للتاريخ منطق، وهو منطق متعرج اذ يسير زمنيا اينما تأخذه التجربة بابعادها المتناقضة. فمن ايران انطلقت اول ثورة اسلامية شاملة حديثة، فتلك ثورة مدن عمت طهران واصفهان وعشرات المدن اواخر ١٩٧٨. وخلال ايام من انطلاقتها اثبتت الثورة انها تستند على مخزون هائل من الناس الرافضين لنظام الشاه السابق والى قيادة ملهمة ممثلة باية الله الخميني الذي يعيش في المنفى. وبعد عقود على ثورة ١٩٧٩ التي بهرت العالم بمقدرتها على ازاحة احد اكثر الانظمة في العالم ديكتاتورية اذا بأيران التي بنت نظاما سياسيا مختلفا تطرح على نفسها اسئلة كبيرة وتعيش مخاضا رئيسيا.
في المرحلة الاولى من الثورة لم يكن التيار الذي قام بالثورة يؤمن بأن الثورة بعد الانتصار ستفرض انغلاقا اقتصاديا ومعنويا وثقافيا على البلاد او انها سوف تضطهد المثقفين والكتاب والمفكرين والسينمائيين والشعراء والطلاب وذوي الاتجاهات المختلفة. لم يخطر على بال معظم الايرانيين الذين قاموا بالثورة انها ستفرض لباسا على المرأة تسميه لباسا شرعيا او ان بعض صانعيها سوف تتم ازاحتهم كما حصل مع رئيس الجمهورية الاول بنى صدر وكما حصل مع ابراهم يزدي اول وزير خارجية او مع اية الله شريعة مداري او مع منتظري. كما ان وزير الخارجية صادق قطب زادة وهو من اهم شخصيات الثورة اعدم كما اعدم وزراء اخرين وشخصيات عامه بعد ان سيطر التيار المتشدد. في تاريخ ايران بعد الثورة مرحلة قاسية بعد ان انتصر التيار المتشدد وهزم التيار المرن ذو الوجه الوسطي في فهم الاسلام.
ومنذ ذلك الزمن مرت ايران بعدة محاولات اصلاح لاستعادة زمام المبادرة من قبل الوسطيين، اذ تم ذلك في زمن الرئيس اية الله رفسنجاني الذي ترأس البلاد من ١٩٨٩ الى ١٩٩٧ وفي زمن الرئيس خاتمي من ١٩٩٧ الى ٢٠٠٥، لكن كليهما لم ينجحا في اصلاح حال ايران وذلك بسبب الصلاحيات المضخمة التي يمتلكها اية الله خامئني في مجالات السياسة الداخلية والخارجية والامن والمخابرات والحرس الثوري والميليشيا، بل ازداد الوضع تشددا وازداد النظام مركزية مع فوز احمدي نجاد منذ اربعة سنوات، ومن هنا حالة الانفجار الذي تشهدها ايران.
ان ما يقع في ايران هو صراع بين تيارين مختلفين حول مفهوم الدولة وتطبيق الشريعة وفهم الامامة وولاية الفقيه والاقتصاد والعالم المحيط. التيار الاول يرى في الدولة الاسلامية دولة يحكمها المرشد الذي يقف فوق النظام وفوق المؤسسات والانتخابات، وذلك لان السيادة للنص وللدين وفق تفسير المرشد الذي يتحول للشخص المخول لتفسير الاوضاع واخذ القرارات السياسية كما يجد مناسبا. لهذا فالقرار السياسي يصدر من مكتب المرشد الذي لم ينتخبه الشعب الايراني كما ان قراره مرتبط باجهزة الداخلية والحرس الثوري والمخابرات كما هو الامر في الكثير من الانظمة العربية. ان هذا المنطق يتناقض و فكرة الديمقراطية التي تقوم على سيادة الشعب.
من جهة اخر يعي التيار الاخر والمكون من شخصيات دينية وسياسية ساهمت في صنع الثورة وشكلت بعض اهم اقطابها ان حكم ايران خارج اطار السيادة الشعبية وخارج اطار الحريات سوف يساهم في اضعاف واسقاط النظام الاسلامي كما حصل مع انظمة اخرى صادرت الحريات. لهذا ينطلق التيار الاصلاحي من ان نجاح تجربة الجمهورية الاسلامية الايرانية يتطلب انفتاحا اقتصاديا واصلاحا سياسيا، وحريات صحفية وثقافة وفكرية وادبية ومسرحية واجتماعية. لهذا يسعى التيار الاصلاحي لتحويل الرئيس في الجمهورية من شخص فاقد للصلاحيات يأتمر باوامر المرشد الغير منتخب الى رئيس فعلي فاعل يطبق البرامج التي يعد بتطبيقها. لقد نفذ صبر الايرانيين من التحكم الاجتماعي خاصة بين جيل من الشباب ولد في معظمه بعد الثورة الاسلامية وبدأ يفقد الصلة معها ومع جذورها وفكرها واطروحاتها. ففي صفوف هذا الجيل تقع اكبر نسبة هجرة الى خارج ايران، ومع استمرار هذه الاوضاع يزداد عدد الايرانيين المنتشرين في العالم هربا من الاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ما وقع في ايران هو بداية التغير من سيطرة التيار المتشدد، وهو بداية اصلاح النظام الايراني. فجميع الشخصيات الاصلاحية الاساسية جاءت من عباءة الثورة الاسلامية ومن النظام، وهم جزء من ألاطار الاساسي للجمهورية، لكنهم بنفس الوقت وصلوا لنتائج جديدة حول علاقة الاسلام بالديمقراطية وحول الحقوق والسيادة الشعبية. في هذا سنجدهم يسيرون في طريق اصلاح النظام خاصة في مجال الاقتصاد والحريات الاجتماعية وصلاحيات المرشد. إن أخطر ما يواجه ايران هو إختيار النظام لطريق القمع والتشدد في ظل فشل الاصلاحيين تحقيق تقدم، حينها سوف يتعاظم التيار الرافض للنظام السياسي. وكم من ثورة في التاريخ وقعت بعد فشل الاصلاح في تحقيق نتائج.
shafgha@hotmail.com
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت