منذ إندلاع الثورة السورية ولبنان ينتظر… أوقف نوابه برلمانهم لسنة وبضعة أشهر، لأنهم لم يتفقوا على قانون إنتخابات محدّد، لأنهم لم يتفقوا على من سوف يفوز فيها… سنة وبضعة أشهر، لعلها “تنْحل” في سوريا… وفوق ذلك، سوف يمرّ كل هذا الوقت، وتبقى حكومتهم هكذا، “حكومة تصريف أعمال”، ليس معروفاً ما الذي تقرره وما لا تقرره؛ لماذا؟ لأنهم ليسوا متفقين على من سيكون القوي في سوريا (تمام سلام، بفصاحة: “مرسوم تشكيل الحكومة سوف يصدر في وقت ما”)؛ القوي الذي سيسمح بكسر جناح أحد الطرفين، فيفرض وزارة على خصمه الذي سيكون الأضعف… وذلك وفق تقديرات الجميع عما ستؤول إليه الأمور في سوريا. تبقى رئاسة الجمهورية، التي ستتحول بعد أشهر الى كرسي فارغ، مثل الباقين… بانتظار سوريا…
يُحسب لهذا الزمن المعطّل انه أضاف، هو أيضاً، الى القاموس الخشبي، عبارات، سوف تكون لاحقاً واحدة من سمات هذه المرحلة العظيمة. خذْ مثلا هذا التساؤل “الخشبي” حول انتظار تأليف الحكومة المنتظرة: “لماذ لا تترك الملفات المثيرة للخلاف جانباً وتؤلَّف حكومة تهتم بأولويات الناس فقط؟”. الإنتظار، ثم التعطيل هما مولِّدا اللغة الخشبية. أنظر الى التجارب الخشبية الأخرى، وسوف تجد في متنها انتظاراً وتعطيلاً… أيضاً.
وهكذا، فان القليل من الدولة الذي ارتبط دائما بواجباتها… هذا القليل تبخّر. هل نحتاج الى القول بأن هذا التبخر حاصل بانتظار سوريا؟
الأمن، الصحة، البيئة، العمران، الفساد، البطالة… اللائحة لا تنتهي. كل يوم، كل لحظة، هناك من المواطنين والمسؤولين أمام الشاشات، أو أمام الأصحاب… يمارسون هوايتهم المفضلة: لا يملّون من النق على غياب الدولة… حتى أكثرهم تعلقاً بمليشياته؛ وكأن وظيفة هذه الشكوى هو ملىء الفراغ الهائل الذي يخاطبونه، فراغ المعنى السياسي المعطّل… بإنتظار سوريا.
اذ ما معنى السياسة، إن كانت منذورة للإنتظار؟ إنتظار إرادات وموازين…؟ لا شيء. لا سياسة ولا معنى. لا معنى للأشياء، أو البلاد، لامعنى ليومنا وغدنا، مهدنا ولحدنا… من دون المعنى، نحن ندور حول أنفسنا، نكررها، تجتر ما بقي في حلقنا من حجج إنقسامنا الوطني الحاد، بل نزيده حدّة لقلة حيازتنا على المعاني، فيشتد الإنقسام، وهكذا… بانتظار سوريا…
في بلاد اللامعنى هذه، هناك منتحلي صفة المسؤولية عن شؤونها، يأخذون على عاتقهم حقن مسرحهم بجرعات من “العمل السياسي”، كي لا يكون الفراغ فاضحاً، كي لا يكون المسرح متروكاً لحوادث الأمن والجرائم… مثل التلفزيون، هو هذا المسرح، يحتاج الى من يملأ شاشته، فيأتيك بما يكون مطلوباً ان تستهلكه وأنت أمام الشاشة، كي لا يُقال ان هذه القناة أو تلك غير موجودة. ولكي لا تأخذنا البصيرة يوما ونلاحظ بأن هؤلاء “المسؤولين” غير موجودين، بدليل عدم وجودهم على المسرح. من هذه الخلفية “ينطلقون”، فيملأون المسرح صخباً بتصريحات وسجالات وتكريمات وزيارات ومحاورات ومحاضرات ومؤتمرات…. كل يوم لديك من يصرح ومن يرد على التصريح ثم من يرد على الرد؛ وهناك “الجرأة” التي تناول بها وزير تصريف الأعمال، بكشفه عن “فضحية”… وضعت في الأرشيف… ومن “يهدىء” ومن “يصعّد” ومن “يدوْزن”، ومن يعود فيخطب ويحاضر ويكتب ويحاور ويهاجم ويهادن ويستنكر ويرحب… وكلها أفعال غير سياسية، أو قلْ انها ملحق في السياسة. فالأساس في السياسة هو الفعل، أي القرار المطلوب الممكن؛ على ضؤ تصورات عامة طبعاً، ليس على أساس ثرثرات يومية لا تزيد من قدرة ما هو مطلوب من دولة. ولكن على ماذا نعترض؟ فالأساس الآن، في هذه اللحظة المصيرية من تاريخنا، هو أن نحضر في المشهد، حتى لو كنا بانتظار سوريا…
لكن عبقرية المسؤولين لا تتوقف عن حدّ الكلام. الأفطن من بينهم لا يكتفي بأدوار الثرثرة. يريد للتاريخ ان يسجل لنباهته. فماذا يفعل؟ يقوم بـ”مبادرة سياسة”. لكل صاحب مبادرة منهم دور. يطلقها رئيسها، ثم يقوم بدورة، جولة، على الأطراف “الصديقة” و”الخصمة”، بكامل طاقمها. وكل طرف يرمي المبادرة وأصحابها بالورود، يكاد يزغرد لها. وفي هذه الأثناء لا يكون “التراشق” السياسي قد توقف. فالثرثرة اليومية شيء آخر، أكثر حضوراً من “المبادرة…” في اليوميات. المهم ان تأتي، أي “المبادرة…”، إلى خواتمها؛ لتترك مكاناً لمبادرة أخرى، لا تقلّ جمالاً عن سالفتها. تقوم بالدورة نفسها، الجولة نفسها، على الخصوم والأصدقاء والوفود والجلسات الودية وتبادل كلمات الغزل والتغزّل… وفي هذه الأثناء، لا يكون التراشق السياسي قد توقف. ولكن ماذا تفعل؟ ماذا تقول؟ لا يوجد طريقة أخرى لممارسة السياسة في لبنان، لا يوجد غير إنتظار سوريا…
بإنتظار سوريا… يتحول وجه لبنان، ويصبح على شفير أن يكون سورياً بثلث سكانه. والدولة المفترض ان ترتب شؤونهم الإنسانية العاجلة، لا تستطيع ان تأخذ قراراً بشأنهم. لا وزرات ولاتشريع ولا مؤسسات. ولكن بانتظار سوريا… بانتظار أن تكون المساعدات الموعودة منتظمة في شرعية حكومة لن تتألف إلا بعد هذا الإنتظار…
بدأت سردية “اللاجئين السوريين” في لبنان تأخذ منحى خاصاً. سردية تأخذ وقتها، صار لها وقت، بعدما ابتعدت استحقاقات الإنتظار نفسه… بدأت تطفو على الذاكرة اللبنانية وقائع اللجوء الفلسطيني، للمقارنة مع السوري، وللتأسي، والتخوف على التوازنات الطائفية، والتساؤلات القلقة عن إمكان بقائهم وإخلالهم بهذه التوزانات… وشبح الحرب الأهلية مجدداً. لم يبق معلِّق، ولا مواطن، إلا وبدت على سيمائه معالم هذين المقارنة والقلق. والموضوع يتجاوز العنصرية اللبنانية ومشاعر التضامن الإنساني، ناهيك عن السياسي. يمتزج فيه نوع من التوجس أو اللامبالاة أو المساكنة المتوترة أو مجرّد الفضول. لكن اللجوء السوري مهيمن على العقول، بالمنافسة على لقمة العيش أو التوازن الطائفي أو رفض التوطين، بالفعل الإرادي لبشار الأسد في “تطفيش” السوريين، وتحويل مصيبتهم الى ذخيرة حرب. اللاجئون السوريون الوحيدون الذين تثاقفوا مع اللبنانيين هم المثقفين، وأكثر منهم الفنانين. لجوء فني، معلَّق زمنه، معلِّق معه زمننا، ودوران رواده الفايسبوكيين حول بعضهم وحول انفسهم… فخلقوا شيئاً من المعنى. هل نستطيع تخيله بعد خمس سنوات، إلا محنَّطاً، ومبهماً، بإنتظار سوريا؟
والأفدح من هذا، الأكثر رثاثة من هذا، هي تلك الحرب الأهلية التي نهدد بها أنفسنا عند كل طلعة شمس. عقولنا وعواطفنا إزاء بعضنا على الزناد، بانتظار من يدفعنا الى إطلاق أولى رصاصات حرب أهلية، وهمياً كان هذا التخويف أو قائماً على إمكانيات مخفية. أي بانتظار سوريا… كيف تنقلب موازينها، مع هذا أو ذاك من بين طرفي إنقسامنا الوطني… حسب مجريات الأمور في سوريا.
ولكن بانتظار سوريا… يتحول وجه لبنان، وجه المنطقة كلها. ونحن ليس لنا يد متواضعة واحدة في هذا التحول. نحن مطوّبون للإنتظار.
لو كتب لأعلانا شأناً يوماً أن يكون أيقونة، فلن تلاحظ على وجهه إلا معالم بلاهة الإنتظار، وفقر معناه.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل