. ISHكنا نسميه إش
هكذا كنا نسميه.
وكان يكفي ان ننطق بحروفه حتى يتبدى لنا معناه.
، الحروف الأولى لمنزل الطلاب الدولي. ISHإش،
منزل قضيت فيه سنتين من عمري عندما إرتحلت إلى العاصمة الأمريكية واشنطن لدراسة الماجستير بفضل منحة فولبراليت أمريكية.
منذ وطأت قدمي عتبة باب منزل الطلاب الدولي أحسست أني وصلت اخيراً إلى بيتي. فتنفست. آه ما أجمل الهواء عندما يكون نقياً.
أليس ذلك غريباً؟
طوال عمري، وفي كل مكان عشت فيه، كنت أشعر أني غريبة.
طوال عمري. حتى في وطني الأول اليمن، كنت أشعر أني غريبة وغيري كان يصفني بالغريبة.
ثم أصل إلى بيتٍ كله غرباء فأشعر أني عثرت على ضالتي!
أبي كما تعرفان كان دبلوماسياً. ولذلك كنا ننتقل من بلدٍ إلى أخر، ونعود إلى اليمن لفترة سنتين.
في كل بلد ذهبت إليه كنت شيئاً أخر لغيري. نبتة غريبة تُزرع في أرض بعيدة، تطل برأسها من بين أوراقها وزهورها، تتأمل ما حولها، تبتسم، قبل أن تخلع جذورها، لترحل إلى أرض جديدة، ثم تندس في تربته … إلى حين.
وكان لي هوية وإسم جديد في كل مكان.
في اليمن كانوا يعتبروني نصف نصف. يمنية… إلى حدٍ.
وعندما عملت في جامعة صنعاء لثلاث سنوات بلغني أنهم كانوا يسموني المصرية الطويلة. فكنت ابتسم.
غيري يخجل من إختلاط دمه. أما أنا فأفخر به.
في مصر، حيث وُلدت، وتجري في دمي دماءاً مصرية، كنت لغيري يمنية إلى حدٍ. لهجتي مصرية إلى حدٍ، ولذلك كان السؤال دائما يتبدى في أعين محدثي عندما اقول “بل يمنية”.
في إلمانيا حيث عشت طفولتي المبكرة، ظننت لفترة أني ألمانية. ولم اكتشف أني غير ذلك إلا عندما إرتحلت من جديد وكففت عن النطق بالإلمانية. فكان إنكشافاً عن مستقبلِ هوياتٍ متداخلة.
في إيران حيث عشت ثلاث سنوات كنت “العربية” في مقابل “الفارسية”. ونطقت رغم ذلك بالفارسية كي العب مع أترابي في حينا. أما أبي، إستاذي، فكان لا يكل حينها عن الغناء لي وأخي”أنا يمني، فأسأل التاريخ عني أنا يمني”. وأظن ان الدموع تسيل اليوم على وجنتيه لو سمعني اغنيها معه من جديد.
آه ياأبي. هل ستغنيها لي من جديد اليوم ؟ ثم هل ستصدق ما تقوله فعلاً؟
في المغرب حيث عشت لأول مرة في حياتي في بلد أربع سنوات متصلة كنت “مشرقية” لا “مغاربية”. وفي كل مرة كنت اتحدث فيها مع شخص مغربي يُغير محدثي او محدثتي من لهجته المغربية الدارجة إلى العربية الفصحى.ولم يُجدِ كثيراً تأكيدي أني افهم الدارجة، لكنها كانت دوماً لفتة كريمة من قِبلهما.
هناك درست في مدرسة عراقية، طلابها من ابناء وبنات الجالية العربية الدبلوماسية في المغرب. ورغم أني تعلمت دوما (ماعدا في اليمن) في مدارس مختلطة، إلا أني هناك تحديداً تعلمت ان الفتاة يمكن ان تكون وحدها في مجتمعٍ كله ذكور، ولن يضيرها. بل تقف شامخة وعيناها تلمعان. كنت الفتاة الوحيدة في الفصل بين 11 طالباً في السنة الأولى من الأعدادية .
وهناك تعلمت ايضاً أن الصداقة ممكنة بين فتاة وشاب. ولازلت اذكر صديقاي السعودي عبدالله بيومي والعراقي سعد معاذ بالمحبة والخير. تماماً كما تعلمت انه ليس هناك شيء إسطوري او خارق في الرجال. هم من نفس الطينة. وكنت اعرف ذلك من منزلنا، لكنه تأكد واقعاً ملموساً بالتجربة.
في الكويت، حيث درست البكالوريوس، وعشت للمرة الثانية اربع سنوات متصلة، كنت نصف نصف، نصف يمنية نصف مصرية. ثم اصبحت في زيارتي الميدانية التي قمت بها عام 2008 سويسرية. عربية لكن سويسرية. وحبذا لو تجاهلنا الموقف اليمني خلال إحتلال العراق للكويت.
وفي الولايات المتحدة كنت “غريبة ساحرة”، من بلد يغوص في التاريخ، يبحث محدثي عن موقعه على خارطة العالم ولايستطيع. وكان يمكنني ان اكذب واقول إنها مدينة امريكية تقع جنوب كاليفورنيا، وكان المسكين سيصدق. لكني اكره الكذب.
واليوم سيصعب إبتلاع الكذبة خاصة وأننا اصبحنا مصدّرين لبضاعة رعب، إسمها الإرهاب، ويسميها شيوخنا الجهاد.
