الوقت يتفوّق على الأثير بإنعدام ماديته. فهو لا يبعث ذبذبات، ولا يعصف بريح، ولا تفوح منه الروائح… الوقت تملكه او لا تملكه، تملكه ولا تملكه. كلما زاد شغفك به، تسلّل من بين اصابعك مثل البضاعة المطلوبة ذات العرض القليل. والوقت ملعون ومتلاعب لمن كان رقيباً عليه. ويصبح له معنى آخر لمن لا يحتاج اليه. أو بالاحرى لمن اعتقد بأنه لا يحتاج اليه. فيلجأ في هذه الحالة الى قتله: قتل الوقت، عندما يفيض الوقت، عندما تنتظر بفارغ الصبر، وتريد من الوقت ان يمرّ بأسرع مما يبدو عليه. تقتل الوقت، أي تقاوم الضجر وأثره، القاتل ايضا، بالتسلّي ضد هذا العدو الذي كان مطلوباً بشدة في أوقات اخرى. ولفضيلة الصبر حصة عالية مع الوقت. الصابر هو الذي يعرف كيف ينتظر، الذي يتحمل ضياع الوقت من أجل غرض أو أمنية أو خبر… أو من أجل شيء آخر. فلا يفعل غير الانتظار. لكن هناك من يتحرّك، ويملأ وقته بما لا يعرّضه لضجر الانتظار، ولجمود الانتظار، ومواته أحيانا. وأجندة من يملأون وقتهم عادة تكون أكثر جدية من مجرّد التسلية التي يبغيها قاتل وقته.
وفي وتيرة أخرى مختلفة، اذا وقعتَ على ما يحتاج الى وقت نوعي، وقت ممتع أو سعيد، أو الاثنين معاً، فسوف تحتاج الى أخذ وقتك: أي وقت إضافي، وقت مقتطع من الاوقات. انك سوف تتحرّر من أسر الأوقات الاخرى غير الممتعة، تقلّص من رصيدها، تتذوّق لحظات ممتعة، تمدّها الى الحدود التي بوسع خيالك ان يصنعها؛ فتتحايل على الوقت بعد أخذ قسط وافر منه، لتكون متعتك أطول من الوقت المتعارف عليه. لحظات اطول من أيام… الأرجح ان السعادة تكْمن في هذه الخلْطة السرية التي تحول الوقت الى صديق أو حليف، حتى أجل مسمّى طبعاً. اذ لا حاجة للتذكير في هذه الحالة بأن الوقت لا يبثّ ولا يعصف ولا تفوح منه الروائح. وقد يداهم السعادة في عقر دارها، ويحوّلها الى مجرد أوهام، أو أحلام.
بعد ذلك، يبقى السباق مع الوقت؛ أو الوقت الذي نحاول امتلاكه أو السيطرة عليه من أجل تجنَب مصيبة أو كارثة، أو من أجل إنجاز مستعجل، أو إستحقاق. وفي كل الحالات، هذا السباق هو حرب مفتوحة مع الوقت: يكون حليفك في حال غلبته او نظّمته، وعدوك اللدود في حال انفلاته من بين يديك: فتقع المصيبة، أو يفشل المشروع أو لا يوفى الاستحقاق.
ما هو الوقت؟ انه القاعدة غير المادية لنظام حياتنا. لا تستطيع لمسه أو الاحاطة به. انه غير مادي، ولكنه ليس من عالم الغيب؛ بل هو حميم في إرتباطه بنا، ملتصق بنا، متدخّل دائم بأطوار حياتنا. يضبط يومياتنا وطقوسنا الدينية والزمنية وأعمارنا وتاريخ بلادنا. وهو في عصرنا هذا مصدر اساسي من مصادر امراضنا، الأكثر انتشاراً من بين بقية الامراض. انه «السترسْ» (stress). والمُصاب بالـ«سترسْ» هو شخص له علاقة إشكالية بالوقت، انه الشخص النموذجي لعصرنا الراهن. هو من لا يضيع وقته على الاطلاق، فيقوم بأشياء كثيرة ومفيدة، تحتاج الى تنظيم الوقت لإنجاز هذه الاشياء أو لتجعلها ممكنة التحقّق. وتنظيم الوقت هو تلاحق هذه الاشياء بعضها خلف بعض، بحيث لا يبقى وقت للتنفّس أو التأمل أو التمتّع أو التواصل… فتقع الاصابة. حالة اخرى، على النقيض: هو من ليس لديه الوقت الكافي للإنجاز أو البرنامج أو المشروع أو أية مهمة اخرى؛ ينقصه الوقت المطلوب. هو المقصّر أو الخائب، الذي يعزّ عليه الانجاز أو الحل…
والاثنان، الاول والثاني، محرومان من الوقت، لاهثان خلفه. والاثنان يفتقدان سلاماً روحياً، ومصابان بالـ«سترسْ»؛ مع ان الاول «ناجح» والثاني «فاشل». ولكن في الحالتين، نصيحة الطبيب هي دائما «الاسترخاء»، بالدواء المهدئ غالبا، أي عدم مواجهة الوقت بهذه الحدّة. وما الاجازات إلا إختراع العصر ضد أمراضه، المتأتية من تناقص الوقت، وتسارعه. ولا يبدو ان وتيرة الوقت هذا قابلة للتباطؤ. فمع هذا التسارع الذي وضعنا انفسنا في سكّته، نحن البشر، سوف يكون الوقت مستقبلا، أو بالأحرى أصبح، معضلة محورية من معضلاتنا الشائكة، موردا نادرا، مثل المياه او الأرز او الطحين.
