إسرائيل حريصة على أن تظهر أمام العالم بوصفها “دولة الناجين من الكارثة في الحقبة النازية”. هناك مواطنون عاديون ممن فقدوا أقارب وأعزاء، صادقون في عدائهم للنازية ممارسة وتاريخاً وأيديولوجية عنصرية. ولكن هناك نخبة سياسية حاكمة تستخدم “الكارثة اليهودية” في العهد النازي أولاً لتبرير كل موبقات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وثانياً لإرهاب كل من يجرؤ على أن ينتقد إسرائيل فتصفه بأنه “عدو لإسرائيل..ولا سامي”!
وذات مرة قال اسحق شمير رئيس حكومة إسرائيل الأسبق “لا يحق لأحد في العالم أن ينتقد اليهود وينتقد إسرائيل بعد كل ما حلَّ باليهود في فترة الهولوكست”.
وما يكشف زيف الموقف الرسمي الإسرائيلي وازدواجيته في المعايير أمران: أولاً تواطؤ النظام الإسرائيلي مع النظام التركي في محاولة طمس “الكارثة الأرمنية” في تركيا التي هي على شاكلة كارثة اليهود في ألمانيا من حيث الإبادة الجماعية، والفرق الوحيد هو في عدد الضحايا، وثانياً: تعامل إسرائيل مع “الكارثة الفلسطينية” إنكاراً وطمساً!
والجانب الآخر لهذا الموضوع الحساس حقاً، في تحايل القيادة الإسرائيلية على الأخلاق والقيم، أنه تنمو وتنبت في إسرائيل، عبر السنين تيارات وشخصيات عنصرية، بكل المقاييس، تطالب علناً، ومن على منبر الكنيست (البرمان) الإسرائيلي بترحيل ما تبقّى داخل إسرائيل من عرب فلسطينيين لم يرحلوا عام 1948 عام النكبة وتجذروا وزادوا من 165 ألفاً إلى مليون وربع المليون من الناس يعانون كل صنوف التمييز والتهميش ويأخذون نصيباً هزيلاً من ميزانية الدولة. وبينما أقامت إسرائيل، منذ 1948 حوالي 800 مدينة وقرية ومستوطنة زراعية يهودية، لم تُقِم خلال الستين سنة الماضية ولا قرية عربية جديدة واحدة، مع أن العرب تضاعفوا عشر مرات عما كانوا!
ليبرمان هذا، الذي يطالب، صباح مساء، بطرد العرب، أي اقتلاع السكان الأصليين للبلاد، حظي مؤخراً أن يصير وزيراً في حكومة أولمرت- بيرتس ومسؤولاً عن “حقيبة الشؤون الاستراتيجية”!!
هذا الأسبوع أضيفت إلى فضائح إسرائيل الأخلاقية- السياسية، فضيحة جديدة. فقد قررت بلدية مدينة “أور عقيبا” المقامة على أرض قيسارية الفلسطينية المهجرة، أن تطلق اسم مئير كهانا على أحد شوارعها الرئيسية!
مئير كهانا، هذا، هو يهودي أميركي وصفه البروفسور يشعياهو ليبوبيتش بأنه “نازي يهودي”. وهو فعلاً نازي يهودي. ولقد قامت مرة باحثة يهودية تقدمية بأخذ مقال لمئير كهانا وبرهنت بالنقاش العلمي أنه عنصري على الطريقة النازية، بل أن كتابات كهانا تبدو “تراثاً نازياً كلاسيكياً”.الآن يمنحون لكهانا هذا شارعاً على اسمه، في مدينة مقامة على أراضٍ عربية فلسطينية منهوبة!
ولم يتمكن أحد المواطنين الشرفاء الإنسانيين في “أور عقيبا” أن يسكت على إطلاق اسم كهانا على شارع في المدينة وقال: “إن هذا العمل هو جنون صارخ، وهو لا يشرِّف المدينة وأهلها، الكل يعرف من هو مئير كهانا هذا، وماذا كان تراثه ونشاطه، إن هذا العمل ليس مثلاً طيباً للاعتدال والتسامح والمساواة، بل العكس، إنه تمجيد للعنصرية بأبشع صورها”.
علينا أن نقول إن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية اليومية في إسرائيل “مطرّزة” بالمواقف العنصرية والممارسات ويعاني عرب النقب مآسي لا شبيه لها إلاّ في تاريخ عمليات الإبادة ضد السكان الأصليين في الولايات المتحدة، كما تحولت القرى والمدن العربية إلى “غيتوات” تعج بالفقر والبطالة والاختناق الاجتماعي.
بطبيعة الحال، هناك قوى ديمقراطية وإنسانية وليبرالية يهودية تفتش عن حوار مع العرب، وعن حل للنزاع مع العرب. ولكن الأيديولوجية السائدة هي أيديولوجية احتلالية اقتلاعية استعلائية تهدد وجود وبقاء الفلسطينيين الذين يعيشون داخل إسرائيل وتنظر إليهم كما لو كانوا “ظاهرة مؤقتة”.
إن بعض القوى من المواطنين العرب، داخل إسرائيل، تقوم بمبادرات للحوار مع القوى الإنسانية واللبرالية اليهودية، من خلال الفضح الدائم للممارسة السياسية التمييزية والعنصرية.
ونعتقد أن العالم العربي وقواه المثقفة والإعلامية التي تخاطب العالم الواسع بلغة العالم ما زالوا متخلفين جداً في مجال فضح الازدواجية السياسية الإسرائيلية الرسمية وفي كشف الممارسات العنصرية بكل المقاييس.
بدل الجعجعة القومية الارتجالية القائمة على الزعيق، وفي أحيان كثيرة على مجافاة الحقائق، هناك مصلحة فلسطينية وعربية (وإسرائيلية أيضاً) في نزع القناع عن الخدعة السياسية والأخلاقية للنظام الإسرائيلي، الذي يظهر أمام العالم وريثاً لليهود ضحايا النازية. بينما هو يمارس سياسة اقتلاعية ترحيلية وعنصرية تجاه الشعب العربي الفلسطيني.
إن العالم العربي، حكومات وأنظمة ومثقفين ومنظمات مجتمع مدني يخدم نفسه ويخدم الحقيقة إذا اعتمد الدقة وابتعد عن الخطابات الرنانة وتخلص من الشعارات الغريزية المضرة، واكتفى بقول الحقائق، والحقائق فقط، حول حقيقة “التراث” السياسي للنظام الإسرائيلي القائم على تقديس القوة العسكرية والتعامل الوحشي مع الفلسطينيين.
إن الضحية تخدم نفسها أكثر إذا التزمت بالحقيقة وبالتحالف مع القوى الإنسانية في العالم ضد نظام القهر العنصري. والفلسطينيون والعرب قاطبة، يجب أن ينتقلوا، أسرع ما يمكن، إلى دعاية سياسية عالمية تقوم على الحقائق فقط، وعلى التحالف مع المجتمع الإنساني، وإلى التحالف مع القوى الديمقراطية واللبرالية اليهودية، أيضاً.
هذا كان دائماً طريق الشعوب المقهورة في مسيرتها نحو النهاية المظفرة على نظام القهر وتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية. salim_jubran@yahoo.com
* الناصرة