بداية كان الإنسان واحداً. أما اليوم في زمن العولمة والتكور الإنساني فهو واحد ومتعدد في آنٍ معاً، غني بثقافات القارات الخمس، ومضطر الى اختراع قواعد تنسجم مع هذه التعددية. وإذا كانت هذه المهمة ضرورة كونية، إلاّ أنها تكتسب كل أهميتها في المشرق أرض الأساطير وتلاقي الآلهة وصراعها.
وبما أنه ليس ثمة دين تأسس على إفناء الناس وإلغاء تميزهم، يتوجب البحث في كل حضارة ودين عن تعبيرات مثال أعلى مشترك، وعن تطبيق مقولة احترام التنوع ضمن الوحدة لأنها من صلب هذه الإنسانية.
هذا التقديم يفرض نفسه عشية ذكرى ميلاد السيد المسيح القائل: “أعرفوا والحق يحرركم” (يوحنا 8: 32). وهذا الصوت الصارخ في البرية يتلاقى صداه مع تعاليم الإسلام في تحريم قتل النفس، والتعارف بين الشعوب والأعراق.
والأهم اليوم أن يتذكر أبناء المشرق في لحظة احتدام النزاع في سوريا، وبناء على تراكم تاريخي من المحطات المجيدة والحقب المأساوية، أن هذا الشرق هو لكل أبنائه وأنه لا يمكن أن يكون أحادياً تسوده الظلامية والتسلط.
منذ آذارـ مارس من هذا العام، أعادت روسيا الجديدة المسألة الشرقية إلى الواجهة بحلة جديدة عندما صرح وزير الخارجية سيرغي لافروف، بأن” الخوف هو في وجود نظام سنّي بديل للحكم في سوريا” وقال بالنص: “إن الصراع يدور في المنطقة كلها، وإذا سقط النظام الحالي في سوريا، فستنبثق رغبة قوية وتمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سنّي في سوريا، ولا تراودني أي شكوك بهذا الصدد. ويقلقنا في هذا الوضع مصير المسيحيّين، وهناك أقليات أخرى كالأكراد والعلويين وكذلك الدروز”.
وفي متابعة لنفس النهج في التفكير الأقلوي عند الشيوعيين القدامى، قال لافروف في تصريح لصحيفة “روسيسكايا غازيتا” نشر يوم الاثنين 22 اكتوبر/تشرين الاول أنّ “بشار الاسد يعد شخصية تضمن أمن الأقليات التي تقطن سوريا، بما في ذلك المسيحيون. (…) ندعو إلى عدم السماح بأن تتحول سوريا الى دولة لا يمكن للأقليات ان تعيش فيها”.
وهذا المنطق حدا بالكثير من أطراف المعارضة السورية للرد بالآتي: “نقول للسيد لافروف إنه في سوريا الحرة الديموقراطية لن يكون هناك أقلية أو أكثرية إلا بالمعنى السياسي، الجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون”. وبالطبع في هذا الكلام الكثير من التفاؤل إذا لاحظنا تطور الأنظمة السياسية العربية او مصاعب المرحلة الانتقالية في مصر مثلاً، ناهيك عن انعكاسات صعود التطرف والحركات التكفيرية.
إذا كان من المهم التركيز على أنّ المواطنة (وليس التجاذب بين الإسلاميين والقوى الأخرى) هي الوصفة السحرية لنجاح الانتقال إلى دول القانون (يفضل بعض القانونيين عبارة دول الحق) وإلى أنظمة تمثيلية من دون تمييز أو غلبة، لكن يستحسن لفت النظر إلى أن المكون العربي السنّي في سوريا هو الذي يتعرض للقسط الأوفر من القمع. وهذا لا يعني إجازة رد الفعل الطائفي أو تبريره.
من نافل القول أن الاحتجاجات في سوريا بدأت سلمية ووطنية ومنذ فصولها الأولى بدأ سعي النظام لجرها إلى مستنقعَي الدم والطائفية، وذلك لبث الفرقة والكراهية وضرب أبناء المجتمع الواحد بعضهم ببعض.
