خاص بـ”الشفاف”
الإنفجار الأمني الذي حصل في طرابلس على خلفية اعتقال الناشط في التيار السلفي “شادي المولوي” لم يكن مفاجئا للمراقبين لأسباب كثيرة. منها الفراغ الأمني في المدينة، وهو فراغ مكرس في جميع المناطق اللبنانية ولا يقتصر على طرابلس وحدها! ومنها الشلل الذي يسيطر على أجهزة الدولية الأمنية وقصورها كذلك في ضبط المخالفات وتطبيق القوانين وحفظ الأمن والإستقرار، وهذه قاعدة مطردة لا استثناء فيها لمنطقة دون أخرى، مع الأخذ بعين الإعتبار أن المناطق التي لا تشهد توترا أمنيا بين مكوّناتها، على غرار ما يحصل في طرابلس، لا يرتبط استقرارها النسبي بمقدرات الأجهزة الأمنية وإمكانياتها، إنما يرتبط بهيمنة “قوى أمر واقع” بديلة تمتلك أجهزة أمنية ومعدات عسكرية تفوق مقدرات الدولة وميزانيتها لتدعيم جسمها الأمني وتنمية قدراته.
البقاع أيضا.. “فالت”!
طرابلس ليست أفضل حالا من مناطق بقاعية كثيرة، تعتبر بمعظمها “بيئة حاضنة” للعصابات الخارجة عن القوانين ومرتعا لها. كذلك، فإن هامش تحرك الأجهزة الأمنية هناك، رغم خطورة ما يجري فيها، لا يتعدى دوائر معينة وحدودا معينة. فحالات القتل و الخطف والتهريب وتحدي القوانين تسري فيها على قدم وساق، لكن غير مسموح لأي عنصر أمني تابع للدولة اللبانية أن يقوم بواجباته فيها. كذلك، لا يمكن لدوريات الأمن الداخلي ومخابرات الجيش اللبناني والأمن العام اللبناني، “مهندس عملية طرابلس”، الدخول إلى “المناطق المحرمة حزبياً، لملاحقة مشبوه أو رصده أو اعتقاله إلا بإذن مسبق أو تصريح من “قوى الأمر الواقع” المعروفة! وإلا، فإن المحصلة تكون حربا أهلية يتهم على الأغلب بأن من افتعلها هو الأجهزة الأمنية “لعدم مراعاة خصوصية المنطقة”!
وهذا، حرفياً، ما جرى عقب اعتقال الراهب اللبناني وإطلاق سراحه منذ عدة أيام في البقاع.
و لا تشذ عن هذه القاعدة الضاحية الجنوبية لبيروت التي يحتمي فيها المتهمون الأربعة بقضية اغتيال رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري، ومطلوبون للعدالة بتهم الإتجار بالحشيش وتهريب السلاح وتبييض الأموال وسرقة السيارات، و آخرهم “نزار الحسيني” الذي مُنِعت القوى الأمنية من توقيفه في محلة “بئر العبد” منذ حوالي الشهر تقريبا.
لكن الحرام في بعض المناطق اللبنانية يبدو أنه حلال في غيرها…
فلم تراعِ قيادة “الأمن العام” خصوصية طرابلس، ولم تعطِ بالاً لحساسية اعتقال ناشط سلفي في ظل الوضع الأمني الدقيق الذي تمر به المدينة ولبنان عموما. وحيال ما جرى ويجري في طرابلس من اقتتال تفاقم ليأخذ شكلا من أشكال الفتنة المذهبية تجتمع علامات الإستفهام والتعجب سويا لتؤكد أن مغامرة “الأمن العام” في طرابلس، أو مغامرته بأمن طرابلس الهش، هو تنفيذ لمشيئة سياسية عابرة للحدود غايتها تفتيت ما اجتمعت عليه طرابلس.
منذ اندلاع الإحتجاجات في الجارة سوريا، شكلت طرابلس ومحيطها (على غرار “عرسال”) معقلا معنويا للثوار السوريين، وملجأ للمدنيين الهاربين من جحيم النظام. وتكفّلت المدينة وأهلها بإيواء الآلاف من النازحين السوريين وتقديم المساعدات الإجتماعية والطبية والنفسية لهم. كما أنها تكاد تكون المنطقة اللبنانية الوحيدة التي تشهد، من حين إلى آخر، مظاهرات ومسيرات داعمة للثورة السورية بزخم تصاعدي بات يزعج نظام البعث وحلفاءه في لبنان. هذا عدا الغليان “المذهبي” الذي يسيطر على بعض أحيائها، وانتشار أنواع من السلاح الخفيف بين أيدي الطوائف التي تشكل مجتمع المدينة- وأقول “السلاح الخفيف” هنا كونه يوجد طائفة في الوطن تملك صواريخ عابرة للمحيطات!
الأرضية المؤاتية لاستنهاض الفتنة جاهزة إذاً. واللاعبون الأساسيون على أتم الإستعداد لمباشرتها. فبين “باب التبانة” ذي الغالبية “السنّية” و”جبل محسن” ذي الغالبية “العلوية”، ترعى الذئاب! لكن إبرة الفتنة كانت متوارية في كومة القش، و”عملية الأمن العام” أخرجتها من مكانها، و حصل ما حصل…أو ما زال…
“الأمن العام” و”الحزب” و.. المخابرات السورية!
هذا من ناحية… من ناحية أخرى، المعروف أن مدير عام الأمن العام اللبناني “اللواء عباس ابراهيم”، الشيعي الجنوبي الذي كان يشغل منصبا متقدما في مخابرات الجيش اللبناني، لا يدين لحزب الله فحسب بتسلمه لمنصب المديرية العامة للأمن العام، بل يعود لحزب الله الفضل في تسلّقه درجات السلم الأمني العليا في الجيش اللبناني، وبالتحديد “فرع المخابرات”، وصولا إلى مركزه الحالي. وهو صنيعته الأمنية أو دميته التي يحركها على مسرح الأحداث ساعة يشاء, وليس من قبيل المبالغة إذا قلنا أنه ليس محسوبا على حزب الله سياسيا أو وظيفيا فقط، بل هو جندي يعمل في الدولة اللبنانية لخدمة حزب الله.
وانطلاقا من هذه الحيثية فقد جعل اللواء جهازه بأكمله بأمرة حزب الله، الذي يأتمر بدوره بأوامر المخابرات السورية.
الأطراف كلها اجتمعت على ضرب ما تمثله طرابلس وإضعافها أمنيا، ليتمكنوا من كسر اليد التي تمتد لمساعدة الثوار والنازحين السوريين.
عملية الأمن العام سبقتها شائعات و حملات إعلامية ممنهجة طالت سمعة المدينة ذات التعددية الطائفية، ووصَمتها بصفتي “الإرهاب” و”السلفية”! رّكزت على تضخيم دور “السلفيين”، وربط حراكهم بأجندات خارجية تسعى لإقامة “إمارة إسلامية في طرابلس” على أساس مذهبي!
و الغريب في الموضوع أن من روج لهذه الشائعات ويروّج لها لا يتوانى عن توضيح وإثبات هويته المذهبية وتعصبه الديني، ومظاهره “السلفية” المتزايدة في كل مناسبة.