هو نفسه هذا الوقت المديد والمتسارع في آن، الذي يسمح برصد أجياله: وقت الشباب ووقت الكهول مثلا. وقت الشباب مفتوح واعد وبريء. يقولون جمال الوجه في الصبا. ما يعني ذلك؟ ان الوقت لم يجتاح بعد هذا الوجه. أن يجتاح الوقت وجهاً، أن نقول بأن وقتاً طويلاً مرّ على هذا الوجه، يعني ان صاحبه خاض تجربته الوجودية الضرورية، ونقرأ طبيعتها على ملامح هذا الوجه. تجربة خاضها على امتداد وقت معين؛ وقتٌ، ليس متاحاً أيام الصبا، ولم يكن متكوّناً بعد… أثناءها. فالوجه هو الدليل الملموس على وجود الوقت، الحامل لذاكرة تراكمت صورها وقصصها عبر الوقت. لذلك، عندما تخضع الوجوه للشدّ التجميلي، فلا تُمحى منها التجاعيد فحسب، وهي من الآثار البديهية لمرور الوقت، بل تمحي أيضا ذاكرة هذا الوجه؛ أي عبور هذا الوجه للوقت. وجوه تكابر على الوقت، تحتجّ عليه، ولكنها لا تستطيع نفي وجوده. هل نحتاج الى تكملة المقارنة مع وقت الكهول؟ وقتٌ أغلق بنصف دائرة وباشر عملية إكمالها؟ جسم صاحبه بطيء وعقله مشغول به، عدوه المكلَّل، عدوه اليومي والصريح، وهو لا يفهم تباطؤه من تسارعه؛ أيقنًّن الوقت أم يبدّده؟
وقت الرجال ووقت النساء: وقت النساء متقطّع، مجزأ، متعدّد التغطيات والأبعاد، استحقاقاته صغيرة وانجازاته قصيرة المدى. نساء العصر مشغولات بأشياء اضافية متفاوتة، صارمات في الوقت، ومع ذلك مقصّرات دائما في التغلّب عليه. لذلك فهن مستعجلات باستمرار، معرّضات لـ«سترسْ» مختلف عن الرجال. هؤلاء بدورهم اصحاب وقت مفتوح مجرّد وشامل؛ وقت ذو بعد واحد، تختلط فيه الصرامة باللعب. استحقاقاته كبيرة وانجازاته بعيدة المدى. والجنسان يتقاسمان الوقت ويختلفان حول توزيعه. ومعظم الخناقات والطلاقات بين الازواج تدور حول التقاسم غير العادل للوقت بينهما.
لا نعرف بالضبط متى طلعت مقولة «الوقت من مال» أو «من ذهب» (time is money)، ولا متى سادت. فهي منتشرة ويعمل بقاعدتها كل من أراد الفاعلية والانجاز، وكان طبعاً يملك المال. عما تعبر هذه المقولة؟ من ان الوقت أغلى من المال؟ وبأي مال يدفع؟ وما هو سعر كل وقت؟ ومن اجل ماذا هذا الوقت؟ أليس من اجل كسب المزيد من المال؟ واذا بلغ المرء انجازه او هدفه في لحظة معينة من هذا السباق مع الوقت، أليس معرّضا لمواجهة المقولة وهي مقلوبة؟ أي ان المال هو الوقت؟ بمعنى ان يشتري بطاقة سفر الى جزيرة استرخاء، بعدما ربح الوقت، ومعها كل تكاليف الرحلة: ان يعود فيشتري وقتا، او يحجب يأسه العميق من قدرية الوقت، او يؤجل خيبته منه؛ وهي خيبة لن تلبث ان تعود في وقت من الاوقات، بعد إنتهاء فترة الاسترخاء، أو حتى اثناءها! اذ ليس من قانون، ولا وصفة، ولا طريقة للإفلات من مفارقات الوقت. انه مثل الموت، مصير حتمي، يحتاج الى لغة اخرى، الى وقت آخر، لتفكيك مفارقاته وألغازه وإنعدام ماديته.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية-بيروت