في سويسرا، كنت يمنية، ثم تحولت بفعل قادر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية إلى “المسلمة”، واليوم بعد خمسة عشر عاماً متصلة من الحياة فيها يعتبرني البعض هنا “سويسرية مسلمة”.
وأنا سويسرية أيضاً.. إلى حد.
*
غريبة كنت. أبحث عن مكان أسميه وطن، وكيان أسميه هوية.
كطائر تائه يبحث عبثاً عن سربه.
إلى أن دخلت باحة ذلك السكن الطلابي. إش. إنترناشونال ستيودنت هاوس. هناك احسست أني اتنفس من جديد. ولم اعرف مكاناً سواه أحسست فيه أني جزء منه كذلك البيت. كنت صاحبة البيت منذ دخلته. ولم أكن غريبة البتة.
اليس ذلك عجيباً؟
بيت يضم 82 طالبة وطالباً ينتمون إلى 33 دولة من قارات العالم الستة، ويمثلون كل أديان العالم.
بيت هو الكرة الأرضية بأسرها بالبشر الذي فيه.
وأحببته كما لم أحب وطناً من قبل. وكان وطني. إلى يومنا هذا.
في إش كنا جميعاً غرباء. كل ينتمي إلى دولة ودين ولون وعرق. ولاننا كلنا كنا أجانب فإن حصيلة جمعنا كانت ياللعجب هوية الإنسان لاغير.
كنا إنسان أولاً. الهوية كانت إنسان.
هكذا كنا نتعامل مع بعضنا البعض. وكنا في إختلافنا وتنوعنا متساوون.
ولم يهم كثيراً من أي بلد جئنا، أي دين، او لون جلدنا. كان المهم في علاقتنا “كيف نتعامل مع غيرنا”. “عامل غيرك كما تُحب ان ُتعامل”، لم أعرف افضل من هذه القاعدة في التعامل مع من حولي.
الإختلافات الثقافية والسياسية التي فرقتنا في العالم الخارجي حملناها معنا بكل تأكيد إلى هذا السكن الطلابي، ومعها الخوف والتحفظ. لكننا تعلمنا مع الوقت كيف نتغلب على اللحظة الأولى من التردد ثم ننظر إلى ما بعد خوفنا. وكثيراً ما كنا نندهش من الحب والخير الذي في الإنسان.
في إش تعرفت على أول صديقة يهودية لي. سيلفيا من بيرو. شعلة من الحياة. أحتفظ في درجي بقلادتها… قلادة بسيطة محفور عليها كلمات قصيرة: “ليس هناك أفضل من صديق عزيز”.
صديقتي وأحبها.
وفي إش إلتقيت بصديقين وفيين، عاشا كما أنا بدويين عالميين، رامين الأمريكي من أصل إيراني، وماركوس الألماني، وكلاهما يعرفان ما تعنيه الهويات المتعددة.
وفي إش تعرفت على زوجي توماس، وأبو ابنتي سلمى. وأذكر كيف نظرت إلى يديه أول مرة إلتقينا فيها. يالله كم أحببت يديك.
ثم رفعت عيني إلى وجهه، تأملته قليلاً، وأدركت لحظتها أنه سيكون نصيبي. هناك من يؤمن بالحب من أول لحظة. أما أنا فأؤمن بالثقة من أول نظرة. وثقت به، وكان كما توقعت.
في إش إكتشفت أني كنت غريبة لأني في قرارة نفسي لم أتمكن من الإنتماء إلى مكان واحد. كنت شجرة تخلع جذورها ولا تتعب من تربها الجديدة.
كل الدول التي عشت فيها اوطاني… إلى حين. تأتي لحظة، فأحلق بجناحي وارتحل إلى مكان جديد. فكنت دوماً شيء ما إلا قليلاً.و لذا لم اشعر بالإكتمال إلا عندما فهمت من أنا.
بدوية تؤمن أن العالم بأسره وطناً لخت. وتتخذ من الإنسان هوية.
اليس هذا كافيا؟
الوطن لذلك كان دوماً في داخلي.
غيري يمكنه ان يسميني كما يشاء، لكني أنا من يحدد من أكون. وأنا هو أنا. وهذا يكفي. الوطن في داخلي. وهذا الوطن اسميه انسانيتي. ولذا لن تعني الحدود الجغرافية شيئا بالنسبة لي، ففي كل مكان ذهبت إليه تعرفت على الإنسان فيه، ولم يهم كثيرا من يكون، لونه، عرقه، دينه. في النهاية كان دوماً إنسان. وكانت إنسانيته إكتشافي ثم كنزي.
إش هو العالم كما يجب أن يكون.
العالم كما يجب ان يكون.
وللحديث بقية.
* كاتبة يمنية – سويسرا
الهوية إنسان 12 (ب) (جاك لاكان) هو عالم نفس (تجريبي) اكثر منه “فرنسي” , والعلوم التجريبية (عربية – اسلامية) : (انا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) … (René Descartes رينيه ديكارت) مثقف فرنسي , فاللغة الفرنسية عاجزة عن انتاج (فكر) او (فلسفة) , لكن الثقافة الفرنسية مقتدرة وقادرة على (ادعاء) الاثنين .. جاءنا هذا الديكارت ب “انا افكر , اذن انا موجود I Think Therefore I Exist” .. ونسخها (لاكان) في (أنا افكر اذن انا ((غير)) موجود) .. فالفكر والوجود بالله ولله , لعلكم تبصرون. ما اوردتيه في مجال المشاهدة (يعول عليه) : فالثقافة الامريكية تعترف بكينونة الآخر , سواء اذا… قراءة المزيد ..