“الشفّاف”- بيروت
لا يجوز تحميل ما ورد على لسان النائب وليد جنبلاط في شريط فيديو مصور على هاتف خليوي خلال مجلس خاص مع مشايخ الطائفة الدرزية في منزل الشيخ محمد جواد ولي الدين أكثر مما يحتمل. خصوصا بعد وصف النائب جنبلاط الشريط المسرّب عن لسانه بالكلام المجتزأ والإساءة المهينة وغير المقصودة، وبالتالي التوضيحات التي قدمها، وهي ضرورية، كافية لإقفال هذا الملف.
ولا يجوز في المقابل تناول كلام جنبلاط من دون وضعه في إطاره الصحيح، بمعنى حصوله في مجلس خاص، و”المجالس بالأمانات”. وهذه المجالس نفسها، إنما بصيغتها المسيحية، حاولت في انقلاب السابع من أيار النأي بنفسها عن هذه الأحداث انطلاقا من مقولة بأن هذه الحرب “إسلام بإسلام ولا دخل لنا بها”، وكأن غزوة الحزب تجري في بلد آخر ولا انعكاس لها على سائر المناطق اللبنانية وكل اللبنانيين، وخصوصا أن انتصار حزب الله يعني بكل بساطة نهاية لبنان.
وفي المجال نفسه، أي في المجالس الخاصة المسيحية ذاتها، لا تخرج اللغة السياسية المعتمدة عن السياق النقدي والاعتراضي على التوجه والممارسة الحريرية-الجنبلاطية بخلفية استقطابية لشرائح مسيحية تقف على مسافة بين 8 و14 آذار، بخلاف التيار العوني الذي تحوّل من أسفل القاعدة إلى أعلى الهرم مدافعا عن سياسة حزب الله، على رغم أن توجه الحزب يتعارض مع ثوابت المسيحيين التاريخية، بينما توجه كل من المستقبل والتقدمي يتكامل مع هذه الثوابت من خلال دفاعهما المستميت عن السيادة ودفعهما باتجاه تعزيز حضور الدولة في لبنان.
وليس بعيدا عن ذلك، لا يفترض تقليل أو تجاهل الهاجس الأمني الذي ولدته أحداث أيار لدى النائب وليد جنبلاط الذي يسعى جاهدا في مواقفه وسلوكه إلى تفادي تكرارها. وقد نختلف مع الزعيم الدرزي في تقويمه لهذه الأحداث ومقاربته لعدم تكرارها، لأن أخطر ما فيها هو الخضوع لابتزاز حزب الله الذي يحاول وضع اللبنانيين أمام معادلة مستحيلة: بين سلم أهلي بشروطه، أو حرب أهلية بفعله. وهذا الابتزاز عينه الذي مارسته سوريا في لبنان على قاعدة الفصل بين الطوائف، والفصل داخل الطوائف، لإدامة وصايتها على بلاد الأرز، وهو ما يريد حزب الله اعتماده ظنا منه أنه لا يمكنه أن يحكم لبنان إلا على الطريقة السورية.
أما التباين مع الزعيم الدرزي فناجم عن أن أهمية أحداث أيار، على رغم مأساويتها، تكمن في إظهارها استحالة مشروع حزب الله وبالتالي استحالة تكرار غزوته. ولكن هذا لا يعفي في المقابل السنّة والمسيحيين من مسؤوليتهما على مساعدة النائب جنبلاط للخروج من معادلة الحزب التهويلية وليس تحميله أكثر مما يحتمل إن على المستوى السياسي باعتماد خطاب تعبوي ضد حزب الله أو من الزاوية الإجرائية بضم مرشحين إلى لوائحه لا طاقة له على استيعابها. علما أن المعركة النيابية مسيحية بامتياز وليس مطلوبا من تيار المستقبل والحزب التقدمي سوى توفير المناخات السياسية المواتية والتنازل عن مواقع نيابية مسيحية داخل دوائر نفوذهما لمصلحة مسيحيي 14 آذار من أجل إفقاد ميشال عون إمكان استخدام أو توظيف ما يسمى استئثار قوى إسلامية بالمقاعد المسيحية. وهذا ما قاما بالفعل به، لو استثنينا الشريط المسرب الذي تسبب بإحراجات انتهت مفاعيلها مع انتهاء المؤتمر الصحافي لجنبلاط.
