قلنا في مقال قديم أن اليابان، رغم تقدمها في كل المجالات، لا تزال تتحفظ على منح نسائها دورا يليق بهن في الحياة السياسية أو ادوار تتناسب مع درجاتهن العلمية لجهة قيادة المؤسسات العامة أو حتى الخاصة. وإذا ما تفحصنا ترتيب دول العالم من حيث وجود المشرعات في مجالسها النيابية المنتخبة، نجد أن السويد والدانمارك تصدرتا القائمة في عام 2003، بنسبة 45.3 و38 بالمئة على التوالي، تلتهما هولندا بنسبة 36.7 بالمئة، ففنلندا بنسبة 36.5 بالمئة، فالنرويج بنسبة 36.4 بالمئة. أما اليابان فقد جاءت في المركز السابع والتسعين – متساوية مع أفريقيا الوسطى ورومانيا – وبفارق بسيط جدا عن كمبوديا، وذلك لأن نسبة الإناث في البرلمان الياباني المنتخب لم تتعد 7.3 بالمئة من المجموع الكلي للنواب. بل أن اليابان على هذا الصعيد متخلفة عن دولة نامية هامشية مثل راواندا التي يفرض دستورها لعام 2003 تخصيص نسبة 30 بالمئة من مقاعد البرلمان للنساء.
هذا الوضع غير اللائق لبلد يشهد له الأعداء قبل الأصدقاء بأنه نموذج للآخرين في الرقي والصعود والرخاء والتقدم في سائر الميادين، ينتظر الآن أن يتغير في ظل الزلزال الذي حدث في الحياة السياسية اليابانية في بداية سبتمبر الجاري حينما حقق حزب اليابان الديمقراطي انتصارا مدويا في الانتخابات النيابية على حزب البلاد التاريخي “الحزب الليبرالي الحر” الذي حكم دون انقطاع تقريبا منذ عام 1955.
صحيح أن الليبراليين الأحرار كانوا أول من منحوا امرأة يابانية حقيبة سيادية في حكوماتهم، وذلك حينما استوز زعيمهم/ رئيس الحكومة الأسبق “جونتشيرو كويزومي” السيدة “ماكيكو تاناكا” ابنة رئيسة الحكومة الأسبق “كاكوي تاناكا” كوزيرة للخارجية، وصحيح أن كويزومي كان من أكثر الساسة اليابانيين دعما للمرأة اليابانية وطموحاتها في الوصول إلى المناصب القيادية غير التقليدية، وذلك بدليل العدد الكبير من السيدات اللواتي دفعهن نحو السباق الانتخابي أو منحهن حقائب وزارية في آخر حكومة له قبل استقالته.
غير أن الصحيح أيضا هو أنه لم يسبق لليبراليين الأحرار أن قاموا بما قام به حزب اليابان الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة من حملات متقنة لإقناع اليابانيات بالتصويت لبنات جنسهن بدلا من الاقتراع للوجوه الذكورية التقليدية التي لطالما أثيرت حولها قصص الفساد أو الخيانات الزوجية أو تجذير البيروقراطية، أو للشخصيات التي عادة ما ترث المقعد البرلماني عن الأب أو الجد أو العم أو الأخ.
والجدير بالذكر هنا أن “حزب اليابان الديمقراطي” كان قد عهد إلى السيدة “كونيكو تانيوكا” عضو مجلس الشيوخ منذ عام 2007 والمنحدرة من مدينة اوساكا، بقيادة الحملات المذكورة، فأبلت فيها بلاء حسنا بدليل نجاحها في تأمين 54 مقعدا لسيدات منتخبات في مجلس النواب الجديد.
