدة جاءت تتويجا لسلسلة من المعارك التي انطلقت مع “عاصفة الحزم” في الشهر الثالث من العام 2015.
كانت “عاصفة الحزم” ضرورة لوضع حد للتمدد الايراني في اليمن. هل تدرك بريطانيا التي تدافع حاليا بطريقة مبطنة عن الحوثيين من زاوية إنسانية، انّ الحوثيين كانوا في عدن وكانوا في ميناء المخا الذي يمكن منه التحكّم بمضيق باب المندب، أي بالملاحة في قناة السويس؟ ماذا لو بقي الحوثيون، أي ايران، في المخا؟ الا يهدّد ذلك حركة السفن التي لا تستطيع دخول البحر الأحمر الّا من بوابة باب المندب؟
هل من يتذكر في لندن تصريحات كبار المسؤولين الايرانيين عن ان طهران باتت تسيطر على اربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. صدرت هذه التصريحات مباشرة بعد سيطرة “انصار الله” على العاصمة اليمنية في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. تلا ذلك توقيع “اتفاق السلم والشراكة” بحضور عبد ربّه منصور وممثل الأمين العام للأمم المتحدة وقتذاك جمال بنعمر. ماذا فعل الحوثيون بالاتفاق الذي ولد ميتا؟ كل ما فعلوه كان وضع الرئيس الانتقالي الذي كان وراء تسهيل دخولهم صنعاء في الإقامة الجبرية بعد اجباره على تقديم استقالته. بقي عبد ربْه في الإقامة الجبرية الى ان أُمكن تهريبه من صنعاء في الشهر الثاني من السنة 2015.
تبيّن في كلّ مرحلة من المراحل التي مرّ فيها الحوثيون، منذ ما قبل سيطرتهم على صنعاء، ان هناك لغة واحدة يفهمونها هي لغة القوّة. ليس هناك من يريد الغاءهم من المعادلة اليمنية ومن أي تسوية سياسية، لكن هناك من يريد بالفعل الغاء مشروعهم اليمني، أي مشروع ايران في اليمن. يقوم هذا المشروع على إقامة قاعدة إيرانية في هذا البلد الذي هو جزء لا يتجزّأ من الامن الخليجي. تستخدم هذه القاعدة في تهديد كلّ دولة من دول الخليج العربي، في مقدّمها السعودية من جهة وتهديد الملاحة في بحر العرب والبحر الأحمر من جهة أخرى. هناك كلمة واحدة تصلح لوصف هذا المشروع الذي تشكل استعادة الحديدة ضربة قاصمة له. هذه الكلمة هي القرصنة.
في حال كانت المناورات السياسية الحوثية، التي في أساسها “القرصنة”، تمرّ على دولة مثل بريطانيا، فهي لا يمكن ان تمرّ لا على السعودية ولا على الامارات. ان يفاوض الحوثيون من منطلق انّهم يسيطرون على الحديدة شيء وان يفاوضوا والحديدة تحت سيطرة “الشرعية” شيء آخر. ليس في تاريخ الحركة الحوثية ما يشير الى انّ لدى قادة هذه الحركة غير بعض الدهاء الايراني والرغبة في الانتقام من منطلق مذهبي ضيّق ليس الّا يسيء اول ما يسيء الى العائلات الهاشمية الكبيرة في الشمال اليمني وفي الجنوب ايضا. هل هناك من لديه دليل واحد على انّهم غير ذلك؟
هل في لندن وغير لندن من لديه دليل على انّ “انصار الله” يمتلكون ايّ مشروع حضاري من ايّ نوع يمكن ان يخفف من المأساة اليمنية باستثناء استعادة تجربة قطاع عزة، تحت حكم “حماس” في منطقة يمنية تقع صنعاء في وسطها؟