وإذ كان ما حصل قد أساء إلى الموارنة، وهذا ما حرص جنبلاط على توضيحه وتبديده، ومرده إلى ظروف موضوعية وأخرى ذاتية، فمن غير المسموح أن تطيح كلمة واحدة أو هفوة مسارا سياديا طويلا للنائب جنبلاط بدأ عشية انتخابات العام 2000 وما زال مستمرا إلى اليوم. وهذا المسار تحديدا، من مصالحة الجبل في شهر آب من العام 2001 ومحاولاته التقريب والتوفيق بين تيار المستقبل وقرنة شهوان إلى مواقفه السياسية التي ساهمت بفك عقدة الألسن وكسر هيبة النظام السوري ومن ثم هيبة أمين عام حزب الله، وبالتالي هذا المسار هو الذي أسس لانتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005 وأدى إلى توحد النظرة المسيحية-الإسلامية إلى لبنان دورا ومستقبلا وفتح الطريق أمام خروج الجيش السوري من لبنان.
ولكن يبدو أن هدف بعض اللبنانيين الاستمرار بالدفع باتجاه الفصل بين الجماعات اللبنانية، والعمل على نبش ملفات الحرب وإحياء مناخات الفتنة من أجل إظهار عجز اللبنانيين عن حكم نفسهم بنفسهم تبريرا لحمايات خارجية مشبوهة تبقي الدولة معلقة والوطن ساحة مستباحة لسوريا وإيران. فالمطلوب بالنسبة إلى هذا البعض توظيف ما قاله النائب جنبلاط لضرب “وحدة الجبل” وعودة النعرة المسيحية-الدرزية.
ولعل العبرة التي يمكن استخلاصها من الفترة التي أعقبت انتفاضة الاستقلال أن وحدة الأهداف الوطنية التي تجمع ما بين مكوّنات هذه الانتفاضة وفرت المناعة الكافية حفاظا على ما تحقق من انجازات ولكنها لم تستطع تجاوز البعد الطائفي الذي يحكم العلاقة بين الجماعات اللبنانية لصالح المعيار الوطني-السياسي، بينما كان يفترض أن تشكل وحدة الأهداف النقلة المنشودة من منطق التوازنات الطائفية باتجاه الدولة اللبنانية.
وما حصل في مصالحة الجبل، على أهميته، كان يفترض بالقوى السياسية المعنية أن تقوم، بعد الانسحاب السوري من لبنان، بإجراء مقاربة جدية وعقلانية للعلاقة الدرزية-المسيحية بعيدا عن منطق التخوين أو المزايدات السياسية، بغية معالجة عقدة الخوف المزمنة والمبررة وترسيخ العيش المشترك الدرزي-المسيحي في النفوس وتثبيته على أرض الواقع بشكل نهائي.
فالمسألة اللبنانية التي برزت في القرن العشرين بعد انهيار السلطنة العثمانية هي استمرار ونتيجة حتمية وطبيعية لمسألة جبل لبنان التي طرحت في القرن التاسع عشر على أثر أحداث 1841 و1860، والناتجة من مطالبة المسيحيين بتطوير الصيغة التعاقدية في “بلاد الشوف” من نظام التعايش الاجتماعي القائم على مبدأ التسليم بسلطة الأعيان الدروز وتلبيية الحاجات المتبادلة بين الموّحدين الساعين إلى تثبيت المزارعين الموارنة في أرضهم بغية زيادة مداخيلهم وبين أتباع مارون الساعين إلى ممارسة شعائرهم الدينية وبناء كنائسهم وأديارهم خلافا لما كان عليه الحال في سائر أنحاء السلطنة العثمانية والذي كان في أساس النزوح إلى بلاد الشوف حيث توفر المدى الاقتصادي الآمن…
تطوير الصيغة التعاقدية إذا من نظام التعايش الاجتماعي إلى نظام التعايش السياسي القائم على مبدأ التعددية والمشاركة في السلطة استنادا إلى التحولات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعقارية التي بدأت مع الإمارة المعنية ومن ثم الشهابية، ودفعت المسيحيين في القرن التاسع عشر إلى المطالبة بالشراكة في القرار السياسي، ودفعت الدروز بالمقابل إلى العمل على “إرجاع القديم إلى قدمه”.