وطبقا لهذه السيدة التي تحمل درجة الدكتوراه في التصميم من جامعة تورنتو الكندية، فان حزبها استفاد كثيرا من تجاربه في انتخابات 2007، التي واجهت فيها امرأة ذات حضور وجمال وأناقة من أنصار الحزب أحد الوزراء السابقين المتنفذين في دائرة في أوكاياما، فنجحت بامتياز على الرغم من الفارق الكبير بين الشخصيتين والذي شبهته الصحف (في حينه) بالمصارعة ما بين مصارع شرير ضخم من مصارعي الساموراي و أميرة صغيرة جذابة. وأضافت ” كونيكا تانيوكا” التي باتت اليوم في دائرة الأضواء بسبب ما يقال أن وظيفة رسمية كبيرة تنتظرها في الحكومة الموعودة لرئيس الوزراء “يوكيو هاتوياما”، أن حزبها أدرك مسبقا أن الدفع بالمزيد من اليابانيات نحو السباق الانتخابي يستلزم عملا جبارا يشتمل على اختيار سيدات جريئات وطموحات وخبيرات وعلى قدر من الأناقة والكياسة لمقارعة ساسة دهاء ومتنفذين، ناهيك عن إقامة ورش عمل في طول البلاد وعرضها من اجل تعريف من تود دخول السباق بقضايا المجتمع الملحة، وكيفية مواجهة الأسئلة الاستفزازية والاستفسارات الحميدة والخبيثة، ناهيك عن تدريبهن على أساليب الحوار والجدل والنقاش وتسجيل النقاط ضد الخصم.
وجملة القول أن اليابانيات صرن متفائلات اليوم أكثر من أي وقت مضى حول تقدمهن أشواطا جديدة في معركة الانعتاق من الكثير من التقاليد المحافظة التي كبلت المرأة اليابانية خلال الحقب الماضية. ومن يتأمل التطورات التي حدثت في اليابان، منذ عام 1996 على الأقل (العام الذي بدأت اليابان فيه بتبني نظام الانتخاب بالقوائم والتمثيل النسبي) لجهة عدد النساء المنتخبات في مجلس النواب، سيكتشف كيف أن تلك التطورات كانت مدعاة بالفعل للتفاؤل. ففي آخر انتخابات نيابية أجريت في القرن العشرين، ونعني بها انتخابات عام 2000، أسفرت النتائج عن حصول 35 سيدة مترشحة على مقاعد برلمانية. وكان هذا في حد ذاته انقلابا كبيرا لأنه في البرلمان الناجم عن انتخابات عام 1996 لم تكن لنساء اليابان إلا 23 مقعدا، أو 4 بالمئة من مقاعد البرلمان بعد أن كانت النسبة في السبعينات والثمانينات تتراوح ما بين 1 و 2 بالمئة فقط.
على أنه من المبالغة القول بأن ما حدث من تغيير لجهة حظوظ المرأة الانتخابية في اليابان هو نتيجة جهود الديمقراطيين اليوم أو الليبراليين الأحرار بالأمس. فالحقيقة هي أن المرأة اليابانية فرضت نفسها على الأحزاب بقوة حضورها في المجتمع، فصارت رقما مهما لا يمكن لأي حزب أن يهمله أو يستهين به. إلى ذلك قامت منظمات المجتمع المدني اليابانية – خصوصا تلك التي للمرأة فيها حضور بارز – منذ أوائل التسعينات بحملات منظمة تحت شعارات مثل “المزيد من النساء إلى البرلمان” من اجل تبني نظام الكوتا النسائية، ثم من أجل نيل كوتا بنسبة 30 بالمئة من عدد مقاعد مجلس النواب. كما قامت تلك المنظمات بمساعدة الأحزاب السياسية في تسمية وتدريب وتعليم المترشحات على قوائمها، وذلك من خلال القيام بعمل تطوعي داعم.
وطبقا لليابانية “ماريكو ميتسوي” الباحثة في قضايا المرأة والسياسة في اليابان، وجدت اليابانيات أن تلك الجهود غالبا ما تصطدم برعونة وهيمنة ذوي المال والنفوذ من عواجيز السياسة اليابانية، فقررن البدء بتشكيل منظماتهن الخاصة غير المرتبطة بالأحزاب السياسية والمنظمات الموجودة على الساحة، والعمل مبكرا وبنفس طويل من خلال المدارس والمعاهد والجامعات لإعداد كوكبة من النساء القادرات على ترجمة أحلام اليابانيات في الاضطلاع بدور أكبر في الحياة العامة.