وإذا قارنا بين ما يجري في سوريا وما جرى في لبنان إبان سنوات الجنون الدموي، يمكننا التشكيك بموضوعية تقرير منظمة الأمم المتحدة الأخير عن الطابع الطائفي للنزاع الدائر، لأنه على رغم بعض الثغرات والممارسات المسيئة والمدانة، حافظ الحراك الثوري على وطنية جامعة… ولا بد للنخب السورية من أن تتحمل المسئولية لصياغة خطاب يطمئن كل المكونات وخصوصاً المكوّن العلوي الذي يخشى مرحلة ما بعد الأسد، وينطبق ذلك على كل المكونات لجهة الإيمان بالتعددية وحق الاختلاف واحترام التنوع.
في سوريا هناك مشكلة خاصة بالكرد ولا بد من معالجتها بأسلوب يحفظ وحدة الأرض ويمنح هؤلاء المواطنين حقوقهم المهضومة بشكل مبتكر لا يخضع لديكتاتورية العدد ويتعامل مع هذه المسألة ببعد تاريخي لإنصاف ورثة صلاح الدين الأيوبي وابراهيم هنانو. ومن المنصف أيضا عدم نسيان دور المسيحيين الكبير في النهضة السورية.
ومن الأمثلة الحديثة رئيس الوزراء السابق فارس الخوري الذي تسلم منصب وزارة الأوقاف بالوكالة في بلد لم يكن قد أصيب بالفيروس الطائفي. ومن يذكر هؤلاء كيف يمكنه نسيان قامات تاريخية من وزن سلطان باشا الأطرش وسعدالله الجابري وصلاح العلي وغيرهم من صانعي تاريخ سوريا الحديث.
بالنسبة للقضية الكردية بالذات، يمكننا الإشارة إلى أن الجهوية او اللامركزية الواسعة (الحكومات المستقلة أو الحكم الذاتي) تمثل تصوراً يخدم إعادة بناء الدولة السورية في أبعاد ثلاثة:
– البعد التاريخي والثقافي، هو الذي يجعل من الجهة مكوناً من مكونات الهوية المشتركة، ويعتبر هويته الخاصة مصدرا لقوة الدولة وغناها، فهو بشكل من الأشكال استنساخ لمنطق جدلية وتكامل الكوني والخصوصي.
– البعد السياسي هو الذي يجعل من الجهة (المنطقة أو الإقليم) مدخلاً لإعادة النظر في البناء المؤسساتي للدولة ويجعل من توزيع الاختصاصات بين المركزي والمحلي أداة لإعادة بناء توازن جديد للسلطة السياسية ووسيلة لإشراك أوسع للنخب السياسية في تدبير الشأن العام.
– البعد الاقتصادي وهو الذي يضع الجهة في موقع الرافعة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.
لا يمكن إذن تصور سوريا من دون تنوعها وتفاعل مكوناتها، وهنا يحضر النموذج اللبناني التعددي الذي لا يمكن اختصاره بعثراته وعلاته، حيث أن أحد منظريه ميشال شيحا عرفه بأنه بلد “الأقليات المشتركة” و”ملاذ الحريات” والمهم في الحالة السورية، اقتباس ما هو ناجح في تجربة التسوية المتجددة للشراكة اللبنانية وتطويرها ليكون المواطن هو المحور وليس الكائن الطائفي بعيداً عن محاصصة مقيتة إن في لبنان أو العراق.
حتى لا تصبح المسألة السورية مسألة شرقية جديدة ومسرح لعبة أمم إقليمية ودولية مفتوحة تنفخ على نار التفرقة، لا بد من صياغة مشروع يقوم على أسس المواطنة أولا والوسطية في الدين إضافة إلى قيم الحرية والكرامة والمساواة والعدالة.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني- باريس
الجمهورية