إن ما وصل إليه الدروز في جبل لبنان الجنوبي في منتصف القرن التاسع عشر نتيجة التحولات البنيوية المسيحية التي أخذت مداها باتجاها السلطة، وصل إليه المسيحيون في منتصف القرن العشرين نتيجة التحولات البنيوية الإسلامية التي أخذت أيضا مداها باتجاه السلطة. مما دفعهم إلى البحث عن ضمانات جديدة تجنبهم التهديد الذي يشكله قانون العددية، وهذه الضمانات ما هي إلا وقف العمل بالديمقراطية العددية التي تعاملوا على أساسها مع الدروز في القرن الذي سبق تعاملهم مع السنة مطلع عهد الاستقلال الأول، واعتماد الديمقراطية التوافقية التي تفترض التوافق السياسي خاصة في القضايا الأساسية والمصيرية بمعزل عن الميزان الديمغرافي وإمكانية تطوره في هذا الاتجاه أو ذاك.
إلا أن تحويل حزب الله الديمقراطية التوافقية إلى ديمقراطية تعطيلية من أجل بناء دويلته وتعزيز مشروعه الإقليمي، دفع المسيحيين مجددا إلى التفكير عن البدائل الممكنة. فوجد قسم منهم أن لا حل للمسألة اللبنانية خارج إطار اللامركزية السياسية، بينما اعتبر قسم آخر أن الحل الوحيد خصوصا بعد توحد النظرة المسيحية-الإسلامية إلى لبنان دورا ومستقبلا هو في الدولة المدنية التي لا تستفز أو تنفر المسلمين على غرار الفيدرالية وتفسح في المجال بتجاوز المعطى الطائفي باتجاه المواطنية، سيما أن الحلول الطائفية أثبتت فشلها وعدم قدرتها على توفير الاستقرار السياسي بدليل إبقاء الوضع اللبناني معلقا بين حروب ساخنة حينا وباردة أحيانا اخرى.
لا شك أن الدافع الرئيسي وراء تبني المسيحيين هذه الصيغة السياسية أو تلك في هذا الظرف السياسي أو ذاك نابع من تمسكهم بالحرية على أنواعها ورفضهم الخضوع إلى هيمنة مجموعات أخرى ذات أكثرية عددية. ولكن ما ينطبق عليهم يجب أن ينسحب على غيرهم، بمعنى امتناعهم اللجوء إلى أي طغيان سياسي-عددي إذا ما أتيح لهم ذلك، وهذا “الطغيان” غير ممكن التحقق إلا في البيئة المسيحية-الدرزية حيث أن النمو الديمغرافي هو لصالح المسيحيين وليس الدروز وبالتالي سيبقى التوازن الديمغرافي مختلا لصالحهم.
أما القول بأن الهدف ليس الهيمنة إنما “الدستور أعطانا 64 نائبا ونريد 64 نائبا”، فهذه الصرخة أطلقها البطريرك الماروني في لحظة غضب عشية الانسحاب السوري وإقرار قانون العام 2000 ولم يتمسك بها، لكي لا نقول تراجع عنها، بدليل عدم إثارته لها مجددا، ولا بل قام بتخطيها متجاوزا الديمقراطية التوافقية إلى التركيز على ديمقراطية الأكثرية والأقلية المعمول بها في أرقى النظم والدول الديمقراطية حسب قوله.