وتضيف الباحثة قائلة أن أكبر العقبات التي واجهت عمل تلك المنظمات كان عدم وجود أموال كافية للإنفاق على الأهداف المتوخاة، الأمر الذي لم يتغير إلا في عام 1998 حينما مد عضو مجلس المستشارين السابق “تاماكو ناكانيشي” يد المساعدة من خلال وقوفه شخصيا وراء تأسيس ما عرف بصندوق التضامن النسائي. وبفضل أموال الصندوق ودعم ناكانيشي، عقدت تحالفات ونظمت مهرجانات ومسيرات تصدرتها شعارات جذابة مثل “لا ديمقراطية حقيقية دون منح المرأة نصيبها في سلطة القرار والتشريع والمحاسبة”.
وتستطرد ميتسوي قائلة أن تلك الأنشطة المنظمة، معطوفة على شعور اليابانيات بأن العالم الخارجي ولاسيما الحليف الأمريكي يقف إلى جانبهن، علاوة على ما قدمه بعض الدول – مثل النرويج – من نصائح وخبرات مستقاة من تجارب نسائها في الوصول إلى السلطة التشريعية، كانت لها الدور الحاسم في ارتفاع نسبة النساء في البرلمان من 4 بالمئة إلى 6 بالمئة في انتخابات 2000. إذ كان مجموع من فزن في الانتخابات التي جرت في تلك السنة على مستوى المقاطعات والمدن والبلدات هو 2381 امرأة. هذا ناهيك عن أن مقاطعات لم تمثلها في الماضي أية امرأة في مجلس النواب – مثل أكيتا و نيغاتا و توياما و نغازاكي وتوكوشيما – صارت ممثلة بعد تلك الانتخابات بنساء.
ورغم كل ما أسردناه هنا، لا يزال بعض المراقبين مصرا على القول أن، اليابان بحاجة – على الأقل – لما حدث في كوريا الجنوبية، مضيفين أن مشكلة اليابان لا تقتصر على تخلفها على صعيد عدد المشرعات، وإنما أيضا على صعيد نسبة النساء المشتغلات في العمل الحزبي. ففي كوريا الجنوبية حدثت طفرة في نسبة المنخرطات في الأحزاب السياسية، من أقل من 1 بالمئة في السبعينات إلى مجرد 3 بالمئة في عام 1996 فإلى 13.7 بالمئة في عام 2008، وذلك كنتيجة لتطبيق قانون في العام 2000 قضى بضرورة أن تستحوذ النساء على 30 بالمئة على الأقل من قوائم التمثيل النسبي التي تخوض بها الأحزاب السياسية الانتخابات التشريعية. ذلك القانون الذي تم تعديله في عام 2005 لتصبح النسبة المذكورة 50 بالمئة بدلا من 30 بالمئة. أما في اليابان فقد كان الأمر مختلفا بحسب ما عكسته صورة البرلمان المنبثق عن انتخابات عام 2000 مثلا. حيث كان لليبراليين الأحرار في هذا البرلمان 225 نائبا مقابل 8 نائبات. وكان لحزب اليابان الديمقراطي 121 نائبا مقابل 6 نائبات. فيما كان للشيوعيين 16 نائبا مقابل 4 نائبات. وكان الوحيدون الذين شذوا عن القاعدة وقتها هم الاشتراكيون الذين كان لهم 9 نواب مقابل 10 نائبات.
في كتابها القيم “النشاط السياسي للنساء اليابانيات والكوريات بعد الحرب العالمية الثانية” تتعرض البروفسورة “يونغتاي شين” إلى شرح الأسباب والعقبات التي جعلت النساء في البلدين المتقدمين المذكورين متخلفات لجهة مشاركتهن في التشريع أو في صنع القرار السياسي، فتورد، من خلال قراءة تاريخية ممزوجة برؤية ثقافية متعمقة واستبيانات واستطلاعات للرأي، معطوفة على التحليل والمقارنة الدقيقة، أسبابا مثل التأخر النسبي في لحاق اليابان وكوريا بالأمم الصناعية الغربية، والحقبة الطويلة التي عاشتاها في ظل أنظمة عسكرية تروج للشعارات القومية وتخضع المرأة لأهدافها بحجة التنمية والوحدة الوطنية.
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
elmadani@batelco.com.bh