إن المطالبة باختيار المسيحيين لنوابهم يعني العودة بالبلاد إلى زمن الانقسام الطائفي وهذه المسألة ليست لصالح المسيحيين على الإطلاق في ظل رجحان كفة المسلمين على حسابهم نتيجة تراجع حضورهم وقدرتهم ودورهم. وبالتالي يقتضى بالمسيحيين أن يكونوا في طليعة المشروع السياسي بغية إبقاء قواعد الصراع على المستوى السياسي لا الطائفي واستكمال مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة الضامنة لوجودهم ووجود غيرهم من الطوائف والكفيلة وحدها تحرير الجميع من “عقدة الخوف من الآخر”.
التساوي بين المسيحيين والمسلمين أمر ثابت في الدستور، بينما اختيار كل طائفة لنوابها مناقض لاتفاق الطائف. ولكن لو سلمنا جدلا بتنازل النائب وليد جنبلاط عن حصته المسيحية وحصر اختياره بالمرشحين الدروز قبل تحقق النقلة المطلوبة بالنظام السياسي اللبناني، ما الضمانة التي تحول دون هيمنة المسيحيين على القرار السياسي الدرزي والاشتراط على جنبلاط نفسه مستقبلا بترشيح هذا وإبعاد ذاك؟ كما أن المطالبة بالشراكة في التسمية، أي تسمية النواب المسيحيين على لوائح جنبلاط، تفترض بأصحابها امتلاك القوة الكافية التي تجعل من التحالف معهم حاجة لإرساء معادلات حقيقية على الأرض. وعلى رغم من ذلك، التمثيل النيابي السياسي المسيحي في جبل لبنان الجنوبي اليوم هو على أفضل وجه، ويكاد يكون نوعا من نصاب سياسي كامل، وهو تمثيل لأحزاب ما كان يسمى “الجبهة اللبنانية”.
يجب أن تكون معادلة “الجبل” بالنسبة إلى المسيحيين باتت واضحة: إما إبقاء أزمة الثقة بينهم وبين الدروز إلى ما شاء الله مع كل ما يستتبع ذلك من عدم اسقرار وعودة مجتزأة…، وإما إقفال صفحة الماضي نهائيا وفتح صفحة جديدة من التعاون والثقة المتبادلة تردم الهوة التاريخية بين المسيحيين والدروز وترسخ العيش المشترك وتدفع قدما باتجاه قيام دولة ديمقراطية تضع حدا لصراعات الطوائف وأحزابها.
الحديث عن المسيحيين والدروز لا يعني العودة إلى منطق الثنائيات المرفوض رفضا باتا، إنما إقفال ملف ساخن ومفتوح منذ أكثر من قرن ونصف القرن على طريق المصالحة الحقيقية، خصوصا أن ما تحقق في انتفاضة الاستقلال من وحدة أهداف وتطلعات ردم هوة كبرى في هذا المجال يبقى حسن المواكبة لمطابقة الأفعال على الأرض بالنوايا التحديثية. ومن شروط المواكبة مزيد من الترييح، خصوصا أن الدروز هم الطائفة الوحيدة عمليا التي دورها أكبر بكثير من حجمها وتفتقد إلى المدى الجغرافي الحيوي الذي يمنحها الأمان والاطمئنان، حيث أن النفوذ السياسي للموحدين الدروز لا يتجاوز مساحة جبل لبنان الجنوبي التي هي بالأساس مشتركة خلافا للطوائف الأخرى التي تتحرك ضمن بيئات مختلطة وصافية في آن. وما ينطبق على المسيحيين والسنة والشيعة يجب أن ينسحب على الدروز، بمعنى ترييحهم سياسيا من خلال جعل الأولوية في جبل لبنان الجنوبي للموحّدين الدروز بغية تبديد الهواجس التاريخية المشروعة وتثبيت الاستقرار في بلاد الشوف وتهيئة المناخات الوطنية المطلوبة التي تفسح في المجال أمام تطوير الصيغة السياسية باتجاه الدولة المدنية.
charlesjabbour@hotmail.com